بقلم:  الأستاذ عاذب أشرف الأعظمي(*)

         كلمات التشجیع والثناء علی إحسان العمل وفعل الخیرات وأداء دور مهم، نظنها مجرد كلمات تلوكها الألسن، ولكنها في الواقع تشكل الدافع الأكبر  الذي من شأنه أن یشحذ الهمم، ویوقد النیران، ویُلهب الطموح، وینیر الطریق، ویفتح كل باب مغلق، ویخلق في العزائم قوة وثباتا. إنها كلمات تحوّل الهزیمة إلی نصر، والفشل إلی نجاح، والسقوط إلی ارتفاع، والتخلف إلی تقدم، والجمود إلی تحرك؛ كلمات تنتشل الكثیر من ظلمات الیأس إلی بوارق الأمل، ومن وهدة القنوط إلی قمة الطموح، ومن حفرة الإحباط إلی منابر الفوز؛ کلمات تولّد الصمود والتماسك في كل نفس ضربها الانهیارُ والإحباطُ، وثبَّطها الشعورُ  بالانحطاط؛ کلمات تُنقذ الكثیر من الانهیار الداخلي والسقوط فيما یتوخاه من العمل، بعد أن يتعبه الجهد ويعييه العمل، ويذهب به كل مذهب؛ فهو – ولا شك فیه- سحر ساحر  یجعل صاحبه یعود من السهل  علیه أن يتخطی المعوقات، ویتجاوز العراقیل، ویركب الصِّعاب، ویصطاد الكواكب، ویصنع من الأعاجیب في حیاته  ما قد لایأتي به الآخرون.

         وبالعكس من هذا تمامًا، فإن عبارات التثبیط هي السبب الأكبر وراء إحباط الإنسان وانتكاسه أمام الهجمات، فهو  الذي یثبط الهمم، ویُخمد النیران، ویزرع  في نفسه الفتور، ویقعد به عن المسیر، ویجعله یفقد الأمل في كل ما يقصده من الأعمال، فهناك الكثير ممن ضربهم هذا التثبیط كل مضرب، ونال منهم  كل منال، ومنعهم من أداء الدور، وصنع الأعمال، وجرَّ  إلیهم ذیول الخیبة والانسحاب عن المساعي، وانهار بهم في حفرة الیأس والنكوص، وأخذ بهم إلی  تراجُعٍ مستمرٍّ لا یكاد یتخلص منه مهما كدّ وجدّ.

         وتؤكد لنا النصوص الدینیة أهمیة هذا الجانب، بما يحمله من النتائج ذات المفعول الساحر، والأثر الواضح المعالم علی الإنسان، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحیحه أنه لما قام أبو قتادة رضي الله عنه وسلمة بن الأكوع رضي الله عنه بمجهود عظیم في غزوة (ذي قرد) استحقا الثناء والتشجیع من النبي ﷺ، فقال: «كان خیر فرساننا الیوم أبو قتادة، وخیر رجَّالتنا سلمة» قال سلمة: ثم  أعطاني رسول الله ﷺ سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعًا، ثم أردفني رسول الله ﷺ وراءه علی العضباء راجعین إلی المدینة(1).

         یقول النووي في شرحه: «فیه استحباب الثناء علی الشجعان وسائر أهل الفضائل، لا سيما عند صنيعهم الجميل؛ لما فيه من الترغيب لهم ولغيرهم في الإكثار من ذلك الجميل»(2). فالثناء إذن من أهم عوامل الإثارة والترغیب والحث علی فعل الخیرات وصنع الجمیل، ومن أنفع الدوافع إلی أداء الدور العظيم والقيام بمهام الأمور  وفعل العجائب.

         وكذلك نری نموذجًا واضحًا لهذا الحث والثناء علی فعل الجميل في حياة النبي ﷺ بشكل تطبيقي، فعن أبي موسیٰ الأشعري رضي الله عنه قال: قدمت علی رسول الله ﷺ وهو بالبطحاء، فقال: أحججتَ؟ قلتُ: نعم، قال: بِمَا أهللتَ؟ قلتُ: لَبَّيك بإهلال كإهلال النبي ﷺ، قال أحسنتَ»(3).

