إشراقة

       الإنسانُ أنواعٌ لا تُحْصَىٰ؛ فمنه الغبيُّ الأحمقُ، ومنه الذكيُّ البليدُ.. ومنه الحازم الكَيِّس، ومنه العاجز المُتَرَدِّد.. ومنه الطامع الحريص، ومنه المستغني الجواد السخيُّ القانع.. ومنه الثرثار القوّال المِكْثَارُ، ومنه السَّكُوت الخازن لسانَه إلّا وقتَ الحاجة إلى الكلام.. ومنه السبَّاقُ إلى الخير، الباذلُ المعروفَ، الصانع الجميلَ، ومنه البخيل الشَّرِه الضنين اللئيم الذي يُمْسِك عن تقديم كسرة خبز بائت إلى الجائع البائس.. ومنه المُوَاسِي الكريم الرحيم، الودود العطوف، ومنه القاسِي الجائر العاتِي، الذي لم يعرف معنًى للمواساة والحنان، والعطف والرأفة.. ومنه الداهية المحتال الماكر، ومنه الأمين المخلص النزيه الوفي.. ومنه المُحِبُّ لغيره ما يُحِبُّ لنفسه، الصَّافِي المحَبَّةِ، الكافي أخاه كلَّ مُلِمَّة، ومنه المُغْرِض المُتَبَنِّي مطالبَه وحدَها، المُتَوَصِّل إليها بكل أسلوب مُتَاح.. ومنه المُشَارِك غيرَه في أحلامه وآلامه، المتجرد من الأثرة والأنانيّة وحبّ الذات، الذي يُفَضِّل الآخرين على نفسه؛ حيث يكون إيثاريًّا لآخر الحدود، ومنه اللَّامُبَالِي بغيره، الطَّاوِي كَشْحَه عنه، المحترز من فعل خير، الغني عن الشعور بآلام الآخرين، المُنْطَوِي على نفسه، المُهْتَمُّ فقط بما يَنُوبُه من الأمور..

       ومنه المتواضع المُنْكَسِر المُتَذَلِّل المُنْقَادُ، الذي يكاد يستقرّ في القلوب ويَنْفُذ في النفوس، ويَتَمَلَّك العقولَ، ويشعر المتعاملُ معه بأنه جزءٌ من شخصه، وأَشَدُّ مواساةً له من نفسه؛ ومنه المُتَكَبِّر المُتَعَالِي المُعْجَب بنفسه الزَّاهِي المُتَرَفِّع، الذي لا يرى في غيره أيَّ خير وغَنَاء، وفائدة أو خِبْرَة، وسَدَاد رأي، وإنما يرى نفسَه أكبرَ وأغنى وأنفعَ وأَحْصَفَ من جميع من يُعَاصِره..

       ومنه البسيطُ السليمُ دَوَاعِي الصَّدْر، الحُلْوُ الشَّمَائِل، الرَّحْبُ الرَّاحَة، الكثيرُ العطاء، المتحد الظاهر والباطن، الصَّافِي مِرْآةِ القلب، يمكنك أن تشاهد داخلَه فيها كما تشاهد فيها ظاهرَ وجهه وجسمه؛ حيث لا يختلف أيٌّ من أفعاله عن أيّ من أقواله، وأيٌّ من سلوكه عن أَيٍّ من منطوقه..

       ومنه من يكون غامضَ الشخصية، إذا غَشِيَ مجلسًا، لم يَنْبِس ببنتِ شفة، ولم يشارك الآخَرِين في تبادل الآراء، ومناقشه الأفكار، ومُدَاوَلَة الاقتراحات، وتقليب النظريّات، وتصريف القضايا المطروحة من قِبَل زملاء المجلس للنظر فيها. وإنما يكتفي بإحداد البصر إلى من يتكلم من حضور المجلس حول قضية من القضايا، كأنه أَخْرَسُ وأَبْكَمُ وأَصَمُّ، فلا يتبسم ولا يُحَرِّك شفتَيْه، ولا يُدْلِي بدلو في رأي مطروح، ويلازم السكوتَ كأنه يتجسَّس ويتفحّص، كأنه يريد أن يجمع المعلومات لصالح شخص أو أشخاص.

