المساواة أمام القانون أو المساواة القانونية كلمة سارت مسير الشمس والقمر، وكثر إطلاقها و التبجح بها، وأنها مدينة للحضارة الغربية المعاصرة. والحق أن أول من نادى بها ودعا إليها و طبقها في واقع الحياة وأرسى دعائمها ونشر ظلالها في ربوع المجتمع، هو الإسلام ونبي الإسلام محمد ﷺ. وحقًّا لم تشهد البشرية المساواة القانونية إلا في ظل الإسلام وفي توجيهاته وتعليماته النيرة الواضحة ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك. فكلمة المساواة تشير في الإسلام إلى أن أفراد المجتمع كلهم – أشرافهم وسوقتهم، ورعاتهم ورعيتهم، وأثرياءهم و فقراءهم، وسودهم وبيضهم، وعربهم وعجمهم، وذكورهم وإناثهم – سواسية كأسنان المشط أمام شريعة الله وقوانينه وتكاليفه وأحكامه. و لافضل لأحدهم على غيره إلا بالتقوى. وكان رسول الله ﷺ يطبق هذه المساواة القانونية في كل صغير وكبير، وحتى فيما يخص نفسه، و يخص عائلته وذويه. وتذكر لنا مصادر الحديث والتاريخ كثيرًا من الحالات التي قدم فيها النبي ﷺ نفسه ليقتص منه من يستحقه. فكان هو ﷺ وأهله وذووه النموذج الأمثل والأول لامتثال القوانين الإلهية وتطبيقها على أرض الواقع، وترجمة حية لها في أدق صورها وأوضحها في هذا البيت الذي كان وسيظل علمًا في رأسه نار للمسلمين والإسلام حتى تطلع الشمس من مغربها. ونبهت الآية القرآنية على أن أهل البيت لهم من العذاب ضعفين لو صدرت منهم – والعياذ بالله – معصية من المعاصي.
وقد روي عن زين العابدين بن علي بن الحسين-رضي الله عنهم- أنه قال له رجل: إنكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب، وقال: نحن أحرى أن يجرى فينا، ما أجرى الله- تعالى- على نساء نبيه ﷺ من أن لمسيئنا ضعفين من العذاب، ولمحسننا ضعفين من الأجر.
روى عبد الرزاق في مصنفه [برقم:18037] عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله ﷺ من منزله يريد الصلاة، فأخذ رجل بزمام ناقته، فقال:حاجتي يا رسول الله، فقال النبي ﷺ: «دعني فستدرك حاجتك». ففعل ذلك ثلاث مرات، والرجل يأبى، فرفع النبي ﷺ، عليه السوط فضربه، وقال: «دعني ستدرك حاجتك». فصلى بالناس فلما فرغ قال: أين الرجل الذي جلدته آنفا؟ قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض، و قالوا: من هذا الذي جلده رسول الله ﷺ؟ فجاء الرجل من آخر الصفوف، فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فقال له النبي ﷺ: «ادن فاقتص»، فرمى إليه بالسوط قال: بل أعفو قال: «أو تعفو؟» فقال: إني قد عفوت، فقال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده، لا يظلم مؤمن مؤمنًا، فلايعطيه مظلمته في الدنيا إلا انتقم الله له منه يوم القيامة».
روى أبو داود في سننه [رقم:5224] عن أسيد بن حضير- رجل من الأنصار- قال: بينما هو يحدث القوم، وكان فيه مزاح، بينا يضحكهم، فطعنه النبي ﷺ في خاصرته بعود، فقال: أصْبرني. فقال: «اصطبر» قال: إن عليك قميصًا، وليس علي قميص، «فرفع النبي ﷺ عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه»، قال إنما أردت هذا يا رسول الله.
وروى البيهقي في السنن الكبرى [برقم: 16020] عن سواد بن عمرو، قال: أتيت النبي- ﷺ-، وأنا متخلق بخلوق، فلما رآني، قال لي: «يا سواد بن عمرو، و خلوق ورس، أو لم أنهَ عن الخلوق؟، ونخسني بقضيب في يده في بطني، فأوجعني، فقلت: يا رسول الله، القصاص. قال: «القصاص»، فكشف لي عن بطنه، فجعلت أقبله، ثم قلت: يا رسول الله، ادعه شفاعة لي يوم القيامة.