         ویحكي عبيد بن عمير أن عُمَرَ رضي الله عنه قالَ يَوْمًا لأصْحابِ النبيِّ ♀: فِيمَ تَرَوْنَ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ: ﴿أَيَوَدُّ ‌أَحَدُكُمۡ ‌أَن ‌تَكُونَ ‌لَهُۥ ‌جَنَّةٞ﴾؟ قالوا: اللهُ أعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ فَقالَ: قُولوا نَعْلَمُ أوْ لا نَعْلَمُ، فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ: في نَفْسِي منها شيءٌ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قالَ عُمَرُ: يا ابْنَ أخِي! قُلْ ولا تَحْقِرْ نَفْسَكَ، قالَ ابنُ عَبّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قالَ عُمَرُ: أيُّ عَمَلٍ؟ قالَ ابنُ عَبّاسٍ: لِعَمَلٍ، قالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بطاعَةِ اللهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللهُ له الشَّيْطانَ، فَعَمِلَ بالمعاصِي حتّى أغْرَقَ أعْمالَهُ(4).

         علی عكس ما یتوقعه الناس من عمر رضي الله عنه مما جُبل علیه من القوة  والبأس الشدید في أمر الدین، فقد تعامل رضي الله عنه باللین والرفق الزائد واللطف الجمیل مع ابن عباس رضي الله عنه الصغیر السن الذي لا يساوي أبدًا غیرَه من كبار الصحابة علمًا وصلاحًا وتقًی، فلا یتشجع أبدا أن يطلق لسانه أمام هؤلاء الكبار الأجلة من الصحابة، ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي استنهض عزیمته، ودفع تلكُّؤه وتردّده في الجواب بين يدي الكبار، قائلا: «قل ولا تحقر نفسك»، حتی  استطاع ذلك الطفل أن یعرض ما بدا له من الجواب.

         كان أبو یوسف رحمه الله توفي عنه أبوه وهو في مقتبل عمره، فلم یبق له إلا أمه الفقیرة المسكینة التي علّقت به كل آمالها في المعاش والمكسب، فأرادت أن یتعلم الصبي مهنة تُدر علیه وعلیها ما یكفي مؤونتهما في الحیاة، فكانت تذهب به إلی القصار لیعاونه ویكسب به ما یُقیم أودَهما معًا، ولكن الفتی الناشئ كان له هوایة أخری ورغبة مختلفة، كان یحب العلم والعلماء، فیفر من القصار، ویحضر مجلس الإمام أبي حنیفة، وكان الإمام یُشجعه ویعیر له اهتمامه الخاص لما یری فیه من حرصه علی العلم، وتأتي الأم مهرولة لترده إلی القصار؛ ولما تكرر هذا الفرار من القصار والرجوع إلی حلقة الإمام أبي حنیفة، ذهبت الأم إلی أبي حنیفة وقالت له: هذا غلام یتیم ولیس له شيء  إلا ما أطعمه من مغزلي، فدعه یكسب دانقا، فقال لها: اﺳﻜﺘﻲ ﻳﺎ ﺭﻋﻨﺎء، ها هو ذا ﻳﺘﻌﻠﻢ اﻟﻌﻠﻢ ﻭﺳﻴﺄﻛﻞ اﻟﻔﺎﻟﻮذج بدهن اﻟﻔﺴﺘﻖ ﻓﻲ ﺻﺤﻮن اﻟﻔﻴﺮوزج، ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻪ: إﻧﻚ ﺷﻴﺦ ﻗﺪ ﺧﺮﻓﺖ.- والقصة مبسوطة في الكتب-(5).

         فكان هذا الشاب الناشئ  لقي من أستاذه وشیخه هذا الدافع المحرك المتمثل في التشجیع والثناء وهذا القول  التاریخي العظیم الذي قاله الأستاذ أبو حنیفة رحمه الله لأمه، وحضّها علی تعلیم ابنها…… نقف هنا، ثم ننظر: ما ذا لو لم یكن هناك مثل هذا الإمام الإنسان العظیم، وماذا سیكون مصیر أبي یوسف؟، لا شك أنه سیبقی مجرد قصّار لا یسمع به أحد ولا یُذكرُ من أمره خیر، أو لعله یجد في طریقه مثبِّطًا محطِّمًا في ثوب ناصح أمین، یردعه عن رغبته ویحثه علی حرفة القصارة، حتی یكسب منه لقمة عیشه، ویكون عونًا علی أمه التي تنتظر منه المال والكسب، لكن الله أراد به وبأمه الخیر تحت رعایة أستاذ ناجح ومربٍّ خبیر.

