إشراقة

الإنسان طبيعيًّا يَقْلَقُ لدى المصائب والمتاعب، والأحزان والمحن، والمفاسد والفتن، وخيبة الأمل، وتعثّر الأهداف، وإعراض الأغراض، وكثرة الأمراض، وتكالب الأعداء، وقلة الأصدقاء، وخذلان الأعوان والإخوان، وخيانة الأقرباء والأحباء. والقلقُ في مثل هذه المواقف مفطور عليه الإنسانُ؛ لأن طبيعته رُكِّبَتْ معه؛ ولكنه إذا رَجَعَ إلى نفسه، وتَعَمَّق في النظر في هذه المواقف والأوضاع، وتَعَامَلَ معها بإيجابيّة، علم أنها تجعله يُنيب إلى الله، ويَطَّرِح على عتبته؛ فهي ليست مظاهر الخيبة والخسارة والشقاء، وإنما هي الطريقُ المُبَاشِرُ القويمُ إلى صدق التعلّق بالله، والاتصال به، والرجاء منه، والثقة به، والتعويل على نصره وتأييده، والإيمانِ بتفريجه وتيسيره، والتوكل على أنه أَرْحَمُ بعباده من أُمَّهَاتِهم الحَنُونَات.

       فما أَحْسَنَ ما قيل:

       «إن في القلب شَعْثًا لا يَلُمُّه إلّا الإقبالُ على الله، وعليه وحشةٌ لايُزِيلُها إلّا الأنسُ به في خلوته، وفيه حزنٌ لا يُذْهِبُه إلّا السرورُ بمعرفته وصدقُ معاملته، وفيه قَلَقٌ لايُسْكِنُه إلّا الإجتماعُ عليه والفرار منه إليه، وفيه نِيرانُ حَسَرَاتٍ لا يُطْفِئُها إلّا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقةُ الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقةٌ لا يَسُدُّها إلّا مَحَبَّتُه ودوامُ ذكره والإخلاصُ له، ولو أُعْطِيَ الدنيا وما فيها لم تَسَدَّ تلك الفاقةَ أبدًا»

       وما أَحْسَنَ ماقال الشاعر (ويُنْسَب لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه):

اِصْبِرْ قَلِيلًا فَبَعْدَ الْعُسْرِ تَيْسِيرٌ

وكُلُّ أَمْرٍ لَــهُ وَقْتٌ وَتَدْبيــرٌ

اِصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَـةٍ وَتَجَلَّـدِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الدَّهْـرَ غَيْرُ مُخَلَّـدٍ

       إنّ المصائب تُرَقِّق القلبَ، وتُعَلِّم الحلمَ، وتُلَقِّن الصبرَ، وتُلهِم التواضعَ، وتدعو إلى الانكسار وإنكار الذات، وإلى التخلّي عن الإعجاب بالنفس وجميع ما تعنيه كلمات التعالي والتسامي. وقد قيل: «لاتَحْزَن إذا أَعْسَرْتَ يومًا؛ فقد أَيْسَرْتَ وقتًا طويلًا، ولا تَظُنّ بربّك سوءًا؛ فإن الله أولى بالجميل، ولو أن العقول تسوق رزقًا لكان المال عند ذوي العقول وحدهم.

       الرقة والتخشع فضيلة كبيرة يحظى بها الإنسان بفضل من عند ربّه، أخرج أبو نعيم رحمه الله (336-443هـ) في «الحلية» عن مالك بن دينار رحمه الله (المتوفى 127هـ) وهو من صغار التابعين: قال: قال موسى عليه السلام: يارَبِّ أين أبْغِيك؟ قال: اِبْغِنِي عند المنكسرة قلوبُهم (2/366). فالرقيقُ القلبِ، والمنكسر القلب، والمُتَخَشِّع القلب، يدنو منه الله، يُؤَيِّده وينصره، ويكون عونًا له على كل خير، وصائنًا له من كل شرّ، كما أن المُصَابَ بنكبة والمسوسَ بمصيبة يَظَلُّ كثيرَ الرجوع إلى الله، كثير الدعاء له، والسؤال إياه، يتضرّع، ويعترف بذنوبه وآثامه، ويعوذ منها به، ويبكى إليه ويخشاه، ويُقِرُّ بأنه لَطَّحَ أذياله بكثرة الذنوب، ويقول بلسان الحال والمقال معًا ما قاله الشاعر العربي العباسي أبوالعتاهية (130-211هـ = 747-828م):

