بقلم: الدكتور / محمد محمد أبو شهبة
لقد كان رسول الله ﷺ خير زوج عرفته الدنيا في معاملة زوجاته، والعدل بينهن في النفقة، والكسوة، والسكنى، والبيتوتة، مع أنه ﷺ كان مخيرا في القسم بينهن في البيتوتة قال تعالى: ﴿تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا﴾ ومع هذا كان رسول الله يعدل بينهن في كل شيء مما هو داخل في الاختيار، والإمكان، حتى في الملاطفة والمؤانسة، مما هو ليس بداخل في القسم بينهن.
وقد خص الله عز شأنه، وعلت حكمته رسوله ﷺ بأن أباح له من الأزواج ما لم يبح لغيره، فقد تزوج إحدى عشرة زوجة دخل بهن، منهن اثنتان ماتتا في حياته ﷺ، وهما: السيدتان خديجة وزينب بنت عبد الله المعروفة بأم المساكين – رضي الله عنهما – وتوفي عن تسع، وهن: عائشة بنت الصديق، وسودة بنت زمعة، وحفصة بنت عمر، وأم سلمة بنت عبد الأسد، وزينب بنت جحش، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب النضيرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وكان له جاريتان تَسَرَّاهما: مارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم مصر، وريحانة بنت زيد اليهودية، وقد ماتت في حياته، رضي الله عنها.
وقد كان لهذا التعدد الذي أباحه الله لرسوله ﷺ حكم عالية، ومقاصد شريفة، وأسرار دقيقة، ولم يكن الباعث عليه إشباع الرغبة الجنسية، أو الهوى كما يزعم بعض أعداء الإسلام، ونبي الإسلام، كالمبشرين والمستشرقين، وأبواقهم المرددين لكلامهم، وحاشاه ﷺ من ذلك، وليس من قصدي الآن الإفاضة في ذلك فلذلك مقام آخر.
وإذا كان الإسلام جعل للمرأة حقوقا لم تكن تحلم بها، ورفع من شأنها، فقد حظي بالنصيب الأوفى من ذلك نساء النبي ﷺ، ولما أنكر الفاروق عمر على زوجته أن تراجعه في أمر، قالت له: عجبا لك يا ابن الخطاب!! أما تحب أن تراجع في شيء، وإن ابنتك لتراجع رسول الله ﷺ حتى يظل يومه غضبان، فذهب إلى ابنته يسألها، فإذا هي تؤكد له ذلك. (رواه البخاري ومسلم)، فهل هناك حق لهن أفضل من هذا؟
وكان كثيرا ما يوصي بالنساء خيرا، ويقول: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» رواه ابن ماجه، وفي حجة الوداع أوصى المسلمين بهن خيرًا، وكان آخر ما أوصى به قبيل الوفاة، الوصاة بالنساء، وما ملكت الأيمان، وهم الأرقاء.
بطولة نبوية:
وإن الإنسان ليعجب حقًّا كيف وفق النبي ﷺ بين هؤلاء التسع، وهن مختلفات في السن، والطبائع، والأخلاق، والمشارب، والقبائل؟! ولكن النبي ﷺ بسعة عقله، وقلبه، ورحابة صدره، وكرم أخلاقه أمكنه أن يحسن عشرتهن، ويعدل بينهن وأن يوفق بين رغباتهن، وأن يعشن عيشة الأخوات المتحابات، لا عيشة الضرائر المتشاحنات.
وإنها لبطولة حقًّا أن يكون عنده هذا العدد من الزوجات، ويقوم بأعباء الرسالة، وتكوين خير أمة أخرجت للناس، وأول دولة في الإسلام على خير ما تكون الدولة، إن الواحد منا تكون عنده الزوجة الواحدة والقلة من الأولاد، ومع هذا يكون في شغل شاغل، وفي حيرة من التوفيق بين حقوق زوجته، وأولاده وبين القيام بواجبات عمله على الوجه المطلوب!! ولكنه – كما قلت – النبي الذي وسع الناس جميعا بعقله، وقلبه، وصدره، وعطفه، وبره، وهن أيضا خيار نساء هذه الأمة الحريصات على رضاء الله ورسوله، ومع كونهن بهذه المنزلة فلم تخل معاشرتهن للنبي ﷺ من بعض المضايقات، والتحزبات والمؤامرات بسبب ما ركز في فطرة المرأة – مهما سمت – من الغيرة، وحب الاستئثار بالزوج، وعطفه، وبره.