وروى أبو داود في سننه [رقم:4536]: عن أبي سعيد الخدري، قال: بينما رسول الله ﷺ يقسم قسمًا أقبل رجل فأكب عليه، فطعنه رسول الله ﷺ بعرجون كان معه، فجرح بوجهه، فقال له رسول الله ﷺ: «تعال فاستقد» فقال: بل عفوت يا رسول الله.
قصة أخرى شبيهة بها ما رواه ابن هشام في «سيرته»: قال: قال ابن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله -ﷺ- عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية- حليف بني عدي بن النجار- وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استوِ يا سواد، فقال: يا رسول الله، أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فأقدني. فكشف رسول الله ﷺ عن بطنه، وقال: استقد، قال: فاعتنقه فقبل بطنه: فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله ﷺ بخير، وقاله له.
سبحان الله تعالى أحد أصحاب رسول الله ﷺ يطلب منه القصاص!. ثم ما أعظم انصياعه ﷺ لطلبه والخضوع لأن يقتص منه – وهو هو في منزلته عند الله تعالى ومكانته في قلوب الناس، وهوحبيب رب العالمين سبحانه- أحد أصحابه؟ هل يتجرأ أحد الرعية على أن يتخذ موقفا شبيها من الراعي؟ بل هل يتجرأ أحدهم أن يتفوه بمثل هذا الطلب أو تحدث نفسه بالاقتصاص من راعيه. لو حدث لأحد اليوم أن يطلب من رئيسه أو مديره أو رب العمل، أصابه بسوء خطأ؛ بل عمدًا لقامت الدنيا ولم تقعد، ولَنَالَ الطالب عقابه دون تأخير أو تأجيل. ولحمل رئيسه في نفسه من الضغينة والكراهية والاشمئزاز لهذا العامل والأجير ما لايعلمه إلا الله تعالى، ولاستحق العامل أن يطرد من العمل في عشية وضحاها.
ولكن كيف كان موقفه ﷺ بعد انصياعه له ليقتص منه؟ موقف ملؤه العدل والإنصاف، موقف يعمره الامتثال للقانون الإلهي، القانون الذي لايختص بأحد دون أحد، مهما علت منزلته وسما شأنه، ولايخاطب به أحد دون أحد، وإنما هو للبشرية كلها حتى صاحب الرسالة ﷺ يطبقه على نفسه، ويطلب من الصحابي أن يقتص منه. ثم لايحمل بعد ذلك في نفسه عليه موجدة، ولايحمل ضغينة، ولا يحرمه حقوقه بناء على أنه طلب أن يقتص منه ﷺ.
لنسمع ما رواه الدارقطني في سننه [رقم: 2849] عن سعيد بن المسيب، أن أبا سعيد الخدري، وأبا هريرة حدثاه، أن رسول الله ﷺ بعث سواد بن غزية- أخا بني عدي من الأنصار- وأمَّره على خيبر، فقدم عليه بتمر جنيب يعني الطيب، فقال رسول الله ﷺ: «أكل تمر خيبر هكذا؟»، قال: لا والله يا رسول الله، إنا نشتري الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة آصع من الجمع، فقال رسول الله ﷺ: «لا تفعل، ولكن بع هذا، واشتر بثمنه من هذا، وكذلك الميزان».
وينزل تحريم الربا: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [البقرة:278]، فأبطل النبي ﷺ جميع المعاملات الربوية، وبدأ -ﷺ- بعمه. ونزل الأمر بإبطال الثأر الموروث، فكان أول دم وضعه ﷺ هو ما كان لأسرته على غيرها.
روى مسلم في صحيحه [رقم: 1218] عن جابر رضي الله عنه في حديث طويل: فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله».
وذات مرةٍ سرقت فاطمة المخزومية، وكانت من أسرة عريقة لها مكانتها، ويقام لها حساب. فشق ذلك على الصحابة، فأرادوا أن يشفعوا في ذلك أسامة بن زيد -رضي الله عنه-. روى مسلم في صحيحه [1688] عن عائشة –رضي الله عنها- زوج النبي -ﷺ- أن قريشًا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي-ﷺ- في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ﷺ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله ﷺ، فأتي بها رسول الله- ﷺ-، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله ﷺ، فقال:«أتشفع في حد من حدود الله؟»، فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي، قام رسول الله ﷺ، فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:«أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت، فقطعت يدها. قال عروة: قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله ﷺ.
