دراسات إسلامية

بقلم:  الأستاذ أبو الكلام القاسمي(*)

سنة الله مع أنبيائه جميعًا أن يبعثهم بالمعجزات التي تدلّ على تصديقهم وقبول دعوتهم. وهذه الأمور الخارقة للعادة شاهدة لهم بأنهم رسل الله إلى خلقه، وحجةٌ بالغةٌ على من بلغته هذه المعجزات ومن لم يؤمن بالأنبياء بعد هذه يستحق العقاب، وكانت هذه المعجزات من جنس ما اشتهر به أقوامهم، فلما كان قوم فرعون قد اشتهروا بالعلوم الرياضية والطبيعيّة والسحر والصناعة، بعث الله إليهم موسى عليه السلام بمعجزة تناسب عقولهم واستعداداتهم الفكرية، وهي العصا، التي تنقلب إلى حية تسعى، وبهذه المعجزة يظهر الفارق بين قدرتهم البشرية المتمثلة في السحر وقدرة الله المعجزة. ولما كان الرومانيون قد اشتهروا بعلم الطب، بعث الله إليهم عيسى عليه السلام بمعجزة إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى  بإذن الله.

       ولما كان العرب قد اشتهروا بعلوم اللغة حتى بلغوا من الفصاحة والبلاغة والبيان درجةً لم تتفق لغيرهم من الأمم جعل الله المعجزة الكبرى لمحمد صلى الله عليه وسلم كتابًا معجزًا لهم ولسائر الخلق في نظمه وأسلوبه، وفصاحته وبلاغته، فقامت عليهم الحجة بأقوى مما قامت معجزات موسى وعيسى  عليهما السلام على قومهما.

       إنّ القرآن الكريم ينطوي على آياتٍ بيّناتٍ كثيرةٍ فيها حقائق علمية على غاية من الأصالة والموضوعيّة فيما يتعلّق بالكون بما فيه السماوات والأرض والنجوم والكواكب وتعاقب الليل والنهار، ثم جاء عن خلق الإنسان وتطوره جسمًا وعقلًا وروحًا، ثم ما ذكره عن الحيوانات والحشرات والنباتات والبحار والمحيطات وغير ذلك من الكائنات والمخلوقات، وما فيه من آيات بيّنات تحفظ على الإنسان صحته وتديم له نشاطه، وكل ذلك لم يكن الإنسان قبل نزول الآيات ولا بعد نزولها بزمن طويل يعلم عن حقائقه شيئا، ظل ذلك سرًّا مطويًا عن العقل البشري، ليكشف عن أسرارها ونواميسها شيئًا فشيئًا حسب ما لديه من علومٍ ومعارف وحسب ما يتوصل إليه من حقائق علمية ثابتة، فيدرك بذلك أن القرآن إنما هو وحي من عند الله، وما كان لنبي أمّيّ أن يأتي بمثل هذه الحقائق القرآنية العلمية الثابتة من عند نفسه كما أن القرآن الكريم أشار إلى كثير من العلوم الحديثة في آية واحدة فقط وهي:

       ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالْأَرْضِ لَآيٰتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(1).

       فإن الله أشار في هذه الآية إلى علم الفلك والجغرافية وعلم البحار والأحياء والأرصاد الجويّة وعلم الزراعة. بعد التأمل في هذه الآية نجد الإشارات إلى جميع هذه العلوم الحديثة فهذا هو الإعجاز العلمي في آية واحدة فقط.

       إن الله جعل هذا الكون العجيب كتابًا مفتوحًا يقرؤه كل من يتأمله بعين العقل والفكر والوِجدان، يتّضح أمام بصيرته ما فيه من روعة وجمال وبهاء، وما أودعه الله نظامهَ الدقيق من قوانين تحكمه وتنظمه. وقد استطاع أولو الألباب من العلماء أن يلمسوا الصلة الوثيقة بين ما أوحى الله به وما كشف عنه العلم الحديث بعد عدة قرون بعد نزوله على سيدنا محمد العربي صلى الله عليه وسلم، ويطيب لي أن أستعرض هنا بعضًا من آيات الذكر الحكيم التي تشتمل على الجانب العلمي الحديث.

       ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلٰى قٰدِرِينَ عَلىٓ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه﴾(2)

النظرة العلمية:

       يقول المهندس رائف نجم يوسف: «لأول وهلة لا يظهر شيء من الإعجاز في هذه الآية، ولكن عند التعمق نرى أن الله عزّوجلّ ركز على ذكر البنان، وهذا الجسم الصغير من جسم الإنسان يؤكد عليه الخالق المبدع، ماذا في الإصبع حتى يخصّص له آية كريمة في القرآن الكريم، وهناك أعضاء في جسم الإنسان أهم من الإصبع، لماذا لم تقل الآية مثلا» بلى قادرين على أن نسوي عقله أو قلبه أو سمعه وبصره؟.

       إذًا في الإصبع شيء هام، إن المقصود هنا هو خطوط البصمة الموجودة على الإبهام وعلى جميع أطراف الأصابع والمنظمة تنظيمًا هندسيًا رائعًا، يختلف من إنسان لآخر من يوم الخليقة إلى يوم القيامة، ولكن هذا الاختلاف لم يأت عشوائيًا؛ بل حسب نظامٍ معيّنٍ اكتشفه علماء الغرب قبل المسلمين كعلم من العلوم.

       إن الاكتشاف العلمي للبصمة كان في سنة 1823م حيث نشر البروفيسور “Rurkinji” المختص بعلم التشريح مُذكّرة تشير إلى أقسام خطوط البصمة، وفي سنة 1880م نشرت أول لوحة لبصمات المجرمين في مجلة إنجليزية تدعى Nature وكان الناشر الدكتور Henry الذي كان يعمل لحساب إحدى مستشفيات طوكيو الذي أكّد أن بصمة الإنسان لا تتغير مدى الحياة»(3).

       وبهذا ندرك أن البصمات أدلّ على إنسان من وجهه وأدلّ من صورته وهو من أخص خصائصه، فهذه الآية دليلٌ قاطعٌ على أن القرآن من الله؛ إذ من المحال أن يعرف الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم الذي نشأ في جبال مكة وصحاريها أن لكل بنان من البشر رسومًا تختلف عن الآخرين، وكيف يعرف هذا السر، فهذه حقيقة لم يكشف عنها العلماء إلا في العصر الحديث، وبعد بحث دقيق وجهد طويل، وموازنة بين أصابع الملايين من الناس وفحصها(4).

       ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰـهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(5).

النظرة العلمية:

       لقد خصّت الآية جلود الكفار بالعذاب، فكلّما نضجت جلودهم بدّلهم الله جلودًا غيرها، لماذا لم يخصّ اللحم والدم والعظام بهذا العذاب؟

       «لقد كشف علم الطب عن الإعجاز في هذه الآية الكريمة بعد نزولها بقرون عديدة، وهو أن أعصاب الألم تنتشر في الطبقة الجلدية، وأن الطبقة الجلدية حسّاسة تشعر شعورًا مرهفًا دقيقًا بأي لمسة و أي صدمة، أما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية فالإحساس فيها ضعيف، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألمًا شديدًا بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد بعدما تأكله النار إلى الأنسجة؛ فإنه بالرغم من شدته وخطره لا يحدث ألمًا كثيرًا»(6)

       ولذلك فإن التخدير الذي يجري للإنسان أثناء العمليّات الجراحيّة إنما يقصد به الجلد، فلو عمدت إلى تقطيع أمعاء إنسان وهو ينظر لما شعر بشيء بينما وخزة دبوس في جلده تؤلمه. وذلك لأن شبكة الأعصاب الدقيقة التي تنتشر أطرافها في الطبقة الجلدية تشعر بالإحساس بالحرارة والبرودة والألم والراحة.

       وهكذا فقد كشف علم الحديث أن مراكز الإحساس بالألم موجودة بالجلد بما يثبت إعجازًا علميًّا لهذه الآية الكريمة التي نزلت في عصر لا علم لهم بهذه الحقيقة العلمية الحديثة. وأن هذا الكلام نزل منذ قرون بعيدة على لسان نبي أمي لم يدرس علم الطب ولا التشريح وهذا يدل على أن هذا كلام ربّ محمد العليم الخبير وعلّام الغيوب. 

       ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعٰمِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّـٰرِبِينَ﴾(7).

