دراسات إسلامية

بقلم:  الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

لقد تبنّىٰ مشايخ دار العلوم وأبناؤها – بجانب تعليم أبناء المسلمين وتثقيفهم وإعدادهم لحمل لواء الإسلام- أساليب شتَّىٰ وطرقًا مختلفة لإصلاح عامة المسلمين وإرشادهم وتوجيههم وتزكيتهم، وهي فيما يلي:

1- قسم الدعوة والإرشاد والتوجيه

       لما قامت منظَّمة «آريه سماج» الهندوسية بدعوة المسلمين إلى الديانة الهندوسية في مختلف مناطق البلاد، و ذلك في أوائل القرن العشرين، أنشأت دارالعلوم قسمًا للدعوة والإرشاد والتوجيه، وبعثت منه الدُعاة إلى المناطق المصابة بهذه الدعوة الهدّامة. فبذلوا جهودًا جبَّارة لإنقاذ المسلمين من هذه الفتنة العمياء والعودة بمن ارتدُّوا إلى حظيرة الإسلام.

       ثم وسَّع القسم نطاقه، فبعث – ولايزال – الدعاة إلى مختلف أرجاء البلاد لممارسة مُهِمّة الدعوة الإسلامية، وملاحقة الدعوات الهدّامة، ومناظرة أصحاب الأهواء والفِرَق الضالة.

       وقد عمل من على منبر هذا القسم عدد كبير من الدعاة والمصلحين، أشهرهم: الشيخ أبو الوفاء الشاهجهانفوري، والشيخ حامد الأنصاري الغازي، والشيخ خليق أحمد السردهنوي، والشيخ عزير أحمد القاسمي، والشيخ هادي حسن، والشيخ معظّم علي النجيب آبادي، والشيخ يونس البغروي، والشيخ عتيق الرحمن الآروي، والشيخ السيد سيف الله الهاشمي، والشيخ السيد إرشاد أحمد الفيض آبادي، والشيخ عبد السميع الغوندوي، ومن إليهم.

       فلعلماء دار العلوم ودُعاتها نشاطات دعوية مستمرة، فلا يكاد يخلو مؤتمر أو اجتماع منهم، بل هم الذين يتزعّمون مهمة الدعوة الإسلامية في هذه البلاد.

2- إعداد  الكتب و المؤلفات

       قاموا بإعداد الكتب والمؤلَّفات والكتيِّبات، وإصدار الجرائد والمجلَّات لتعريف عامة المسلمين بعقيدة الإسلام وتعاليمه وشعائره، وتوجيههم توجيهًا دينيًّا في مختلف مجالات الحياة.

       فما صدر عن أقلامهم، وما جادت به قرائحهم من الكتب القيِّمة في موضوع الإصلاح والتوجيه يشغَل ركنًا كبيرًا من المكتبة الإسلامية العامرة، وقد نفعت هذه الكتب المسلمين نفعًا كبيرًا ،حيث لايكاد يخلو بيت متديِّن من بيوتاتهم من هذه المؤلفات والكتيِّبات، فهي  لهم خيرمعلِّم للدين وأحكامه في مختلف المناسبات والأوقات، وخير موجِّه لهم في بيتهم، يرجعون إليها إذا مست الضرورة  في شأن من شؤون الدين.

       كذلك قاموا بتأليف الكتب لإصلاح ما فسد من المجتمع، وإزاحة ما دخله من تقاليد غير إسلامية.

       بفضل هذه الكتب والمؤلَّفات عرف كثير من الناس الدينَ وأحكامه ومسائله، وتيسر لهم العمل بها دونما كُلْفة.

       كان ذلك كحملة إصلاحٍ وتوجيهٍ، اضطلع بها كثير من مشايخ الجامعة وعلمائها، على رأسهم حكيم الأمة الشيخ أشرف علي التهانوي، و الشيخ المفتي محمد شفيع الديوبندي، والمقرئ محمد طبيب القاسمي رئيس الجامعة الأسبق، وغيرهم ممن يصعُب استقصاؤهم.

3- إلقاء الخطابات والمحاضرات الدينية

       هذا إلى أنهم ظلُّوا – ولايزالون- على اتصال دائم بعامة المسلمين، يرعونهم رعاية دينيَّة، حيث يزُورونهم في قُراهم ومُدُنهم رغبةً في إصلاحهم وإرشادهم، ويعقدون معهم اللقاءات، ويُلقون فيهم المحاضرات الدينية التي يحضرها آلاف مؤلفة من المستمعين.