إذًا فاطمة بنت محمد – وهي بنت أشرف القوم وسيدهم- وفَاطِمَة بنت الأسود المخزومية سواء أمام القانون الإلهي، ولا فرق بين بنت الرسول-ﷺ- وبنت رجل من الرعية. فالعقوبة حيث ثبتت، وجب تنفيذها وإجراؤها على من ثبتت عليه، ولا فرق بين فقير و غني، ولا شريف وضعيف، ولا قريب وبعيد. فما كان للنبي ﷺ أن يدرأ الحد والعقوبة الشرعية عن أحب الناس إليه إذا ثبتت عليه ولزمته. أليس هذا منتهى العدل، وغاية السعي في التسوية بين الناس في شرائع الإسلام وأحكامه. فلايحظى أحد منهم بحصانة من القوانين والعقوبات الشرعية؛ بل الكل مسؤول عما كسبت يده. وهذا هو حجر الزاوية في استتباب الأمن وإرساء دعائمه في المجتمع البشري، وبهذا قامت السماوات والأرض.وهذه هي الوصية الخالدة التي وجهها نبينا محمد ﷺ وكل نبي أرسله الله تعالى- إلى البشرية جمعاء.
نعم، الناس كلهم سواء أمام شريعة الله تعالى، ولا فضل لأحد على غيره إلا بالتقوى. وصدق الله تعالى إذ قال: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾ [الحجرات:13].
وقال سبحانه: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ﴾ [النساء:1]. فهاتان الآيتان تناديان بكل وضوح أن البشرية جنس واحد، وأن البشر كله سواء، فربهم واحد وأبوهم واحد، فهم يتساوون في الحقوق والمسؤوليات.
وقال رسول الله -ﷺ- في وسط أيام التشريق في حجة الوداع: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلغت؟»، قالوا: بلغ رسول الله، ثم قال: «أي يوم هذا؟»، قالوا: يوم حرام، ثم قال: «أي شهر هذا؟»، قالوا: شهر حرام، ثم قال: «أي بلد هذا؟»، قالوا: بلد حرام، قال: «فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم» – قال: ولا أدري قال: أو أعراضكم، أم لا – كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، أبلغت؟»، قالوا: بلغ رسول الله، قال: «ليبلغ الشاهد الغائب» [مسند الإمام أحمد: 23489].
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ، «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن» [سنن أبي داود:5116].
واقتفى الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- النبيَّ -ﷺ- في التسوية بين الناس أمام القانون الإلهي وعقوباته، ولم يفرقوا بين الحاكم والمحكوم، والراعي والرعية في القوانين الإسلامية و الفرائض الشرعية، ونفذوها دون تفريق وتمييز على أساس الطبقات والفئات والأجناس، وأخضعوا الناس كلهم لسلطان قانون الإسلام الذي لم يسمح لأحد أن يدعي ميزة أو حقًّا لايتمتع به سواه.
قال البغوي في شرح السنة (10/170): وقال عمر رضي الله عنه: «إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل، فليرفعه إلي أقصه منه». فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلا أدب بعض رعيته أتقصه منه؟ قال: «إي والذي نفسي بيده، ألا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ﷺ أقص من نفسه».
وروى عبد الرزاق في المصنف [رقم: 18040] عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: لما قدم عمر الشام جاءه رجل يستأدي على بعض عماله، فأراد أن يقيده، فقال له عمرو بن العاص: «إذن لايعمل لك» قال: وإن أنا لا أقيده؟ وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعطي القود من نفسه»، قال عمرو: فهلا غير ذلك ترضيه قال: أو أرضيه.
قال ابن سعد في الطبقات (1/282) عن عطاء أن رسول الله -ﷺ- أقاد من خدش من نفسه. أخبرنا هاشم بن القاسم الكناني، أخبرنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن سعيد بن المسيب قال: أقاد النبي -ﷺ- من نفسه. وأقاد أبو بكر من نفسه. وأقاد عمر من نفسه.
محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري (تحريرًا في الساعة العاشرة صباحًا من يوم الخميس: 5/جمادى الأولى 1444هـ الموافق 1/ديسمبر 2022م)
مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47