«طلبهن التوسعة في النفقة»
فمن ذلك أنهن اجتمعن على النبي ﷺ، ورغبن إليه أن يوسع عليهن في النفقة، وأن يكون لهن ما لنساء الملوك والأمراء، وأصحاب الجاه والثراء، وكان النبي ﷺ قد أخذ نفسه، وأهله، وولده بالتقشف، والتقلل من طبيعات الحياة الدنيا، وزخارفها، وفرض على نفسه وعليهن لونا من ألوان المعيشة لا يتميز عن معيشة عامة الأمة إن لم يقل، لأنه هو ﷺ قدوة المسلمين جميعا أميرهم وسوقتهم، وغنيهم وفقيرهم، فإذا أسرف، وعاش عيشة البذخ والبطر، فماذا يكون حال الخلفاء والأمراء من بعده؟! وإذا أسرف وعاش عيشة الملوك أفلا يكون في هذا مبرر لمن يلي أمر المسلمين بعده؟ لقد كان هذا المعنى يردده الفاروق الملهم عمر – رضي الله تعالى عنه – إذا ما ليم على ما أخذ به نفسه وأهله من التقشف البالغ وهو خليفة المسلمين وقد فتحت الفتوحات العظيمة حتى فاض المال، وكثر الخير، وكان يقول في حق الرسول والصديق: «هما المرءان يقتدى بهما»!!
وإذا كان رسول الله هو محل القدوة والأسوة للأمة فلتكن نساؤه كذلك هن محل القدوة لنساء هذه الأمة!!
فلما اعتزل النبي نساءه شاع ذلك، وعظم الأمر على الصحابة ولا سيما وزيراه أبوبكر، وعمر – رضي الله عنهما – فذهب الصديق أبوبكر إلى المشربة التي اعتزل فيها رسول الله، فإذا الناس جلوس محزونون!! فاستأذن على رسول الله ﷺ فأذن له، ثم جاء الفاروق فاستأذن فأذن له، فوجدا النبي واجما ساكتا وحوله نساؤه، فقال أبوبكر: لأقولن شيئا أضحك به النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله لو رأيت بنتا حارجة – يريد زوجه – سألتني النفقة، فقمت إليها فوجات عنقها! فضحك رسول الله، وقال: (هن حولي يسألنني النفقة)!!
فقام أبوبكر، وعمر إلى ابنتيهما يزجرانهما، ويقولان: لا تسألن رسول الله ﷺ ما ليس عنده فقلن: والله لا نسأل رسول الله ﷺ شيئا أبدا ليس عنده، فلما مضت مدة الاعتزال أنزل الله أيتي التخيير قال عز شأنه: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ فبدأ رسول الله بعائشة وقال: «يا عائشة! إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه، حتى تستشيري أبويك» قالت: «وما هو يا رسول الله»؟! فتلا عليها الآيتين فقالت: (أفيك أستشير أبوي)؟! بل أختار الله ورسوله، والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت!! فأبى الرؤوف الرحيم، والمربي الحكيم، وقال: «لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا، وإنما بعثني معلما ميسرا»!! ثم خيرهن جميعا فكلهن اخترن الله ورسوله، رضي الله عنهن، وهذا هو الظن بهن، فلسن كأحد من النساء، وهن في الذروة من النساء دينًا، وخلقًا، وورعًا.
«حادثة أخرى» ومرة أخرى: ذلك أن رسول الله ﷺ إذا صلى العصر دار على نسائه يلاطفهن، ويؤانسهن بالمحادثة والمجالسة، وربما يطيل المكث عند بعضهن، فتأخذ الغيرة بنفوس البعض الآخر، فدخل ذات يوم عند السيدة زينب بنت جحش – رضي الله عنها – فمكث عندها، وشرب عسلا، فتواطأت عائشة وحفصة – رضي الله عنهما -: أن أيتنا دخل عليها رسول الله ﷺ فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير – جمع مغفور بضم الميم: وهو صمغ حلو له رائحة كريهة، وينضحه شجر يسمى: العربط بضم العين والفاء – وكان النبي ﷺ يكره الرائحة الخبيثة، فدخل على حفصة، فقالت له ذلك، فقال: (بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود إليه، وقد حلفت، فلا تخبري بذلك أحدا، رواه البخاري ومسلم ولكنها لم تف بما أوصاها به، وأخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها.
وفي رواية عند الإمام مسلم في صحيحه أن التي شرب عندها العسل حفصة وأن اللاتي تظاهرن عليه عائشة وسودة، وصفية، وأنه ﷺ لما أخبرهن بشرب العسل عند حفصة قالت كل واحدة منهن: جرست نحلة العرفط وأنه لما عرضت عليه حفصة أن تسقيه عسلا مرة أخرى امتنع وقال: (لا حاجة لي به) والأول هو الأصح، لأنه الأليق بسياق آية التحريم، ولما في الصحيحين عن عمر أن المتظاهرتين هما عائشة، وحفصة، وقد كانت هذه المؤامرة سببًا في اعتزال النبي ﷺ نساءه شهرا أيضا، وفي الصحيحين أن عمر لما أخبره جاره الأنصاري أن رسول الله ﷺ اعتزل نساءه قال: (رغم أنف حفصة، وعائشة) وذهب إلى عائشة فذكرها وحذرها، ثم ذهب إلى ابنته فوبخها وعنفها، وقال لها: (والله لقد علمت أن رسول الله ﷺ لا يحبك، ولولا أنا لطلقك) فبكت أشد البكاء.