       وهذه المحاضرات والمواعظ تؤثر على المستمعين تأثيرًا بالغًا، حيث تذرف لها عيونهم، وتقشعرُّ لها جلودهم، ويندَمون على ماضي حياتهم، ويعزمون على الإقلاع عن المعاصي في مستقبل أيامهم.

       وقد قام – ولايزالون يقومون -كثيرمن المشايخ والعلماء والدعاة من أبناء الجامعة بهذا النوع من الإصلاح والإرشاد الديني، في طليعتهم حكيم الأمة  أشرف علي التهاتوي، وشيخ الإسلام حسين أحمد المدني، و الشيخ المقرئ محمد طيب القاسمي، والشيخ مرتضى حسن التشاندفوري، والشيخ أبو الوفاء الشاه جهانفوري، والشيخ السيد إرشاد أحمد الفيض آبادي، وغيرهم.

       وقد جُمِعَت هذه الخطب والمحاضرات الدينيّة فبلغت مجلدات ضخمة،  مثل: خطبات حكيم الأمة أشرف علي التهانوي، وخطبات حكيم الإسلام المقرئ محمد طيب القاسمي، وإصلاحي خطبات لفضيلة المفتي محمد تقي العثماني، وما إليها.

       ولهذه الخطب والمحاضرات الدينية حتى بعد التدوين تأثيروقوة يلمسها كل من يقرؤها، وذلك أنها خرجت من القلب فلا تستقر إلا في القلب.

4- الزوايا

       إنَّ التزكية هي شعبة من شعب الدين، ومهمة من مهمات النبوة، وركن من أركانها الأربعة التي بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيقها وتكميلها، وقد وردت هذه الأركان الأربعة في الآية الكريمة: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة:2].

       والتزكية عبارة عن تخلية النفوس عن الرذائل، وتحليتها بالفضائل، وتربيتها على الصفات الإيمانية والأخلاق الفاضلة، وتزهيدها في حطام الدنيا، وترغيبها في نعيم الآخرة.

       لقد زكَّى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أحسنَ تزكية، وربَّاهم أحسنَ تربية، فجعل منهم أمة أعمق إيمانًا، وأبرَّ قلوبًا، وأسمى خُلُقًا، وأحسن سيرة، وأصفى سريرة، لم يسبِق لها مثيل في التاريخ.

       بهولاء الأفراد الأفذاذ المزكاة نفوسُهم، الصافية سرائرُهم، المرضية سيرتُهم، السامية أخلاقُهم تكوَّن المجتمع المثالي الأول، وقامت الحكومة الإسلامية العادلة التي لم يُوجَد لها نظير في تاريخ الدول والحكومات.

       فالتزكية  مقصد من مقاصد النبوة، وورثة الأنبياء مطالبون باختيارها واستعمالها، وفعًلا قد اختارها العلماء في كل عصر، وتوارثوا طُرقها ومناهجها كابرًا عن كابر، وانتفع بها خلق كثير.

       وهناك مطلب شرعي آخر، وهو الإحسان  الذي  ورد شرحه في الحديث: «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» ومطلوب من المسلم أن يكون عليه لدى أداء عبادة الله وطاعته، وممارسة أعمال الدين وأحكامه.

       فالتزكية والإحسان كلاهما من مطالب الدين، و مقاصد الشريعة، نسميهما بالطريقة، أو التصوف، أو فقه الباطن على حد تعبير أحد كبارالعلماء المعاصرين.

       فإن كانت الشريعة عبارة عن عقائد، وعبادات، وأحكام، وأدعية وأذكار، وتسبيح وابتهال، فالطريقة عبارة عن الاستحضار والاحتساب، والكيفيّات التي تُصَاحِب أداء هذه الأعمال.

       هذا وقد كان لمشايخ الجامعة وعلما ئها نصيب أكبر من هذا الفن كذلك، فقد كانوا- إلى جانب براعتهم في العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وما إليها- أولي النسبة الباطنيَّة والصلة الروحيَّة وأصحاب نفوس مزكَّاة، وقلوب ملئية بصفات الإحسان والاستحضار والاحتساب، وزاهدة  في حطام الدنيا، ومقبلة على الآخرة.

       وقد تناولوا هذا الفن بالتنقيح والتعديل في ضوء الكتاب والسنة، وأزالوا ما تسرَّب إليه من خرافات وأباطيل، حتى جعلوه فنًّا إسلاميًّا بحتا يتلخص في اتباع السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام لا غيرُ.

