دراسات إسلامية
بقلم: د. أحمد عمر هاشم (*)
كما تكفّل الله – سبحانه وتعالى- بحفظ القرآن الكريم، وحفظه فعلا، تكفل سبحانه وتعالى بجمعه وقرآنه، وتوضيحه وبيانه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: 17-19).
ولذا قيض الله تعالى لسنة نبيه – صلوات الله وسلامه عليه – في كل عصر ومصر، من ينافحون عنها، ومن يدونونها، ومن يشرحونها، ومن يحفظونها في قلوبهم الأمينة وصدورهم الواعية.
ولما كانت التحديات التي واجهتها السنة النبوية قديما، وتواجهها حديثا، تمثل خطورةً على دين تكفل رب العزة بحفظ دستوره، وحفظ بيانه، وإنما كانت تمثل خطورة على بعض أتباع الإسلام، ممن يقعون فريسة لتلك الدعوات الضالة والكتابات الباطلة. بيد أن هذه التحديات كانت تحفز علماء الحديث، في كل جيل من الأجيال أن يهُبُّوا عن بكرة أبيهم، وأن يجندوا كل طاقاتهم؛ لينفوا عن الحديث النبوي تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وها أنذا أتناول الردّ على بعض تلك الشبهات التي يحاول بعض التابعين لأبواق الاستشراق أن يلقوا بها في محيط الحياة الثقافية.
شبهة ادعاء الاكتفاء بالقرآن الكريم
وهذه الشبهة دعت بها طائفة في القديم، وطائفة حديثًا، تدعو إلى الاكتفاء بالقرآن عن الحديث، وهؤلاء الذين تبنوا هذه الدعوة، يستهدفون ضياع الدين، وذلك لأن الناس إذا تركوا الحديث وأهملوه، فلن يستطيع أحد كائنًا من كان في ثقافته، وفي ذكائه، وفي ورعه، أن يفهم كلام الله تعالى، ولا الوقوف على المراد منه.
فالقرآن الكريم جاء بالقواعد العامة والكليات، والحديث النبوي فصَّل هذا وشرحه وبينه، وجاءت الأوامر القرآنية والتوجيهات بالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد والبيع والشراء والزواج وغير ذلك من الأمور ولكنها تحتاج إلى تفصيل وبيان؛ إذ ليس في القرآن تفصيل تلك الأحكام ولا عدد الركعات ولا كيفية أدائها وما يتعلق بغيرها من العبادات والمعاملات من أحكام تفصيلية، وإنما كانت السنة النبوية هي المفصلة والشارحة لهذا كله، وجاء الأمر الإلهي بأخذ ما جاءت به والانتهاء عما نهت عنه قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر:7).
ولذا وجّه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يحافظوا عليها، ففيما رواه العرباض بن سارية مرفوعا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ»(1).
وهكذا كان الأمر النبوي بالحفاظ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أمركم فاحذروا، إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا كتاب الله وسنة نبيه»(2).
هذا إلى جانب ما بينه الله تعالى في القرآن الكريم من وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والذي إنما يبين للناس ما نزل إليهم قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل:44) فأهمية ما جاءت به السنة أمر لا يمكن الاستغناء عنه، وإلا فإن القرآن لا يُفهم، وإن الأحكام وتفصيلاتها لا تُعلم، عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: «إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدَّد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد ذلك في كتاب الله مفسرًا؟ إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك».
وبهذا تتأكد حجية السنة النبوية والحاجة الماسّة إليها.
وقد ذهب بعض أصحاب الآراء الجامحة، من الفرق والطوائف الضالة، إلى إنكارحجية السنة جملة، متواترةً كانت أو آحادًا، مستندين في ذلك إلى فهمهم السقيم، في مثل قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتٰبَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل:89).
وقوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:38). وأصل هذا الرأي الفاسد – وهو ردّ السنة والاقتصار على القرآن – أن الزنادقة وطائفة من غلاة الرافضة، وتبعهم في عصرنا هذا بعض الكتاب المعاصرين ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة، والاقتصار على القرآن، ونسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله». كما استدلوا على عدم حجيتها أيضًا بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة السنة، وأمره بمحو ما كتب منها.
الإجابة على هذه الشُّبه
أما قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتٰبَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ فالمراد – والله أعلم – أن الكتاب يبين أمور الدين بالنص الذي ورد فيه أو بالإحالة على السنة التي تولت بيانه، وإلا فلو لم يكن الأمر كذلك، لتناقضت هذه الآية مع قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ والتناقض مستحيل في كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فوجب معرفة أن القرآن تبيان لكل شيء بما ورد فيه صراحة بالنص أو بالإحالة على السنة النبوية المفصّلة والشارحة والمبينة.
وأما قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فالكتاب هو اللوح المحفوظ، بدليل السياق: ﴿وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طٰـئِرٍ يَطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ (الأنعام:38)، وعلى تقدير أنه القرآن فالمعنى أنه يحتوي على أمور الدين إما بالنص الصريح و إما ببيان السنة له.
