بقلم: الشيخ الجليل المحقق حبيب الرحمان العثماني الديوبندي
(المتوفى: 1348هـ/ 1929م)
رئيس الجامعة الإسلامية: دارالعلوم، ديوبند، الأسبق
تعريب: الأستاذ محمد رضوان القاسمي(*)
لما فتح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه والمسلمون العراق، وقتلوا رستم وأصحابَه بالقادسيّة، وفرغوا من معركتها العظيمة، توجّهوا نحو المدائن عاصمةِ بلاد فارس؛ حتى نزلوها. والمدائن – في الواقع – عبارة عن مجموعةٍ من شتى المدائن التي كان قد بناها ملوك فارس على ملكهم وسمَّوها بأسمائهم؛ ولكنها صارت الآن اسمًا لإحدى المدائن منها، وإلى فتحها كان يؤول مصير بلاد فارس لكونها عاصمةً لها، وهي تحتضن «القصر الأبيض» لـ«كسرى» الذي وعد الله ورسوله فتحَه. وكانت المدائن الأخرى قد تُعرَف بأسماء مختلفة، فمنها: مدينة: «بهر سير».
ومما هوجدير بالذكر أن «المدائن» كانت تقع في شرقيِّ «دجلة»، وفي غربيِّها تقع «بهرسير». وبما أنّ المسلمين كانوا يدخلون من غربيِّ دجلة، فأوّل مدينة يمرّون بها في طريقهم هي «بهرسير»، فلذا أطلقوا عليها – لِقُرْبها – «المدائن الدّنيا»، فيما كانت المدائن تقع في شرقيّ دجلة؛ فسُمِّيت – لبُعْدها – بـ«المدائن القصوى». فدخل المسلمون «بهرسير» وقد فتحوا كلَّ ما مرّوا به في طريقهم من المناطق، فلم يبق في غربيِّ دجلة إلى أرض العرب سواديٌّ؛ إلا أمن واغتبط بملك الإسلام، فبقيت «بهرسير».
فأقام المسلمون في «بهرسير» شهرين، يحاصرونهم، ويرمونهم بالمجانيق، ويدبّون إليهم بالدّبابات، ونصبوا عليها عشرين منجنيقًا، فشغلوهم بها، فاشتدّ بهم الحصار؛ حتى أكلوا السّنانير والكلاب، وصبروا من شدّة الحصار على أمر عظيم. فبينا هم يحاصرونهم؛ إذْ أشرف عليهم رسول الملك، فقال: الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم! فقال لهم أبو مفزر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله – تعالى – بما لا يدري هو ولا من معه. فرجع الرّجل، فقطعوا دجلة إلى المدائن الشرقيّة التي فيها الإيوان، فقال له من معه: يا أبا مفزر! ما قلت له؟ قال: والذي بعث محمَّدًا بالحق ما أدري! وأنا أرجو أن أكون قد نطقت بالذي هو خير. وسأله سعد والنّاس عما قال، فلم يعلم. فنادى سعد في الناس، فنهدوا إليهم، فما ظهر على المدينة أحد، ولا خرج رجل إلا رجل ينادي بالأمان، فآمنوه، فقال لهم: ما بقي بالمدينة من يمنعكم. فدخلوا فما وجدوا فيها شيئًا ولا أحدًا إلا أسارى وذلك الرجل، فسألوه: لأيّ شيء هربوا؟ فقال: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصّلح، فأجبتموه أنّه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدًا حتى نأكل عسل «أفريدون» بأترجّ «كوثى». فقال الملك: يا ميلتيه! إنّ الملائكة تتكلّم على ألسنتهم تردّ علينا(1).
لاشك أنّ العسكر الإسلامي كان قد بلغ من سمْعِ الأمير وطاعته حدًّا يندر نظيره في أمة من الأمم؛ حيث لم يكن يُتصوَّر أن يردَّ أحد منهم على العدوّ شيئًا وأميرُهم بين أظهرهم، فإذن ألَيْسَ ذلك من عون الله تعالى ونصرِه أنّه ينطق شخص منهم بكلماتٍ عفوَ السّاعة فيض الخاطر، فتؤثّر في نفس العدّو – مَلِكِ بهرسير- حتى تجعله يهرب من مدينته، ويفوّضها إلى المسلمين؟!.
فسار الملك بأهل بهرسير إلى المدينة القصوى (المدائن)، فقصدها المسلمون، فلما أرادوا عبوردجلة إلى المدائن، طلب سعد السّفن، فلم يقدر على شيء، ووجدهم قد ضموا السفن، فأقاموا في بهرسير أيامًا من صفر يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، حتى أتاه أعلاج فدلّوه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وتردّد في ذلك، وفجأهم المدُّ، وكانت السّنة كثيرة المُدود، ودجلة تقذف بالزّبد، فرأى سعد رؤيا أنّ خيول المسلمين اقتحمتها، فعبرت وقد أقبلت من المدّ بأمر عظيم، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، فجمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تَخْلُصون إليه معه، وهم يخْلُصون إليكم إذا شاؤوا، فيُناوِشُونكم في سُفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتَوا منه، فقد كفاكموهم أهلُ الأيّام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيتُ من الرّأي أن تبادروا جهاد العدوّ بنياتكم قبل أن تحصركم الدّنيا، ألا! إنّي قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم فقالوا جميعًا: عزم اللُه لنا ولك على الرّشد، فافعلْ!(2).