إِلَهِي! لَا تُعَــذِّبْنِـي فَـإِنِّي

مُقِرٌّ بِالَّذِي قَدْ كَانَ مِنِّي

فَمَا لِي حِيلَــةٌ إِلَّا رَجَائِي

لِعَفْوِكَ، إِنْ عَفَوْتَ وحُسْنُ ظَنِّي

وَكَمْ مِنْ زَلَّـــةٍ لِي فِي الْخَطَايَا

وأَنْتَ عَلَيَّ ذُو فَضْـــلٍ ومَـنٍّ

إِذَا فَكَّــرْتُ فِي نَــدَمِي عَلَيْهَا

عَضَضْتُ أَنَامِلِي وَقَرَعْتُ سِنِّي

أُجُنُّ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا جُـنُونًا

وأَقْطَعُ طُولَ عُمْرِي بالتَّمَنِّي

وَلَوْ أَنِّي صَـدَقْتُ الزُّهْـدَ عَنْهَا

قَلَبْتُ لِأَهْلِهَا ظَهْـرَ الْمِجَنِّ

يَظُنُّ النَّــاسُ بِي خَيْـرًا وإِنِّي

لَشَرُّ الْخَلْقِ إِنْ لَـمْ تَعْفُ عَنِّي

       لا سبيل إلى كبح جماع النفس إلّا قهرها بالابتلاء وما يثقل عليها من جبال المصائب؛ لأنها عند ذلك تُضْطَرُّ أن تفرّ إلى الله: فارجِ الهمّ، وكاشفِ الغمّ، ومجيب دعاء المكروب والمنكوب، الجريح القلب، المكلوم الفؤاد، الذي قد أيقن أن الله هو الملجأ الوحيد، وأنه هو سند من لا سندَ له، وأنه هو مقلب الليل والنهار، ومُغَيِّر الأحوال من الأسوإ إلى الأحسن.

       على أن المؤمن مُثُاب من الله على كل مصيبة تصيبه. قال النبي – صلى الله عليه وسلم-:

       «ما يصيب المؤمنَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْن، ولا أذى ولاغمٍّ، حتى الشوكةُ يُشَاكُهَا، إلّا كَفَّرَ اللهُ بها من خطاياه» (البخاري: 5648؛ ومسلم:2572).

       الذي يَتَحَطَّم داخليًّا، ويَتَكَسَّرَ قلبيًّا، ويعود يَتَأَكَّد أنه لا مَلْجَأَ ولا مَنْجَىٰ من الله إلّا إليه، يسهل عليه – المتحطم داخليًّا – أن يرتبط بالله، ويتصل بجنابه، ويتقرب إليه بكل ما يعرفه من أسلوب، ويَتَزَلَّفُ إليه بكل ما يَتَيَسَّرُ له من حيلة، ويتوسّل إليه بعجزه، وضعف قوته، وقلة حيلته، وهوانه على الناس، ورحمته تعالى الواسعة، وبذنوبه التي اقترفها، وآثامه التي ارتكبتها يداه، أو مشت إليها رجلاه، أو مارستها جوارجه، أو خَطَّطَ لها تفكيره فأتاها ليلًا أو نهارًا.

       فيتوب إلى الله توبةً نَصُوحًا، ويَتَذَرَّع إليه قائلًا: ومَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله، ومن يُفَرِّج الكُرَبَ إلّا هو، ومن يدفع البلايا إلّا الرحمن الرحيم، ومن يُنْقِذ من الفِتَن إلّا الله القادر العزيز، ومن يُنْجِي من المِحَن إلّا خالق السماوات والأرضين الذي لا يَعِزُّ عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

       إن البلايا والمصائب تُطَهِّر المسلم الملتجي ربَّه، وتُزَكِّيه وتَصْقُلُه، وتجعله كثيرَ الرجوع إلى الله، ودائمَ السؤال إيّاه، وكبيرَ الثقة به، ومواصلَ الرجاء منه، فيكون أحسنَ حالًا من ذي قبل، وأقوى صلة بالله تعالى، وأوثقَ علاقة به، وأشدَّ تعرّفًا إليه في الشدّة التي نزلت به، فيعرفه الله في حالتي الرخاء والشدة، فيعطيه سُؤْلَه في الدنيا، ويمنحه مطلوبَه في الآخرة، ويُكْرِمه بجنّته، ولا يُخْزِيه بناره.