         وكان الإمام أحمد بن حنبل دائمًا يمدح بقي بن مخلد أمام الحاضرين، ويقول: «هذا ینطبق عليه اسم طالب العلم بنسبة مئة في المئة»؛ وذلك لأن قصة بقي بن مخلد في غاية الروعة: رحل من الأندلس إلى بغداد ليسمع مباشرة من الإمام أحمد رحمه الله، وكان الإمام أحمد محددةً إقامتُه في تلك الفترة، وممنوعًا من مخالطة الناس، فاحتال بعد الاتفاق مع الإمام أحمد على أن يرتدي ملابس المتسولين، ويأتي كل ليلة ليسأل الصدقة، ثم يدخل في الممرّ كأنه ينتظر أن يؤتى له بالطعام أو الصدقة، ففي أثناء تلك الفترة يخرج إليه الإمام أحمد ويحدثه كل يوم بحديث، فلما انقشعت المحنة، ورُفعت عنه الابتلاءات، كان الإمام أحمد يعظمه جدًا، وكان يقول في مجلسه: «هذا يقع عليه اسم طالب العلم»(6).

         كان «هِنري بوذرد» أحد الدكاترة في «نیو جرسي» یعمل مدرسًا في إحدیٰ المدارس بها، فاخترع جِهازًا لقیاس ما یمتلك الأطفال من القوة والضعف الداخلي، فاختار أطفالا لیختبرهم عن طریق الجهاز، ولیتعرف علی مدی ما یكمن في نفوسهم من درجة الإعياء والتعب، أوالمناعة والقوة الإضافیة، فكانت النتیجة أن كان الأطفال عندما یتلقون كلمات المدح والثناء والإعجاب والتحفیز، یظهر الجهاز  ارتفاعًا مفاجئًا یعبر عنه بوجود طاقة إضافیة تزداد بشكل مدهش بمجرد أن سمعوا تلك الكلمات التشجيعية، وعند ما كانوا یتعرضون للنقد والاعتراض، والزجر واللوم، فسرعان ما تنحط طاقتهم الجسمانیة بشكل مفاجئ، فأكد له الاختبار أن الإنسان مجبولٌ علی الانفعال بما يتلقاه من كلمات المدح والثناء أو التثبیط والإحباط، وتنحطّ أو تتقوی بمجرد تلك الكلمات الإیجابیة أو السلبیة التي یوجّها إلیه الآخرون(7).

         وقد وُجد بعض الأطفال یشكون واقع مجتمعهم الذي لا یُعِیرُ شیئا من الاهتمام لهذا الجانب، فیقولون: إذا ارتكبنا خطأً أو واجهنا فشلا في مجال من المجالات التعلیمیة – ولو كان أول مرة – نری جمیع الناس یتسارعون إلی الصراخ والتعنیف، ویطلقون وابلا من السباب واللوم ومن النقد والتوبیخ، ضاربین عُرض الحائط بجمیع ما قد سبق لنا من الفوز و الفلاح- وإذا أنجزنا عملا من الأعمال العظیمة، فلا نجد أدنیٰ اهتمام أو أقل تشجيع أو أي كلمة طیبة تدل علی المدح أو الثناء أو تعبر عن التحمیس والتحفیز- فواقع الناس هذا إنما هو سبب واضح من أسباب الفشل والإحباط.

         ويؤكد علماء النفس أهمية التشجيع؛ إذ يرونه الدافع القوي والمحرك الناجح لمواصلة الأعمال وتنميتها. فيحكي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى قصة يقول فيها: «قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نموّ العلوم وازدهار الآداب؟ وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: «إنه التشجيع»، واستطردت الكاتبة قائلة – رغم تجاوزها جزءًاكبیرًا من عمرها، ورغم ما هي علیه من شهرة ومكانة -: «تدفعها كلمة التشجيع لتمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير»(8).

         ويحكي هو رحمه الله عن نفسه، فيقول: كنت أنظم أبياتًا من الشعر، كما ينظم كل مبتدئ، حتى إذا اجتمع عندي كثير من القطع، عرضته على أستاذ العربية، وكان لسوء الحظ تركيًّا، يُسمَّى «إسماعيل حقي أفندي»، يعلّمنا النحو العربي باللسان التركي! فلما قرأه سخر مني، وسبَّني، وتهكَّم عليَّ، وجاء من بعدُ أخي أنور العطار، فنظم كما كنت أنظم، حتى إذا اجتمع عنده كثير من القطع عرضه على الأستاذ «كرد علي» رئيس المجمع العلمي العربي، فأقام له حفلة تكريمية. فتمخّض هذان الموقفان المتضاربان أني عجزت عن الشعر، وما قُدّر لي أن أقرض الأبیات، حتى لَنَقْلُ البحر بفمي أهون عليَّ من نظم خمسة أبيات؛ وأما أخي أنور العطار، فقد غدا شاعر الشباب السوري، وسيغدو شاعر شباب العرب(9).