النظرة العلمية:

       تُوجّه هذه الآية عقولنا إلى الاعتبار بما في حكمه الله تعالى من إبداع، وبما في خلقه وصنعه من روعة، حيث جعل اللبن يخرج من بين الفرث (وهو فضلات الطعام) وبين الدم، وهذا يوضح ما كشف عنه علم وظائف الأعضاء في الأجسام أن الحليب قبل أن يصير إلى الثدي يتم تصفيته من الفضلات، وذلك بعد الهضم، ونزول السائل الحليبي إلى الأمعاء، إذ تقوم الزغيبات المعوية بامتصاص المواد الغذائية طارحة إياها في الدم، ومبقية الفضلات في الأمعاء حيث تطرح خارج الجسم، وأما المواد الممتصة التي طرحت في الدم فإن قسمًا يغذي الجسم، وقسمًا آخر تصفيه الغدد اللبنية من الدم وترسله إلى الضرع حليبًا خالصًا سائغًا للشاربين، فالحليب (المادة اللبنية الناتجة عن الكيلوس وهو عبارة عن نواتج هضم الغذاء) يخرج من الفضلات والدم. فسبحان الله الذي يجعل غذاء الحيوان من حشائش وحبوب تتحول إلى لبن هو خير غذاء للإنسان والحيوان؛ لأنه غني بكل ما يحتاج إليه الجسم من عناصر ضرورية لحياته وصحته(8).

       وهكذا يثبت العلم ما أثبته القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنًا  وهو الإعجاز العلمي لهذا الكتاب العظيم التي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

       ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثٰى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾(9).

النظرة العلمية:

       لقد قررت الأبحاث الطبية والنفسية أن الوجه مرآة النفس،  وذلك لأن شكل الوجه يتوقف على الحالة التي تكون عليها العضلات التي تتحرك داخل الدهن تحت الجلد، وتتوقف حركتها على حالة أفكارنا وانفعالاتها، فالغيظ المكظوم يظهر على الوجه فيحتقن ويظهر محمرًا أولًا، وإذا اشتد كظم الغيظ وطال أمد احتقان الوجه يبدو مسودًًّا وهو ما يشاهد فعلًا بوجه من اشتدّ غيظه وطال(10).

       ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(11).

النظرة العلمية:

       إن الإعجاز العلمي كل الإعجاز في هذه الآية الكريمة يتجلى بأجلى معانيه في لفظة (اتخذت) بصيغة الفعل المؤنث وهى إشارةٌ علميةٌ في غاية الرَوعة والدقّة، للدلالة على أن ما يقوم ببناء بيوت العناكب هي الأنثى منه، وأن الذكر من العناكب لا شأن له بذلك، وهذه حقيقة ما كان أحد مطلقًا يفطن إليها وقت نزول القرآن الكريم، ولكن لما اشتغل علماء الأحياء حديثًا بدراسة الحشرات ووضعوا في دراستها علمًا قائمًا بذاته تبينت لهم حقائق مذهلة عن حياة الحشرات التي تبلغ مئات الآلاف في أنواعها، وأن كل نوع منها يتميز بأشكاله وأحجامه وألوانه وطبائعه وغرائزه المميزة لكل نوع منها عما سواه، وقد دلت الدراسة المستفيضة للحشرات أن بعضها له حياة اجتماعية ذات نظم ومبادئ وقوانين تلتزم بها في إعداد مساكنها والحصول على أقواتها والدفاع عن نفسها والتعاون فيما بينها بصورة تدهش العقول وذلك بإلهام من خالقها الذي يجعلها تبدو وكأنها أمم لها كيان ونظام وعمران.