ثم قصد إلى رسول الله في مشربة له يرقى إليها بدرج، وعلى الباب غلام اسمه: رباح، فقال، يا رباح استأذن لي على رسول الله، فلم يأت رباح بجواب، فوضع صوته، وقال: استأذن لي على رسول الله، فإني أظن أن رسول الله ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لو أمرني رسول الله ﷺ بضرب عنقها، لأضربن عنقها! فأشار إليه الغلام: أن أذن لك، فدخل على رسول الله، وما زال يلاطفه حتى تبسم، ثم نظر عمر، فوجد رسول الله على حصير قد أثر في جنبه، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وفيها قرظ مجموع، وأهب معلقة، وفرق من شعير فبكى، فقال رسول الله: (ما يبكيك يا عمر)؟! فذكر كسرى وقيصر، وما هما فيه، وما رأى في المشربة، فقال له: (يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟! أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) وهكذا تكون العظمة النفسية، وهكذا يكون الزهد: زهد القادر، لا زهد العاجز، وقد عرض عليه ربه أن يجعل له بطحاء مكة ذهبًا فأبى، فلما انقضى الشهر نزل رسول الله ﷺ فأنزل الله سبحانه – معاتبا نبيه عتابا رقيقا، ومخوفا، ومحذرًا نساءه أن يعاودن مثل هذا – قوله: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ..﴾ إلى قوله: ﴿عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبۡدِلَهُۥٓ أَزۡوَٰجًا خَيۡرٗا مِّنكُنَّ مُسۡلِمَٰتٖ مُّؤۡمِنَٰتٖ قَٰنِتَٰتٖ تَـٰٓئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَـٰٓئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبۡكَارٗا﴾ فكفر رسول الله ﷺ عن يمينه، وتاب نساؤه إلى الله ورسوله وكان عمر رضي الله عنه لما دخل على رسول الله فوجده مغضبا قال له: يا رسول الله ما يثق عليك من شأن النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته، وجبريل، وميكال، وأنا وأبوبكر، والمؤمنون معك.. فنزلت الآية على هذا، وعد هذا من موافقات سيدنا عمر رضي الله عنه وذكر النسائي، وابن جرير، وابن مردويه وغيرهم أن نزول صدر سورة التحريم كان بسبب تحريم السيدة مارية القبطية، ذلك أن حفصة كانت استأذنت رسول الله ﷺ: (أليست جاريتي أحلها الله لي)؟! ثم ترضاها بأنها حرام عليه، وبأن الصديق، وأباها يتوليان الخلافة بعده، وقال: (لا تخبري بذلك أحدا) فلما خرج رسول الله ﷺ قالت حفصة لعائشة: (ألا أبشرك أن رسول الله قد حرم أمته عليه، وقد أراحنا الله منها، وأخبرتها بما سيكون من شأن الخلافة، فلما علم رسول الله بما أفشته من سر غضب واعتزل نساءه شهرا، ثم أنزل الله قوله: (يأيها النبي..) الآيات.
والراجح ما في الصحيح، وأن ذلك كان بسبب تحريم العسل، وإن كان سياق الآيات أليق بمسألة تحريم مارية، ويمكن أن تكون الآيات قد نزلت بسبب تحريم العسل، وتحريم مارية، فقد يكون سبب النزول حادثتين أو أكثر كما هو مقرر في علم أسباب النزول.
هذه هي أهم الأحداث التي عكَّرت صفو حياة النبي الزوجية، وقد كانت أسبابا لتشريعات حكيمة في قرآن يُتلى إلى يوم الدين، وفيما عدا ذلك كن مؤمنات قانتات، تائبات، عابدات، صوامات، وكن خير معينات له على طاعة ربه، وتأدية رسالته، كما كن مصابيح إشعاع، وهداية وعلم، في حياة النبي وبعد وفاته، رضي الله عنهن، فهل سمعت بحياة زوجية تسامى هذه الحياة؟ (وبعد).
فليكن لنا في حياة الرسول الزوجية أسوة حسنة، ولنغلب جانب العفو، والتسامح، والحب في حياتنا الزوجية على جانب البغض، والمشاحنات والمخاصمات، وليكن لكن – أيتها الزوجات – مثلا – يحتذى في حياة زوجات النبي، ومجاهدتهن لنفوسهن، والنزول على ما يريد أزواجكن ما دام رائدهم الخير، والحق، والمصلحة، والوفاق، والوئام. * * *
مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47