إن مثل هذا الرجل أتقزّر منه التقززَ كُلَّه، ولا تَرْضَىٰ نفسي بأن ألقاه مرة أخرى، ولا أُحِبّ أن يجلِس إليّ في قابل الأيام؛ بل إن مثله هو الذي جَعَلَني أحترز من الاجتماع بأخلاط الناس، وغِشْيانِ المجالس، والتزاور إلّا عند الحاجة الشديدة إلى ذلك؛ لأني وجدتُ بعضَ الناس مِلْؤُهم الغموضُ والإبهام والإلغاز مع شيء كثير من الانغلاق والالتوائية، التي لا تقبل أيَّ عمليّة للفتح والكشف والإيضاح، مهما كان القائم بها يملك مفتاحًا أَذْكَىٰ. إنهم يحضرون المجالس وكأنهم لا يحضرونها، لأنهم لا يُشَاطِرُون أصحابَها الرأيَ والمشورة، ولا ينطقون طَوَالَ دورانها بـ«لا» أو «نعم» ولا يجد الحضورُ موردًا أو مصدرًا لشخصيته؛ فلا يتمكنون من النفوذ فيها رغم إعمال كل حيلة يتوصّلون إليها.

       إنّ هذه السيرةَ التي يسيرها بعضُ الناس، تتصادم مع تعاليم النبي – صلى الله عليه وسلم- الذي وَجَّه بالمشاركة في الرأي والمشورة، فقال:

       «إذا استشار أحدكم أخاه فليُشِرْ عليه» (سنن ابن ماجه:3747) وقد دلّ الحديث على أنه لاينبغي لأحد يَغْشَىٰ مجلسًا ويدور فيه الحديثُ حول موضوع ويُدْلِي فيه الحضورُ بدلوهم في إبداء الآراء بالإيجاب أوالسلب.. لاينبغي له أن يُلاَزِم السكوتَ بأسلوب يُوهِم بكونه ذا شخصيّة غامضة، يَتَأَذَّىٰ منها كل ذي طبع سليم. إن هذا الموقف يَمُجُّه الأدبُ والذوقُ السليمُ، والخلقُ الإسلاميّ، والشيمةُ العربيّة، والمروءةُ الإنسانيّةُ، ولا يليق بنحو بالعالم والمتعلم والمثقف، كما لا يجدر بأي فرد في المجتمع أميًّا كان أو ذا علم. لأن المناقشة التي تجري في مجلس ما، إنما تكون تشاورًا حول قضية من القضايا، فالحضورُ كلُّهم يكونون مُطالَبين بأن يَطْرَحُوا في المجلس ما عندهم من رأي إيجابيّ أو سلبيّ حول القضية التي تجري حولها مُدَاوَلَةُ الآراء.

       كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: «المستشارُ مُؤْتَمَنٌ» (الترمذي:2822) نَصَّ الحديث على أن من يُطْلَب منه المشورة يجب أن يكون أمينًا في إعطائها، فلا يخون فيها بالكذب أو بمايضرّ المستشيرَ بنحو، ويشفّ كذلك عن أن المستشار مُطَالَب بأداء أمانة المشورة إلى أهلها، فمن بَخِلَ بأداء الأمانة، وسكت عليها، ولم ينطق بما يراه في شأنها، فقد ارتكب جريمة إخفائها، وتنكّب عن أدائها، واستحق الذي يستحقه كلُّ مخالف لتعاليم النبي – صلى الله عليه وسلم-.

       كثيرٌ من الناس يجهلون تعاليمَ الإسلام، كما يجهلون الآدابَ التي تَنْحَت من الإنسان إنسانًا ذا مروءة ونُبْل؛ لكونهم أُمِّيِّين، أو كونهم لم يتعلموا الدينَ وأحكامَه؛ لأنهم لم يَتَلَقَّوا التعليمَ الدينيّ، وإن تَلَقَّوا التعليم الدنيوي وتَثَقَّفُوا بالثقافة العصريّة. فإذا كان عند النوعين من الناس عذر؛ لأنهم لم يُلِمُّوا بأحكام الإسلام، فإن النوع الثالث الذي تَلَقَّىٰ التعليم الديني وتَعَرَّف أحكامَ الدين، وعاش في صحبة العلماء بالدين أو لازمهم وجلس إليهم طويلًا، لا عذر لديه، ولا حيلة عنده للتخلّص من مسؤولية أداء أمانة المشورة التي قَصَّرَ فيها، وحَسِبَ أنه أَحْسَنَ صُنْعًا، حيث آثر السكوت على النطق برأي إيجابي أو سلبيّ في قضية مطروحة للبحث والنظر، ظنًّا منه أنه إن كان الكلام من الفِضَّة فإن السكوت من الذهب، ولم يَدْرِ أن الكلام في محله أثمن من الذهب وأَغْلَىٰ من كلِّ غالٍ.