فندب سعد النّاسَ إلى العبور وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراضَ؛ حتى تتلاحق به الناسُ لكيلا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس، في ست مئة من أهل النّجدات، فاستعمل عليهم عاصمًا، فتقدّمهم عاصم في ستين فارسًا، وجعلهم على خيلٍ ذكور وإناث؛ ليكون أسلسَ لسباحة الخيل، ثم اقتحموا دجلة. فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا، أخرجوا للخيل التي تقدّمت مثلَها، فاقتحموا عليهم دجلة، فلقوا عاصمًا وقد دنا من الفراض. فقال عاصم: الرّماحَ الرّماحَ! أشْرِعُوها وتوخّوا العيون. فالتقوا فاطّعنوا، وتوخّى المسلمون عيونهم فولّوا، ولحقهم المسلمون فقتلوا أكثرهم، ومن نجا منهم صار أعور من الطّعن، وتلاحق الستّ مئة بالستين غير متعبين. ولما رأى سعد عاصمًا على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام وقال: قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرنّ الله وليّه، وليظهرنّ دينه، وليهزمنّ عدوّه، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!. وتلاحق النّاس في دجلة، وإنّهم يتحدّثون كما يتحدّثون في البرّ، وطبّقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطئ شيء.
وكان الذي يساير سعدًا سلمان الفارسيُّ، فعامتْ بهم خيولُهم، وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرنّ الله وليّه، وليظهرنّ دينه، وليهزمنّ عدوّه، إن لم يكن في الجيش بغيٌ أو ذنوبٌ تغلب الحسنات، فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذُلِّلت لهم البحورُ كما ذُللّ لهم البرُّ، أما والذي نفس سلمان بيده، ليخرجُنّ منه أفواجًا كما دخلوا فيه أفواجًا. فخرجوا منه كما قال سلمان، لم يفقدوا شيئا؛ إلا أنّ مالك بن عامر العنبريَّ سقط منه قدَحٌ، فذهبت به جريةُ الماء، فقال له الذي يسايره مُعَيِّرا له: أصابه القدر فطاح، فقال: والله إنّي لعلى حالةٍ ما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكرين. فلما عبروا، ألقتْه الرّيحُ إلى الشاطئ، فتناوله بعض الناس، وعرفه صاحبه فأخذه، ولم يغرق منهم أحد غير أنّ رجلا من «بارق» يدعى «غرقدة» زال عن ظهر فرس له أشقرَ، فثنى «القعقاع» عنان فرسه إليه، فأخذ بيده فأخرجه سالمًا، وخرج الناس سالمين، وخيلُهم تنفض أعرافَها(3).
فلم يكن بالمدائن أمرٌ أعجب من عبور الماء؛ حيث قد عبر ستّون ألف فارسٍ دجلةَ – وهي تقذف بالزّبد – وهم يتحدّثون فيما بينهم بهدوءٍ وطمأنينةٍ كما يتحدّثون في البرّ، ولم تصبهم خسارةٌ في أموالهم وأنفسهم. فلاريب أن تلك الواقعة كانت كرامةً للإسلام واضحةً، وشهادةً كاملةً بكونه دينًا سماويًّا؛ إلا أنّ أعجب من ذلك وأغربَ أنّه لا يبغي أحد من الفارس الوقوفَ في هذا البحر الهائج والأمواج المتلاطمة إذا عيي؛ إلا اشْمَخرَّت له جرثومةٌ من الأرض يستريح عليها كأنّه على الأرض، وما يبلغ الماءُ حزامَ فرسه؛ فلذا يُدْعى هذا اليوم «يوم الماء» و«يوم الجراثيم». وإلى ذلك قد أشارأبو بُجَيْدٍ نافع بن الأسود قائلًا:
وَأَسَلْنَا عَلَى الْمَدَائِنِ خَيْلًا
بَحْرُهَا مِثْلُ بَرِّهِنَّ أَرِيضَا
فَانْتَثَلْنَا خَزَائِنَ الْمَرْءِ كِسْرَى
يَوْمَ وَلَّوْا وَخَاضَ مِنْهَا جَرِيضَا(4)
إنّ الخيول لتستطيع أن تسبح في البحر ولا غَرْوَ في ذلك؛ ولكنّ عبور البحر المترامي الأطراف العميق للغاية أمثالِ دجلة – التي تجري فيها السفن في عموم الأحوال أيضًا – وهي ترمي بالزّبد وينفجر بركانُها، إنّما كان خارجًا عن طاقة الخيول وخارقًا للعادة. فمن شاهد بَحْرَيْ «كنكا» و«جمنا» في الهند و«بحرَ السِّنْد»، وأمثالَها من البحور العظيمة في فصل الأمطار حين تهيج وتثور، فهم يعلمون جيّدًا أنّ عبورها بالخيول أوالأفيال لايمكن في تلك الأيام. ومن ثمَّ لماَّ رأى الفرسُ ذلك، وأتاهم أمرٌ لم يكن في حسبانهم، خرجوا هاربين نحو «حلوان» نعم! رغم ذلك كله عسى أن يكون هناك أحدٌ من المتعصّبين المعاندين يجادل بالباطل، ويسعى جاهدًا أن يطمس هذه الكرامةَ البديهيّة والدّليلَ الواضح عن تعمّد وتخطيط.
* * *
الهوامش:
(1) الكامل:2/196، ذكر فتح المدائن الغربية وهي بهرسير. الطبري:4/169، ذكر بقية خبر دخول المسلمين مدينة بهرسير.
(2) الطبري:4/170، حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى. الكامل: 2/198، ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى.
(3) الكامل:2/198، ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى. الطبري:4/170، حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى.
(4) الكامل:2/198، ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى. الطبري:4/170، حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى.
* * *
(*) الأستاذ بالجامعة الإسلامية العربية بجامع أمروهة/الهند.
مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47