       وأجمل طريق للتعامل مع البلايا ما جاء في قوله تعالى:

       ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة:153)

       وفي قول النبي –صلى الله عليه وسلم-:

       «عجبًا لأمر المؤمن: إن أمرَه كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلّا للمؤمن، إن أصابته سَرَّاءُ شَكَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صَبَرَ، فكان خيرًا له» (مسلم:2999).

       ومن أجمل ما قيل من الأبيات في مواجهة المصائب والمحن ما قال الإمام الشافعي – رحمه الله – (150-204هـ = 767-820م):

دَعِ الْأَيَّــامَ تَفْعَلْ مَا تَشَـاءُ

وطِبْ نَفْسًا إِذَا حَكَمَ القَضَاءُ

وَلَا تَجْــزَعْ لِحَادِثَـــةِ اللَّيَــالِي

فَمـَـــا لِحَوَادثِ الدُّنْيـــَا بَقَــاءٌ

وكُنْ رَجُلًا عَلَى الْأَحْوَالِ جَلَدًا

وشِيمَتُك السَّماحَةُ وَالْـوَفَاءُ

ولا حُـزْنٌ يَــــدُومُ ولا سُــرُورٌ

ولا بُؤْسٌ عَلَيْــــكَ ولا رَخَــاءٌ

وأَرْضُ اللهِ وَاسِعَـةٌ وَلَــٰكِــنْ إذَا

نَـزَلَ القَضَــاءُ ضَــاقَ الفَضَــاءُ

       وكذلك قول واعظ دمشق أبي عبد الله أحمد بن عاصم الأنطاكي الزاهد، أحد أعلام التصوف (140-239هـ = 757-853م):

هَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الْأَمْرِ يَنْقَطِعُ

وخَلِّ عَنْكَ ضَبَابَ الْهَمِّ يَنْدَفِعُ

فَكُلُّ هَمٍّ مِــنْ بَعْـدِهِ فَـرَجٌ

وكُلُّ كَـرْبٍ إِذَا ضَــاقَ يَتَّسِعُ

إِنَّ البلاءَ وَإِنْ طَالَ الـزَّمَانُ به

الْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ يَنْقَطِعُ

       ومن محاسن الشعر في هذا المعنى قول الشاعر:

إِذَا مَا أَتَاكَ الدَّهْرُ يَوْمًا بِنَكْبَـــةٍ

فَأَفْرِغْ لَهَا صَبْرًا وَوسِّعْ لَهَا صَـدْرًا

فَإِنَّ تَصَارِيفَ الزَّمَـانِ عَجِيبَـــةٌ

فَيَوْمًا تَرَىٰ يُسْرًا ويَوْمًا تَرَىٰ عُسْـرًا

       ومن أروع ما قيل في هذا الشأن، قول الشاعر (ويُنْسب للإمام الشافعي رحمه الله):

يا صَاحِبَ الْهَمِّ إِنَّ الْهَــمَّ مُنْفَرِجٌ

أَبْشِرْ بِخَيْــــرٍ فَــإِنَّ الْفَـــارِحَ اللهُ

الْيَأْسُ يَقْطَـــعُ أَحْيَـــانًا بِصَاحِبِـــهِ

لَا تَيْـــأَسَنَّ فَإِنَّ الْكَافِـــي اللهُ

اللهُ يُحْدِثُ بِعْدَ الْعُسْــرِ مَيْسَرَةً

لَا تَجْـزَعَـــــنّ؛ فَـــإِنَّ الْقَاسِـــمَ اللهُ

إِذَا بُلِيتَ فَثِـقْ بِاللّهِ وَارْضَ بـــهِ

إِنَّ الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَىٰ هُوَ اللهُ

وَاللَّهِ مَالَكَ غيـــرَ اللهِ مِنْ أَحَدٍ

فَحَسْبُـكَ اللهُ فِـي كُلٍّ لَكَ اللهُ

       وقد أَحْسَنَ أمير الشعراء شوقي (أحمد شوقي 1285-1351هـ = 1868-1932م) عندما قال:

صَبْرًا عَلَى الدَّهْرِ إِنْ جَلَّتْ مَصَائِبُهُ

إِنَّ الْمَصَـائِبَ مِمَّــا يُوقِــظُ الْأُمَمَا

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

(تحريرًا في الساعة الثالثة مساءً من يوم الاثنين: 30/جمادى الآخرة 1439هـ الموافق 19/مارس 2018م).

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العـلوم ديــوبنـد ، ذوالقعدة 1439 هـ = يوليو – أغسطس 2018م ، العــدد : 11 ، السنـة : 42

Related Posts