دراسات إسلامية

إعداد:  الأستاذ محمد مصعب القاسمي(*)

يقولُ الناس: إن مسحَ باطن الخف يُستَحَبُّ عند الأحناف كما ذَهَبَ إليه الشوافع، ويَستَدِلُّون بأقوال فقهاء الأحناف: الكاساني، والحصكفي، وعمر ابن نجيم؛ لأنهم صرَّحُوا في كتبهم أن مسحَ أسفل الخف يُستَحَبُّ بالإضافة إلى مسح أعلى الخف:

       فقال الحصكفي:

       «يُستَحَبُّ الجمع بين ظاهر وباطن طاهر»(1).

       وقال عمر ابن نجيم:

       «يُستَحَبُّ عندنا الجمعُ بين الظاهر والباطن في المسح»(2).

       وقال الكاساني:

       «والمستَحَبُّ عندنا الجمعُ بين الظاهر، والباطن في المسح، إلا إذا كان على باطنه نجاسة»(3).

       فهذه النصوصُ تدلُّ بظاهرها على أن مسحَ أسفل الخف يُستَحَبُّ عند الأحناف.

       لكن الحقَّ أن أسفلَ الخف ليس بمحلّ للمسح عند الأحناف على القول الراجح، فلا يُستَحَبُّ مسحُ أسفله.

نصوصُ فقهاء الأحناف

       هناك نصوص للفقهاء الأحناف صريحة في المذهب الحنفي، يتجلى منها أن المسألة اختلف فيها الشوافع والأحناف، وأن مسحَ أعلى الخف هو المذهبُ المختار عند الحنفية، فهاكم نصوصًا تكشفُ ما قلنا:

ابن أمير الحاج:

       قال ابن أمير الحاج:

       «المذهبُ عند أصحابنا أن ما سوى ظهر القدم من الخف ليس بمحل للمسح لا فرضًا ولا سنةً، وبه قال أحمد. وقال الشافعي: يُسنُّ مسحُهما»(4).

ابن نجيم:

       وقال ابن نجيم:

       «في المحيط: ولا يُسنُّ مسحُ باطن الخف مع ظاهره خلافًا للشافعي؛ لأن السنة شُرِعت مكملةً للفرائض، والإكمالُ إنما يتحقّقُ في الفرض لا في غيره. اهـ. وفي غيره نفي الاستحباب وهوالمراد»(5).

المرغيناني:

       قال المرغيناني:

       «والمسحُ على ظاهرهما خطوطًا بالأصابع. قال العيني: م: (والمسح على ظاهرهما) ش: أي محل المسح على ظاهر الخفين، وهو المستحبُّ عندنا، ومسحُ أسفل الخفين غير مستحب»(6).

قوام الدين الكاكي الحنفي:

       ومن أوضح العبارات دلالة على ذلك ما قالَه صاحبُ «معراج الدراية» فارقًا بين مذهب الشوافع والأحناف:

       «السنةُ عند الشافعي ومالك مسح أعلى الخف وأسفله، لما روي أنه –صلى الله عليه وسلم- مسح أعلى الخف وأسفله، وعند أحمد لا مدخلَ لأسفله في المسح لحديث علي – رضي الله عنه –: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح عليه من ظاهره، وقد رأيتُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يمسح على الخفين على ظاهرهما. رواه أبو داود وأحمد والترمذي، وقال حديث حسن صحيح، وما رواه الشافعي شاذ لايعارض هذا مع أنه ضَعَّفَه أهلُ الحديث، ولهذا قيل: إنه يُحمَلُ على الاستحباب إن ثبت. وعن بعض مشايخنا يستحب الجمع. اهـ.»(7).

       هذه النصوص تصرِّح بأن المذهبَ عند الأحناف هو عدمُ استحباب مسح أسفل الخف؛ لأنه ليس بمحلّ للمسح، وهو القولُ المشهور عندهم، ويتعاملُ به الأحناف ومن جرّاء ذلك لا يُجزِئ الاقتصارُ على أسفل الخف بالإجماع كما قاله إبراهيم بن جابر في كتاب الاختلاف(8). ومن المعلوم بداهةً أن ما لا يتحقَّقُ الفرضُ فيه لا يتحقَّقُ فيه الاستحباب؛ لأن الاستحبابَ يُشرَعُ لإكمال الفرض. فثبت أن أسفلَ الخف ليس بمحلّ للمسح عند الأحناف لا فرضًا ولا استحبابًا، وقال العلامة أنور شاه الكشميري: مسح الخف أعلاه وأسفله ليس بمُستَحَبّ عندنا ومُستَحَبّ عند الشافعية(9).

مُستَدَلُّ الأحناف

       استدل الأحناف بحديث علي رضي الله عنه عند أبي داود ولفظه:

       «عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّيْن بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْـمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ»(10).

       المراد بالأسفل والباطن محلُّ الوطء لا ما يلاقي البشرة، أي: داخل الخف؛ لأن مسحَه غيرُ ممكن، فكيف يقتضي الرأي أوْ لَوِيَّةَ مسحه؛ بل الرأي يقتضي مسحَ ما يلي الأرض لكونه محلَّ إصابة الأوساخ والأقذار؛ حيث سقط غَسلُ الرِّجل لعدم سراية الحدث إليها. قاله الحلبي(11).