       ومن دراسة حياة العناكب لاحظ العلماء أن بيت العنكبوت له شكلٌ هندسيٌ خاص دقيقُ الصنع ومقام في مكان مختار له في الزوايا أو بين غصون الأشجار وأن كل خيط من الخيوط المبني منها البيت مكوّن من أربعة خيوط أدق منه، ويخرج كل خيط من الخيوط الأربعة من قناة خاصة في جسم العنكبوت، ولا يقتصر بيت العنكبوت على أنه مأوى يسكن فيه؛ بل هو في نفس الوقت مصيدة تقع في بعض حبائلها اللزجة الحشرات الطائرة مثل الذباب وغيره لتكون فريسة يتغذى عليها، وإنه لمنظر يثير الدهشة حقًا عندما يرى الإنسان هذه الحشرة الرقيقة تتحرك بأرجلها الدقيقة بسرعة بين خيوط بيتها الواهي لتمسك بفرائسها، فسبحان الله الذي خلق كل شيء وقدّر كيانه تقديرًا وألهمه حياته تنظيمًا وتدبيرًا. ومع أن عالم الحشرات من العوالم المحجبة بأسرارها عنا ولا يعلم بعض خفاياها إلا الدارسون لها إلا أن القرآن الكريم اهتم بأمرها، وسمى بعض سوره بأسماء حشرات منها مثل سورة النمل وسورة النحل وسورة العنكبوت ليلفت أنظارنا إلى قدرة خالقنا القدير وحكمة ربنا الحكيم وإحاطة ربنا العليم بعالمها، والله سبحانه لم يخلقها عبثًا؛ بل له حكمة عليا في النافع منها والضار وفي الظاهر منها والخفي، أنه سبحانه الذي أتقن كل شيء خلقه وله في كل شيء آية تدل على أنه الواحد.

       ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾(12)

النظرة العلمية:

       أقرّ العلم الحديث أن الماء أصل الوجود وقوَام الحياة والمكوّن الأصلي في تركيب مادة الخليّة الحيّة. والخليّة هي وحدة البناء في كل شيءٍ حيٍّ، نباتًا كان أو حيوانًا، كما أن علم الكيمياء في أبحاثه الحديثة أثبت أن الماء عنصر لازم وفَعّال في كل ما يحدث من التحولات والتفاعلات التي تتم داخل الأجسام، ولذا فإن الماء هو السائل الوحيد الذي لا غنى عنه لأي كائنٍ حيٍ، مهما كان شكله أو حجمه  ابتداءً من الميكروبات الدقيقة – التي لا يمكن للعين المجردة أن تراها – وانتهاء الفيلة والحيتان أضخم الكائنات الحيّة الموجودة على الأرض وفي البحار(13).

       ومن الأهمّية القُصوى للماء أن خلايا الجسم تطلبه بشدّة، ولا يمكن لها أن تستمر في أداء وظائفها أو نموها، أو حتى تواجدها بدونه، حيث تستمد حاجتها من الماء من خلال الدم الذي تبلغ نسبته فيه حوالي 83٪ ولذلك حينما تقل كمية الماء بالجسم، وتحتاج الخلايا إلى المزيد من الماء. نجد أن الجسم يرسل إشارتين على الأقل إلى جهتين:

       الأولى: عندما تقل نسبة الماء في الدم يزداد تركيز الأملاح فيه، ولكي يعوض الدم ذلك نراه يستخرج الماء من غدد اللعاب الموجودة في الفم، وتكون النتيجة جفاف الفم والشعور بالحاجة إلى شرب الماء.

       والثانية: يرسل الدم إشارةً إلى الدماغ يبلغه فيها بنقص الماء وعندئذ توجد الرغبة في شرب الماء(14).

       وإذا كانت هذه هي أهمّية الماء للإنسان، فإن أهمّيته للنبات لا تَقِلّ عن ذلك، فالنباتات تَمتص الماءَ من التُربة، وبه الغذاء اللازم لنموه من الأملاح المعدنية الموجودة بالتُربة، ويكون انتقال هذه الأملاح الضرورية لنمو النبات في صورة محاليل مائية أيضا، تمتصها الجذور من التربة(15). ومن هنا الإعجاز العلمي في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(16).

       ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والترآئب﴾(17).

النظرة العلمية:

       إن هذه الآية لمِن معجزات القرآن العلمية، إذ لم يعرف إلا قبل الخمسين سنة الماضية فقط أن مني الرجل إنما يتكوّن من صُلبه، أي ظهره، وإن بويضات النساء تتكوّن من عظام صدرها، أي ترائبها، وهذا ما أوضَحَه القرآنُ الكريم للعالَم قبل أربعة عشر قرنًا من أن مكان إفراز المني في الرجل هو الظهر وفي النساء الترائب. ثم بيّن مراحل تكوين الإنسان وهو في بطن أمه.  