وأما الحديث الذي نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذي زعموا – حسب ادعائهم أنه يفيد ضرورة عرض السنة على الكتاب، فقد قال فيه الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى –: «ما روى هذا الحديث أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر»(3)، وذكر أئمة الحديث أنه موضوع، وضعته الزنادقة، قال عبد الرحمن بن مهدي: «الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم، وقالوا: نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله، وجدناه مخالفا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله أنه لا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله؛ بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويحذر من مخالفة أمره جملةً على كل حال(4).
وأما نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن تدوين السنة فلا يدل على عدم حجيتها؛ لأن المصلحة يومئذ تقتضي تضافر كتّاب الصحابة – وهم قلة – على جمع القرآن الكريم وتدوينه وحفظه أولا خشية الضياع وخشية أن يلتبس بغيره على البعض فنهاهم عن تدوين السنة، حتى لا يكون تدوينها شاغلا لهم عن القرآن أو أن النهي كان بالنسبة لمن يوثق بحفظه.
ثم كيف يترك الاحتجاج بالسنة اقتصارًا على القرآن؟ ولا سبيل إلى فهم القرآن إلا عن طريق السنة الصحيحة، التي بها يعلم المفسّر أسباب النزول والظروف والمناسبات والوقائع الخاصة التي نزلت فيها آيات القرآن الكريم، ولا سبيل إلى معرفة كل ذلك إلا عن طريق السنة النبوية الصحيحة.
وأما إنكارهم الاحتجاج بخبر الواحد، فإنه لا أساس له من الصحة، وحسبنا في الرد على ذلك أن أسوق هذه الأدلة الصريحة من كتاب الله تعالى ومن الحديث الصحيح تثبت وجوب العمل بخبر الواحد:
– قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِنْ جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوٓا أَنْ تُصِيْبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نٰدِمِيْنَ﴾ (الحجرات:6).
والنبأ: هو الخبر، وهو نكرة في سياق الشرط فيعم كل خبر، ويدخل فيه الخبر الذي يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل غيره لأهميته، وقد أوجب الله تعالى التثبت فيه لوجود الفسق في المخبر، فإذا انتفى هذا السبب بأن كان المخبر ثقة عدلا ضابطا قبل خبره.
– ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب العمل بخبر الواحد: قوله صلى الله عليه وسلم: «نضّر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم»(5) وهناك رواية للحديث بلفظ «نضَّر الله امرءًا» والكلمتان بمعنى: (الواحد) ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر أن يؤدي عنه إلا الذي تقوم به الحجة. فدل ذلك على وجوب العمل بخبر الواحد وقد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يبعث بكتبه ويلزم المسلمين العمل بالآحاد منها.
وإجماع الصحابة المستفاد من الوقائع الكثيرة التي كانت تحدث، وتتواتر عنهم في العمل بخبر الواحد، وكثيرًا ما يكون لهم رأي في أمر من الأمور فإذا جاءهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوا به وتركوا آراءهم، كما كانوا يرجعون إلى بيت النبوة في بعض ما يحتاجون إليه.
ومما يشهد للعمل بخبر الواحد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكتفون به فيما ينزل من أحكام الدين، ولا يطلبون خبرًا آخر من ذلك ما روي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة»(6). فقد أخبرهم بتحويل القبلة واحد صادق فلو لم يكن خبر الواحد جائزا، لماتحولوا إلى الكعبة بخبره.
إننا ننادي الذين يدعون إلى الاكتفاء بالقرآن وترك السنة أن يستجيبوا لدعوة القرآن وهو يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر:7).
وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (آل عمران:31).
وقال تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوٓا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٰخِرِ﴾ (النساء:٥٩) قال ميمون بن مهران: الرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته.
وعن المقداد بن معديكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بالقرآن فيما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فعليه أن يعقبهم بمثل قراه»(7).
ومعنى قوله: «متكئ على أريكته» أي أن هذا القائل من أهل الترفه والدعة الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم من مظانه. وهذه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ونبوءة صدقتها الأيام بظهور أصحاب الآراء التي طفت على سطح الحياة وقالوا مثل هذا القول، وتهجموا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يكمل؛ بل ولا يتحقق الإيمان لدى هؤلاء القائلين بهذا القول وغيرهم إلا باستجابتهم للحديث وأخذهم به وتحكيمه في حياتهم وألا يجدوا غضاضة في ذلك، وأن يسلموا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِيٓ أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:٦٥).
* * *
الهوامش:
رواه أبوداود والترمذي.
رواه الحاكم.
الرسالة للإمام الشافعي (225).
جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (190:2).
رواه أحمد والترمذي والدارمي.
الموطأ 156 وفتح الباري، ج1 ص424 ورواه مسلم وأحمد والشافعي في الأم.
رواه أبوداود في سننه ومعنى (يعقبهم: يأخذ من أموالهم بقدر قراه).
(*) عضو هيئة العلماء.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1439 هـ = أبريل – مايو 2018م ، العدد : 8 ، السنة : 42