       قال العثماني:

       «حديثُ علي – رضي الله عنه – صريح في أن أسفل الخف لا يُمسَح ولا مسَحَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم»(12).

       ويعضدُ مذهبَ الأحناف- بجانب الحديث المذكور أعلاه- قولُ الإمام البخاري ما نصه:

       «حدّثني محمدُ بن الصباح قال حدّثنا بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة بن شعبة قال رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم مَسَحَ خفيه ظاهرَهما وباطنَهما وهذا أصحُّ»(13).

       كما يؤيدُه قولُ ابن عمر رضي الله عنه:

       «روى ابن أبي شيبة في مسنده: حدثنا زيد بن الحباب عن خالد بن أبي بكر عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالمسح على ظهر الخفين إذا لبسهما وهما طاهرتان»(14).

الردُّ على قول الحصكفي وصاحب النهر:

       أما قول صاحب «النهر» والحصكفي فتَعَقَّبهما ابنُ عابدين، فقال:

       «(قوله ويستحب الجمع إلخ) هذا وما ذكره الشارح، تبع فيه صاحب النهر، حيث قال: لكن يستحب عندنا الجمع بين الظاهر والباطن في المسح، إلا إذا كان على باطنه نجاسة كذا في البدائع. اهـ. أقول: الذي رأيته في نسختي «البدائع» نقله عن الشافعي، فإنه قال: وعن الشافعي أنه لو اقتصر على الباطن لايجوز، والمستحب عنده الجمع إلخ، فضمير الغيبة راجع إلى الشافعي، وهكذا رأيته في التتار خانية»(15).

       عُلم بذلك أن استحبابَ مسح أسفل الخف هو قول الشافعية، لاقول الحنفية. ومن هنا قال الكشميري:

       في الدر المختار: أنه مستحبّ عند بعض مشايخنا، ورد عليه ابن عابدين بأنه ليس قول أحد من مشايخنا، منشأه غلط صاحب الدر عبارة «البدائع» اهـ(16).

الجواب عن حديث المغيرة رضي الله عنه عند الترمذي

       أما حديثُ المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – عند الترمذي الذي احتجت به الشافعيةُ، فهو معلولٌ، وقد أطال الكلامَ عليه العلامة الزيلعي في نصب الراية، والحافظ ابن حجر في «التلخيص»، والعلامة العيني في «البناية شرح الهداية»، لكن يكفينا ما قالَه العلامة المحدّث أنور شاه الكشميري:

       «وعندي وجـهٌ آخر للإعـلال، وهو أن حديثَ الباب مروي عن المغيرة بن شعبة بستين طريقًا أو أزيد منه كما قال البزار في مسنده، ولا يروي أحدٌ لفظ «أسفل» سوى هذا الراوي، فيكون معلولًا قطعًا»(17).

*  *  *

الهوامش:

الدر المختار مع رد المحتار: 268/1، ط: دارالفكر، بيروت، الطبعة الثانية: 1412هـ/1992م.

النهر الفائق: 1/118، كتاب المسح على الخفين، ط: دارالكتب العلمية، بيروت، لبنان، تحقيق: أحمد عز وعناية، 1422هـ/2002م.

بدائع الصنائع: 12/1/، كتاب المسح على الخفين، ط: دارالكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية: 1406هـ/1986م.

حلبة المجلي، ص:4، ط: دارالكتب العلمية، بيروت.

البحر الرائق: 66/1، ط: دارالكتب العلمية، بيروت.

البناية: 588/1، ط: دارالكتب العلمية، بيروت.

رد المحتار على الدر المختار: 268/1، ط: دارالفكر، بيروت، الطبعة الثانية: 1412هـ/1992م.

بدائع الصنائع: 12/1، كتاب المسح على الخفين، ط: دارالكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية: 1406هـ/1986م.

العرف الشذي: 130/1، باب ما جاء في المسح على الخفين: أعلاه وأسفله، ط: دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى: 1425هـ/2004م، تحقيق: محمود شاكر.

أبوداود، رقم: 162، باب كيف المسح، قال العسقلاني: رواه أبوداود بإسناد حسن. بلوغ المرام: 20/1، ط: دار أطلس للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية.

غنية المستملي، ص:98، دارالكتاب، ديوبند.

إعلاء السنن: 343/1، باب طريقة المسح على الخفين، ط: إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي، الطبعة الأولى: 1418هـ، تحقيق: تقي العثماني.

التاريخ الأوسط: 292/1، برقم: 1424، ط: مكتبة دارالتراث، حلب، القاهرة، الطبعة الأولى: 1397هـ/1977م، تحقيق:محمود إبراهيم زايد.

نصب الراية: 181/1، باب المسح على الخفين، ط: مؤسسة الريان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى: 1418هـ/1997م.

ردالمحتار على الدرالمختار: 268/1، ط: دارالفكر، بيروت، الطبعة الثانية: 1412هـ/1992م.

العرف الشذي: 130/1، باب ما جاء في المسح على الخفين: أعلاه وأسفله، ط: داراحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى: 1425هـ/2004م، تحقيق: محمود شاكر.

المصدر السابق.

*  *  *


(*)          المفتي المساعد بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1439 هـ = أبريل – مايو 2018م ، العدد : 8 ، السنة : 42

Related Posts