       وقد ظهر من الدراسات الطبية الحديثة أن الصلب هو مِنطقة العمود الفقري للرجل، وأن الترائب هي عظام الصدر للمرأة، كما أظهرت الدراسات للتحاليل الكيمائية أن الماء الدافق هو سائل الرجل المنوي الذي يحتوي على الحيوانات الحيّة في النطفة، وقد سُمّي دافقًا؛ لأنه يندفع وقت المُلامسة الجنسية من ذَكَر الرجل وحده دون الأنثى التي لا يتدفق منها سوى إفرازات تسيل لمجرد تليين الجهاز التناسلي وترطيبه.

       ثم استطرد القرآن ليقصّ الحقائق الطبيّة والنظرات العلمية في كيفية خلق الإنسان حيث قال: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنٰهُ سَمِيعًا بَصِيرًا»(18).

       فإن الله قرّر في هذه الآية أن خلق الإنسان لا يتم من نطفةٍ واحدةٍ؛ بل من أمشاج أي أخلاط، هي نطفة الرجل، وهو الحيوان المنوي – ويسبح في المني ملايين من العلق أي الحيوان المنوي –  ونطفة المرأة، وهي البويضة.

       وإن الميكروسكوب هو الذي استطاع به العلماء أن يكشفوا وجود العلق في نطفة الرجل، ولم يكن هذا إلا في العصر الحديث. والقرآن الكريم بيّن هذا الإعجاز العلمي قبل أربعة عشر قرنًا(19).

       إن النبي الأمي محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جاء بالمعجزة التي لم يكن هو ولا قومه ولا عصره يعرف شيئًا منها مثلَ علوم الطب والفلك والرياضيات والكيمياء والجيولوجيا والهَندسة والتكنولوجيا وعلوم الإنسان والحيوانات والنبات والحشرات وغير ذلك من مختلف العلوم التي هدى الله بها الإنسان في القرآن الكريم إلى أن يتعلم ما لم يعلم من علم الله الذي «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ».

       ومما لا شك أن فهمَ مدلولات كثير من الآيات الكريمة أصبحت سهلةً بعد الاستكشافات الحديثة والتي آمن بها الأوّلون بمُجرد كونها كلامَ الله اللطيفِ الخيبرِ. ويجدر بالذكر أن كثيرًا من الأشياء سوف تصبح واضحةً كالشمس في رائعة النهار بعد الاستكشافات الجديدة في الأيام الآتية، وأن معجزة الذكر الحكيم سوف تستمر إلى يوم القيامة إن شاء الله كما قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ اٰيٰتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِيٓ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(20).

*  *  *

الهوامش:

(1)      سورة البقرة: 164.

(2)      سورة القيامة: 4 .

(3)      الإعجاز العلمي في القرآن برهان البنوة لرائف نجم يوسف / ص:24- 25

(4)      الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / ص 189- 191 ( بتصرف).

(5)      سورة النساء: 56 .

(6)      معجزة القرآن لنعمت صدقي / ص 180.

(7)      سورة النحل: 66 .

(8)      وجوه من الإعجاز القرآني لمصطفى الدباغ، ص 171- 172 (بتصرف)

(9)      سورة النحل: 58 .

(10)    القرآن وإعجازه العلمي لمحمد إسماعيل إبراهيم،ص 167.

(11)    سورة العنكبوت: 41.

(12)    سورة الأنبياء: 30.

(13)    الماء في القرآن الكريم لفتحي عبد العزيز الفبادسة / 99.

(14)    خواطر علمية بين الدين والعلم لمحمد عبد القادر الفقي / 85.

(15)    الإعجاز العلمي في الإسلام لمحمد عبد الصمد / ص 183.

(16)    سورة الحج: 5 .

(17)    سورة الطارق : 7.

(18)    سورة الإنسان: 2 .

(19)    الإعجاز العلمي في القرآن برهان البنوة لرائف نجم يوسف / ص:183 – 185.

(20)    سورة فصلت / 53.

*  *  *


(*)    محاضر ضيف وباحث بقسم اللغة العربية وآدابها

          الجامعة العالية، بكولكتا، الهند.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1439 هـ = أبريل – مايو 2018م ، العدد : 8 ، السنة : 42

Related Posts