بقلم:  أبو فايز القاسمي المباركفوري

         قال الله تعالى: ﴿قَالَ ‌ٱلۡمَلَأُ ‌مِن ‌قَوۡمِهِۦٓ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٦٠ قَالَ يَٰقَوۡمِ لَيۡسَ بِي ضَلَٰلَةٞ وَلَٰكِنِّي رَسُولٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأعراف:60-61]

         في الآية بدهيتان:

         الأولى:

         فإن قلت: لم قال في الجواب: ﴿لَيۡسَ ‌بِي ‌ضَلَٰلَةٞ﴾ بزيادة التاء‏، ولم يقل «ضلال» كما قالوا؟

         قلت: الضلالة أخصّ من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال، كما لو قيل لك: أ لك تمر، فقلت: ما لي تمرة. ذكره الزمخشري، والرازي، وأبو السعود، والنسفي، والبقاعي(1).

         وعبر عنه أبوحيان بقوله: «لم يرد النفي منه على لفظ ما قالوه‏، فلم يأتِ التركيب (لست في ضلال مبين)؛ بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال‏، فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال؛ إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة‏، وفي ندائه لهم ثانيًا والإعراض عن جفائهم ما يدلّ على سعة صدره والتلطّف بهم(2).

         وقال الآلوسي: نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فإن التاء للمرة؛ لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الأحمق يقتضي ذلك‏، والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى: ليس بي أقل قليل من الضلال‏، فضلًا عن الضلال المبين، وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ؛ فإن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة؛ بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع، و كفاك لارجل شاهدًا؛ فإنه موضوع للواحد من الجنس‏، وبذلك فرق بينه وبين أسامة فإذا وقع عامًا لا يلحظ ذلك. ولوسلم جواز أن يقال ليس به ضلالة أي ضلالة واحدة؛ بل ضلالات متنوعة ابتداء؛ لكن لا يجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في «الكشف» وبه يندفع ما أورد على «الكشاف» في هذا المقام.

         وفي «المثل السائر»: الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ‏، ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك: ضل يضل ضلالًا وضلالة كان القولان سواء؛ لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر؛ بل عن المرة والنفي كما علمت، و إنما بالغ عليه السلام في النفي لمبالغتهم في الإثبات حيث جعلوه و حاشاه مستقرًا في الضلال الواضح كونه ضلالًا(3).

         الثانية:

         إن قلت: إن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله: ﴿لَيۡسَ ‌بِي ‌ضَلَٰلَةٞ﴾ كان كافيًا فيه، فما فائدة ذكره؟

         قلنا: أجيب من وجوه:

         الأول: قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَٰكِنِّي ‌رَسُولٞ ‌مِّن ‌رَّبِّ ‌ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه، وذلك – على ما قيل- أن القوم لما أثبتوا له الضلال، أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة، فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة، فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكًا لذلك. ذكره الآلوسي(4).

         الثاني: قيل: هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية؛ فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة؛ كأنه قيل: وليس بي شيء من الضلالة؛ لكني في الغاية القاصية من الهداية.

         وحاصل ذلك على ما قرره الطيبي أن «لكن» حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفيًا وإثباتًا، والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك: جاءني زيد لكن عمرًا غاب، وفائدة العدول عن الظاهر إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفى الضلالة كذلك، وسلك طريق الإطناب؛ لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله: ﴿لَيۡسَ ‌بِي ‌ضَلَٰلَةٞ﴾ كان كافيًا فيه، فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي؛ لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم: ﴿إِنَّا ‌لَنَرَىٰكَ ‌فِي ‌ضَلَٰلٖ ‌مُّبِينٖ﴾ فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي‏، وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين، ألا ترى أن صالحًا عليه السلام لما لم يعترضوا عليه عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد؛ ففي هذه الآية خمسة من أنواع البديع؛ فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيرًا انتهى.

         ولا يخفى أن هذا الاستدراك غير الاستدراك بالمعنى المشهور. وقد ذكر غير واحد من علماء العربية أن الاستدراك في «لكن» أن تنسب لما بعدها حكمًا مخالفًا لما قبلها سواء تغايرا إثباتًا ونفيًا أو لا، و فسره صاحب «البسيط» وجماعة برفع ما توهم ثبوته، وتمام الكلام فيه في «المغني»، واعتبار اللازم لتحصيل الاستدراك بالمعنى الثاني مما لا يكاد يقبل؛ لأنه لا يذهب وهم واهم من نفي الضلالة إلى نفي الهداية حتى يحتاج إلى تداركه، و وجهه بعضهم من دون اعتبار اللازم بأنه عليه السلام لما نفى الضلالة عن نفسه، فربما يتوهم المخاطب انتفاء الرسالة أيضًا كما انتفى الضلالة، فاستدركه بـ(لكن) كما في قولك: زيد ليس بفقيه؛ لكنه طبيب، وأنت تعلم أن هذا إن لم يرجع إلى ما قرر أولًا فليس بشيء، وقيل: إنه إذا انتفى أحد المتقابلين يسبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به، ولهذا يؤول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلًا يقال: زيد ليس بقائم؛ لكنه قاعد ولا يقال: لكنه شارب إلا بعد التأويل بأن الشارب يكون قاعدًا، و قال بعض فضلاء الروم: النظر الصائب في هذا الاستدراك أن يكون مثل قوله:

         ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

         وقوله:

         هو البدر إلا أنه البحر زاخرًا

سوى أنه الضرغام؛ لكنه الوبل

         كأنه قيل: ليس بي ضلالة وعيب سوى أني رسول من رب العالمين، وأنت تعلم أن هذا النوع يقال له عندهم تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو قسمان: ما يستثنى فيه من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية. و ما يثبت فيه لشيء صفة مدح ويتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك. ذكره الآلوسي،والنسفي(5).

الهوامش:

(1)    الزمخشري 2/242؛ والرازي 7/163؛ وأبوالسعود 2/496؛ والنسفي1/374؛ والبقاعي3/219.

(2)    أبوحيان 5/372.

(3)    الآلوسي6/217.

(4)    الآلوسي6/217. (5)  الآلوسي6/217؛النسفي 1/374.

مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47

Related Posts