الفكر الإسلامي

بقلم: العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله

(1305-1369هـ/1887-1949م)

تعريب: أبو عائض القاسمي المباركفوري

            وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢)    

فائدة:

       قال أولًا: اذكروالله تعالى، ولاتذكروا غيره، ثم يقول: إن الذين يذكرون الله تعالى ويدعونه على فئتين: فئة لاتريد إلا الدنيا، فتدعوه سبحانه أن يعطيها في الدنيا ما لها من العز والمال، فهؤلاء ليس لهم نصيب من نعيم الآخرة، وفئة أخرى: تريد الآخرة، و تطلب من الله تعالى كلا الأمرين: خير الدنيا أي التوفيق للعبادة وغيرها، وخير الآخرة أي الثواب والرحمة والجنة، فأولئك لهم حظ موفور في الآخرة بما قاموا به من الحج والأدعية الحسنة.

فائدة:

       (سَرِيْعُ الْحِسَابِ) أي يحاسب يوم القيامة جميع الخلق بسرعة وكلمح بالبصر،أو المعنى: لاتظنوا يوم القيامة بعيدًا؛ فإنه قريب عاجل، لامناص منه، فلاتغفلوا عن التفكير في ذلك.

       وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)

فائدة:

       (أَيَّامٍ مَّعْدُودَٰتٍ): هي الحادي والثاني والثالث عشر من ذي الحجة، حيث يفرغون من الحج وينزلون بـ«منى»، وأُمروا بالتكبير في هذه الأيام عند رمي الجمرات والصلوات كلها، وعليهم أن يكثروا من التكبير وذكر الله تعالى في غيره هذه الساعات.

فائدة:

       أي الإثم هو عدم الحذر من المناهي الشرعية، ولاجناح على من خاف الله تعالى، و اتقاه في أيام الحج أن يقيم في «منى» يومين أوثلاثة أيام، حيث أباح الله تعالى الأمرين، وإن كان الأفضل أن يقيم ثلاثة أيام.

فائدة:

       (اتَّقُوا اللهَ) أي ليست هذه التقوى من خصائص الحج؛ بل تجب تقوى الله تعالى في كل أمر وفي كل حين، فإنكم تبعثون من قبوركم وتحشرون إلى ربكم للحساب، وبهذا تم ذكر الحج، ولكن تخلل ذكره بيان نوعين من الناس (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَّقُولُ) و(مِنْهمْ مَنْ يَّقُولُ) أي الكافر والمؤمن، فعرج على ذكر النوع الثالث وهم المنافقون بهذه المناسبة.

       وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤)وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦)

فائدة:

       هذه حال المنافق، حيث يتملق في الظاهر، ويشهد الله تعالى على صدقه، وأنه يكنّ في قلبه الحب للإسلام، ولايدّخر جهدًا عند النزاع، ويفسد في الأرض إذا تمكن من ذلك، ويزداد حميةً وحسدًا وإثمًا إذا منع منه وحذِّر. يقال: كان من المنافقين رجل يدعى الأخنس بن شريق، بليغ اللسان ذربه، فإذا دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم تظاهر بغاية من الإخلاص، والحب للإسلام، فإذا تولى وخرج منه أحرق بعض الزروع، أو عقر دابة، فنزلت هذه الآية ذمًا للمنافقين.

       وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)

فائدة:

       تحدثت الآية السابقة عن المنافق، الذي يشتري الدنيا بالدين، وهذه الآية تتحدث بإزائه عن المؤمن المخلص الإيمان، الذي يبذل الدنيا ونفسه ونفيسه في طلب الدين، فروي أن صهيب الرومي أقبل مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فأتبعه نفر من قريش، فقال لهم: أمنحكم ما أملك من دار ومال على ألا تحولوا دون هجرتي إلى المدينة، فرضوا بذلك، فسار صهيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ثناءً على المخلصين من المؤمنين.

فائدة:

       ما أرحم الله تعالى بعباده؛ حيث وفقهم لبذل نفوسهم وأموالهم في مرضاته سبحانه، وهو مالك أرواحهم وأموالهم، ثم اشتراؤه إياها بالجنة مجرد تكرم وامتنان منه سبحانه وتعالى.

       يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)

فائدة1:

       الآية السابقة ثناء على المؤمن المخلص والقصد منه إبطال النفاق، ويقول الله تعالى في هذه الآية: اقبلوا الإسلام كاملًا غير منقوص، أي لاتتبعوا إلا الإسلام في الظاهر والباطن، والعقيدة والعمل، لا أن تأخذوا حكمًا من الأحكام بإملاء من عقولكم أو أحد من الناس، والقصد منه استئصال البدعة، فإن حقيقة البدعة: استحسان عقيدة أو عمل لهوى في النفس واعتباره من الدين، فمثلا الصلاة والصوم من أفضل العبادات، فإن التزم المرء شيئًا منهما من عند نفسه دون أمر من الشريعة كالتطوع يوم العيد في المصلى، أو صوم ألف يوم مثلا كان ذلك بدعة في الدين. وحاصل الآيات: أخلصوا إيمانكم واجتنبوا البدع. وأسلم بعض اليهود وأرادوا أن يجمعوا بين أحكام الإسلام وأحكام التوراة كتعظيم يوم السبت أو تحريم لحم الإبل وحليبه، وقراءة التوراة، فنزلت هذه الآية، فسدّت كل طريق إلى البدع.

فائدة2:

       فإنه يرسخ في قلوبكم بوساسه وشبهه ما ليس له أصل ولا أساس، ويفسد عليكم دينكم بالاختراع في الدين، وأنتم تستحسنونه.

       فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)

فائدة:

       (عَزِيْزٌ) فإن انحرف أحد- بعد أن عرفتم أحكام الشريعة المحمدية بوضوح تام – عنها إلى غيرها فاعلموا علمًا يقينًا أن الله تعالى غالب على الناس جميعًا، فمن شاء عذبه، ولايقيه عذابه أحد، (حَكِيْمٌ) لا يأتي إلا ما يوافق الحق ويحقق المصلحة، سواء عذبه أو أهمله إلى حين، أي ليس عجولا ولا ناسيًا فيظلم أو يأتي ما لايليق به.

       هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (٢١٠)

فائدة:

       الذين لم يرعووا عن الإعراض عن أحكام الله تعالى بعد أن تبينت لهم و وضحت، فلم يؤمنوا بالرسول ولا بالقرآن؛ فإنهم لاينتظرون إلا أن يأتي الله تعالى هو أو ملائكته فينزلوا عليهم اليوم ما سيحصل يوم القيامة من العقاب والجزاء، فالأمور كلها – من الحساب والعذاب وغيرهما- راجعة إلى الله تعالى، ولا تصدر الأحكام إلا منه سبحانه تعالى، ولاريب فيه، فعلامَ تفزعون؟

       سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢١١)

فائدة 1:

       نَبَّهَ في الآية السابقة على أن الإعراض عن الحكم الإلهي الصريح بعد أن جاء يسبب العذاب و العقوبة، وهذه الآية تأكيد لذلك، بأن يسألوا بني إسرائيل كم أرسلنا إليهم من آية بينة وحكم صريح، ثم أعرضوا عنها، فأخذهم العذاب، لا أن الله تعالى أخذهم في أول أمرهم، ومن قَبْل أن يرسل إليهم ذلك.

فائدة 2:

       أي أن من سنة الله تعالى المحققة أن من بدل أحكام الله تعالى وهدايته، وكفر بنعمه وآلائه، فعذابه سبحانه شديد على من يبدل الآيات ويغيرها، بأن يُقتل ويُسلب أو يعطي الجزيةَ عن يد وهو صاغر، ومصيره إلى النار يوم القيامة.

فائدة 3:

       (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) أي علم بها أو نالها من غير مؤنة وكلفة.

       زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢١٢)

فائدة 1:

       أي مخالفة الكفرة لأوامر الله تعالى الصريحة وأوامر رسله – مما سبق ذكره- ترجع إلى أن الدنيا وبهجتها قد نزلت من قلوبهم منزلا عظيمًا وتغلغلت فيها، فلايبالون بالآخرة ولابنعيمها؛ بل يسخرون من المسلمين الذين يهمهم الآخرة، ويكبون على الامتثال لأوامر الله تعالى؛ ويحتقرونهم، فأنى يتحقق الامتثال لأوامر الله تعالى من هؤلاء الحمقاء العبدة الهوى؟ وكان رؤساء المشركين يستهزئون ببلال وعمار وصهيب وفقراء المهاجرين بأنهم آثروا الآخرة على مصائب الدنيا ومتاعبها، وهذا محمد (صلى الله عليه وسلم) يحرص على أن يتغلب بهؤلاء الفقراء والبائسين على زعماء العرب وقاداتها، وعلى إصلاح العالم بأجمعه.

فائدة 2:

       فرد الله تعالى عليهم بأن هذا ينمُّ عن جهلهم و أوهامهم، مما جعلهم يتهافتون على الدنيا، و لايدرون أن هؤلاء الفقراء والبائسين يفوقونهم منزلةً ودرجةً يوم القيامة، ويرزق الله تعالى في الدنيا والأخرة من يشاء بغير حساب، فسلط الله تعالى هؤلاء الفقراء البائسين – الذين كان الكفرة يضحكون عليهم ويستهزئون بهم- على أموال بني قريظة والنضير وعلى حكومات فارس والروم وغيرهم.

       كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)

فائدة 1:

       ظل الدين الحق واحدًا منذ آدم إلى مدة مديدة، ثم اختلف الناس فيه، فأرسل الله تعالى الأنبياء والرسل، يبشرون أهل الإيمان والطاعة بالثواب والأجر، وينذرون أهل الكفر والمعصية بالعذاب والعقاب، و أنزل عليهم الكتب الحقة، ليتلاشى نزاعهم ويزول خلافهم، ويبقى الدين ويستمر بعيدًا عن اختلافاتهم. فاختلف الذين أوتوا الكتاب في الأحكام الإلهية، مثل اختلاف اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل، ولم يكن اختلافهم عن جهل وغباوة؛ بل عن قصد وعمد، ورغبةً في ملذات الدنيا، وحسدًا من عند أنفسهم، فأرشد الله تعالى -بمنِّه وكرمه- أهل الإيمان إلى صراط الحق والصواب، وجعلهم في منجاة من ضلالات الضالين، كما أرشد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحق في العقيدة وفي كل أمر، وحفظهم من اختلافات اليهود والنصارى وإفراطهم وتقصيرهم.

فائدة 2:

       دلت الآية الكريمة على أمرين:

       الأول: أن الله تعالى أنزل عدة كتب وأرسل غير واحد من الأنبياء، ولم يتوخَ من ذلك تعليم كل فرقة توجيهات تخصها؛ بل سنَّ الله تعالى لهم جميعًا طريقًا واحدًا في الأصل، فضلُّوا عنه فأرسل الله تعالى رسولا و أنزل كتابًا؛ ليتبعوه، ثم ضلّوا و انحرفوا فأرسل رسولا آخر، وأنزل كتابًا آخر للتاكيد على الطريق نفسه، ومثال ذلك أن الصحة واحدة والأمراض لاتحصى ولا تعدّ. نشأ مرض من الأمراض فوصف له من الدواء والوقاية ما يناسبه، ثم نشأ مرض آخر فوصف له ما يوافقه من الدواء والوقاية، وفي نهاية الأمر وصف علاجًا ضابطًا يحفظ من الأمراض كلها، وينوب عن الأدوية كلها، وهذا العلاج الضابط هو الإسلام، الذي أرسل به خاتم الرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل القرآن الكريم.

       الثاني: وعلم ثانيًا أن من سنة الله تعالى أن يعارض الأشرارُ كل نبي مرسل، ويخالفوا كل كتاب منزل، ويسعوا في ذلك سعيهم، فلايضيق أهل الإيمان ذرعًا بإساءة الكفـرة وما هم فيه من الفساد.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1439 هـ = أبريل – مايو 2018م ، العدد : 8 ، السنة : 42

Related Posts