       وقد سخَّروا هذا الفن واستعملوه خير استعمالٍ، وأقاموا له الزوايا، ليقوموا فيها بتربية عامة المسلمين على صفات الإيمان والإحسان، و تخليتهم عن الرذائل من الحسد والحقد والرياء، والتكاسل في العبادات، والتكالب على زخارف الدنيا، والتغافل عن الآخرة، وتحليَّتهم بالفضائل من الخشية والتقوى، والزهد في الدنيا، و الرغبة في الآخرة، وإكثار الذكر واتباع السنة، والعمل بأحكام الشريعة.

       والزوايا التي أقاموها في طول البلاد وعرضها كثيرة، أشهرها  زاوية المحدث الفقيه رشيد أحمد الكنكوهي بـ«كنكوه»، وزاوية الشيخ أشرف علي التهانوي بـ«تهانه بهون»، وزاوية الشيخ عبد القادر الرائفوري بـ«رائى فور»، وزاوية الشيخ محمد علي المونغيري بـ«مونغير»… وما إلى تلك.

       وكانت عامرة بعامة المسلمين المتوافدين من قاصي البلاد ودانيها الذين يتلقون فيها التربية والتزكية والإحسان  على أيدي المشايخ وتحت رعايتهم، فإذا بحياتهم قد تتبدّل غيرها، فإيمان وإحسان، واستحضار واحتساب، ومحافظة على الصلوات، واتباع للسنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، و هجر المناهي والمنكرات، و اللهج بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، وإذا بكل شيء في الحياة وفق الأحكام الإسلامية.

       وكانت هذه الزوايا بمثابة مستشفيات روحية يقصدها المصابون بالأدواء النفسيَّة، و الأسقام الباطنيَّة، ويتلقون فيها العلاج الروحيّ، ويعودون إلى بيوتهم سالمين مُعَافين.

       هذا ولهذه الزوايا جانب مهمٌّ آخر، لا يُستَهان به، وهو جانبها العلميّ والدراسيّ، فقد يستغرب القارئ إذا علم أنَّ هذه الزوايا لم تكن مجرد مراكز تربوية يرد إليها الناس ويصدرون عنها بعد قضاء وطرهم، وإنَّما كانت – بجانب ذلك- مدارس حديثية ومجامع علمية أُنْجِزَتْ فيها أعمال علمية هامَّة، فقد كان المحدث الفقيه الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي يُدَرِّس في زاويته بـ«كنكوه» لطلبة الحديث صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي وغيرها، وفيها دُوِّنَت أماليه لكتب الحديث، مثل اللامع الدراري على صحيح البخاري، و الكوكب الدُرِّي على سنن الترمذي، والفتاوى الرشيدية. 

       وأما زاوية الشيخ أشرف علي التهانوي بـ«تهانه بهون» فقد أُلِّف فيها من الكتب ما يربو على ألف كتاب، أشهرها تفسير بيان القرآن في مجلدين، وأحكام القرآن في ثمانية مجلدات، و إعلاء السنن في 18 مجلدًا، و إمداد الفتاوى في ستة مجلدات، وبهشتي زيور (المعرب باسم «المختصر في الفقه الحنفي»).

       وأما الشيخ عبد القادر الرائ فوري فقد كان في زاويته بـ«رائى فور» مهتمًا بتربية المتوافدين وتزكيتهم، ومتابعًا للحركات الهدَّامة في عصره، فقد كان كثيرالانتقاد للقاديانية معنيًّا بمكافحتها، فهو الذي اقترح على العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي الذي كان يختلف إلى زاويته لتلقي التربية الروحية، بأن يؤلِّف كتابًا بالعربية عن فرقة القاديانية يُعرِّف الأقطار العربية والإسلامية بخطر هذه الفرقة الضالة وأضاليلها، وفِعلاً قام العلامة بتأليف كتاب باسم «القادياني والقاديانية» وعرَّف العالم الإسلاميّ  بحقيقة هذه الفرقة وصاحبها المتنبئ.

       كما أنَّ زاوية الشيخ محمد علي المونغيري بـ«مونغير» قد تحولَّت إلى مركز دراسي عندما غزت القاديانية مدن ولاية «بيهار» وقُراها  تُعَدُّ فيه الكتب والمؤلفات والرسائل ردًا على هذه الفرقة الضالة وإنقاذًا للمسلمين السُّذَّج من حبائلها.

       على كل فقد تخرَّج من هذه الزوايا  مئاتُ آلاف من الناس في التزكية والإحسان، ولها خدمات تربوية وعلمية عظيمة يحتاج استعراضها إلى مجلدات ضخمة وأسفاركبيرة.

*  *  *


(*)     أستاذ بالجامعة.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1439 هـ = أبريل – مايو 2018م ، العدد : 8 ، السنة : 42

Related Posts