         إن النفس الإنسانیة تخفي بداخلها كمیة كبیرة من المواهب والطاقات، ولكن تنتظر من یكشف كمالها وإبداعها، ويدق في جنباتها أجراس الحماسة والثورة الكامنة في أحشائها، ولكن فداحة الأمة والمجتمعات أن هناك مقنطین ومحبطین ومثبّطین یزرعون الفشل والخیبة والتراجع في نفوس أفرادها، وینشرون سموم ألسنتهم التي تفت العزائم، وتحط الهمم وتنخر مستقبل الأمة كما ینخر السرطان أجساد البشر. فكم من قدرات موؤودة بین ضلوع أصحابها، مهملة مجهولة یحجب الغبار عنها ضوء الشمس، لم یكتشفها غیر التشجیع والدفع للأمام، وكم من أناس أصابهم الیأس وكادت أن تحطمهم صدمات الحیاة، ولكنهم أقیلوا من عثراتهم، ونهضوا من كبواتهم، حینما قیَّض الله في طریقهم مَن شحَذ هممهم، وكشف عن حقیقتهم الخافیة؛ بل إن كثیرًا من عظماء التاریخ وزعمائه ما كانت عظمتهم إلا نتیجةً للتشجیع والتحفیز من الأسرة أو الأصدقاء أو معلمي المدرسة. إن عبارات التحبیذ والتقدیر لها فعل السحر في النفوس الساكنة التي تتحول إلی مارد جبار، یحطم كل العوائق، ویزیل أمامه عقبات المستحیل.

         إن مجتمعنا الإسلامي لایزال یشكو قلة هؤلاء المهتمّین بهذا الجانب، الذين یستطيعون أن ینموا الهمم، ویشحذوا العزائم وینیروا الطریق الحالك، ویفتحوا الأبواب التي تنسد. وعلی عكس ذلك فأنت تجد المجتمع الإسلامي مكتظّا بالمحطّمین للعزائم، المُخمدین لشعلة الحماس والشوق لإنجاز عمل مهم، الذین یصرفون الناس عن نجاح إلی فشل، وعن علو  إلی خیبة، وعن قوة واستماتة إلی فتور وإحجام، وعن شوق وعزیمة إلی شعور بالدونیة. إن الإنسان وخاصة الأطفال والناشئين في میادین الحیاة یكونون في حاجة شدیدة إلی من یقوّي عزمهم ویستنهض هممهم ویحفزهم لمواصلة الاجتهاد والاستمرار في العمل، ویأخذ بیدهم إذا أظلم لهم الطریق، وانسد علیهم الباب، وأحجموا عما یتوخونه من الأعمال، ولكن – علی خلاف ما یتوقعون- فهم قد یُفاجَؤون برجال مثبطین لا یُهمُّهم في الحیاة إلا تثبیط الآخرین وتحطیم نفوسهم ومنعُهم عن الإقدام، هم لایقابلون الأفراد الناجحین إلا بكلماتهم المثبطة، ولهجاتهم الساخرة، ویعجزونهم  عما یریدونه من الغایات السامية، فهذه المواقف السئية التي یلقونها – هؤلاء الناشئون – تتسبب في انسحابهم عن أداء المهام العظیمة، وإحجامهم عن فعل العبقریات وصنع المعجزات، مهما رغبوا في تحقیقها، وحلموا بتجسیدها علی أرض الواقع.

*  *  *

الهوامش:

(1)    صحيح مسلم،  رقم: ١٨٠٧.

(2)    شرح النووي: ١٢/١۸٢.

(3)    صحيح البخاري، رقم:١٧٢٤ .

(4)    صحيح البخاري، رقم: ٤٥٣٨.

(5)    البداية والنهاية: 10/94.

(6)    محو الأمية التربوية لمحمد بن إسماعيل المقدم: ۱/۲۳۰.

(7)    نفس المصدر: ۱/ ۲۲۷.

(8)    فكر و مباحث للطنطاوي: ۱۲۸.

(9)    نفس المصدر: ۱۳۰.

(*)         المدرس المساعد بالجامعة.

مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47

Related Posts