       إن الكلام في مناسبته قد يَفُكُّ العانيَ، ويُنْقِذ حياةَ المحكوم عليه بالإعدام، ويُشْبِع الجائع، ويكسو العُرْيَان، ويعالج المريضَ، ويساعد الفقير، ويُطْفِئ نار الفتنة، ويُصْلِح بين المُتَخَاصِمَينِ، ويستأصل الشرَّ، ويَبْسُط الخير، ويرفع الذليلَ، ويُهِينُ المتعالِيَ، ويَزْرَع الأمنَ، ويُزِيل البَلْبَلَةَ، ويُؤَلِّف القلوب، ويَقْلَع الشحناءَ والأَحَنَ، ويُبَرِّئُ ساحةَ المظلوم، ويُدِين الظالمَ، ويُحِقُّ الحَقَّ، ويُبْطِل الباطلَ، ويُعَزِّز العدلَ، ويُدَعِّمِ الصوابَ، ويصرخ بكلمة الحق عند سلطان جائر، فيقُرِّر أن الحقَّ يعلو ولا يُعْلَىٰ عليه، ولو كان كل شياطين الأرض بعضُها لبعض ظهيرًا.

       إن الكلام في هذه المواضع وغيرها وَاجِبٌ أَوْجَبُ لا يَتَلَكَّأُ عنه إلّا من مات ضميرُه، وفَقَدَ وعيَه الديني، أو كان ممن حُرِمَ الأدبَ والمروءةَ، أو شَقِيَ بالجهل بأحكام الدين، أو لم يَسْعَد بصحبة الصالحين وتربية المُرَبِّين، مهما كان من ذوي العلم والمتخرجين في أرقى الجامعات.

       آدابُ الحياة المُثْلَىٰ من الدين؛ لأنها جزءٌ من تعليمات النبي – صلى الله عليه وسلم- أو مما نَصَّ أو دَلَّ عليه أو أشار إليه كتابُ الله تعالى، فلا يَتَهَاوَنُ به إلّا المُتَهاوِن بالدين وأوامره ونواهيه. إن التقصير فيها – الآداب المذكورة – قد يَفْجَع القلوب، ويُؤْلِم الضمائرَ، ويُثير اللاثقةَ في المجتمع، ويجعل سوءَ الظن يتفاقم بين الناس، ويجعل الانسجام والتناغم والوئام بينهم مفقودًا، كفقدان السعادة والبركة من عند المُدْمِنِين للذنوب والآثام.

       من المُؤْسِف أن كاتب السطور وَجَدَ بعضَ من يُصَنَّفُون علماء بالدين مجردين من الآداب الاجتماعية الحيّة التي تقتضيها الطبيعة البشرية السليمة، فضلًا عن أنها مُصَرَّح بها في كتاب الله وسنة رسوله -ﷺ- وقد جَعَلَنا سلوكُ بعضهم نحسب كأنهم يظنون أنهم بالاحتراز من العمل بهذه الآداب، يعملون بالدين، وأن من يتَقَيَّد بها فهو عندهم مُذْنِب أثيم يستحقّ غضب الله.

       ولا شكّ أن هذا الصنف ممن يُسَمَّون علماء، يحصر الدينَ في عبادات وأحكام معدودة معلومة، ولا يعتقد أن الدين مجموع كثير من العبادات والأحكام التي يأخذ بعضُها بحُجَز بعضٍ، وأنه كلٌّ لا يتجزأ، وأنه بلغ من الشمول والاستيعاب مبلغًا لم ولن تبلغه أيُّ ديانة غير الإسلام.

(تحريرًا في الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس: 19/جمادى الآخرة 1439هـ الموافق 8/مارس 2018م).

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العـــــــــــــــــــلوم ديــــــــوبنــــــــــــــــــــد ، رمضان – شوال 1439 هـ = مايو – يوليو 2018م ، العــــــــــــدد : 9-10 ، السنــــــــــــــــــــــة : 42

Related Posts