إشراقة

مشاورةُ ناصح أمين في الأمور التي تُهِمُّ الإنسانَ ضمانُ نجاح عاجل، ولايستغني عن المشورة إلّا الأحمقُ الذي يَحْسبُ أنّه هو وحده العاقل المُدَبِّر الذي يستجمع الصفات التي جَعَلَتْه مكتملًا مُؤَهَّلًا لاتخاذ قرارات صائبة وآراء سديدة؛ فكلُّ ما يصنعه صادرًا عنها يصيب ولا يُخْطِئ؛ فلا يرى حاجةً إلى استشارة أيٍّ من العقلاء المُحَنَّكين المُجَرَّبين الذين حلبوا الدهرَ أشطرَه. مثلُ هذا المُسْتَبِدّ برأيه، الواثق بنفسه ثقةً زائدةً، كثيرًا ما يجني الإخفاقَ، ويقطف الشوكَ والقتادَ؛ ولكنه للإخلاد غير اللائق إلى فهمه لا يدرك مصدرَ الإخفاق، ولا يتفطّن لأسباب الخيبة التي وَاجَهَتْه في سبيل تحقيق غرض كان قد تَصَدَّىٰ له.

       الذين لايملكون القدرةَ على التمييز بين النجاح والإخفاق، ويَتَعَوَّدُون مُوَاجَهةَ الخيبة، ويَظُنُّونها شيئًا عاديًّا يعترض طُرُقَ الحياة، لا ينتبهون للخسارة، فضلًا عن الانتباه لأسبابها، وفضلًا عن الشعور بالحاجة إلى تلقّي المشورة من غيره من العقلاء، التي لو تَلَقَّاها لكان من شأنهاأن تُجَنِّبَه الخيبةَ التي أصابتْه فيما يتعلق بالغرض الذي كان بسبيل تحقيقه.

       ومن استشار غيره الذي وَجَدَه أعقلَ منه وأفطنَ وأذكى، ضَمَّ عقلَه إلى عقله، فازداد عقلًا و وعيًا وإدراكًا لوجه الصواب في القضية التي استشاره فيها؛ لأن المرأ مهما كان عاقلًا فإنه يكون ناقصَ العقل إذا قسناه بمجموعة من العقول أو جمعناه مع غيره من عقل شخص آخر؛ فمن عَمِلَ بمبدإ الشورى، فذلك يعني ألبتة أنه يتمتع بكمال العقل والنبل والمروءة؛ لأنه لم يثق بعقله، ولم يَرَه أكملَ من غيره، فلا يحتاج إلى مساعدته بالرأي والمشورة، وإنما اتَّهَمَه واسْتَضَاءَ بعقل آخر رآه أعقلَ من عقله. لاشكَّ أن من يقتصر على رأيه، ويثق بعقله وحده، هو رجل ناقص ضعيف عاجز، تُصَاحِبه حيرةٌ دائمة، وتَسْتَبِدَّ به وَرْطَةٌ مستمرة.

جاء في الأثر: «ما خاب من استشار ولا نَدِمَ من استشار» (المعجم الأوسط:6627) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (661-728هـ = 1263-1328م): «ماندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره» (المستدرك على مجموع الفتاوى: 3/113).

       وقال الحسن البصري – رحمه الله تعالى – (21-110هـ = 642-728م): «ما تشاور قوم إلّا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم» (رواه البخاري في الأدب المفرد، راجع: تخريج أحاديث الكشاف:1153).

       المنتبهون للحاجة للاستشارة في أمور الحياة سُعَدَاءُ من الجهتين: من جهة أنهم في الأغلب يتمكنون من تحقيقها – أمور حياتهم – بشكل صائب وناجح وسهل للغاية ببركة المشاورة مع من تَفَرَّسُوا فيه الإخلاصَ والأمانةَ والحُنْكَةَ والحكمةَ؛ ومن جهة أنهم عَمِلُوا بما أمرهم به الله تعالى ورسوله من المشاورة في أمور الحياة والقضايا الفرديّة والجماعيّة.

       قال تعالى:

       «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» (الشورى:38).

       إن الله تعالى في هذه الآيات جعل الشورى من صفات المؤمنين الصالحين المستجيبين لربهم، فأَوْرَدَها بين ركنين عظيمين من أركان الإسلام، وهما: الصلاة والزكاة.

       ولأهميّة الشورى في دين الإسلام المرضيّ لدى الله للعالمين، سَمَّى الله تعالى سورةً بـ«الشورى» ويكفي لأهمية المشورة أنه تعالى كَلَّفَ نبيَّه المصطفى ورسولَه المرتضى محمدًا –صلى الله عليه وسلم- مشاورة أصحابه، رغم كونه مُوَيَّدًا بالوحي، فقال تعالى:

       «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (آل عمران:159).

       وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إذا استشار أحدُكم أخاه فلْيُشِرْ عليه» (سنن ابن ماجه: 2747) فدَلَّ الحديث أن المستشار، عليه الإشارةُ على المستشير بما يراه خيرًا له ومُدِرًّا له النفعَ ومُجَنِّبًا له الضرَّ، ولايجوز له السكوت أو الاحتراز عن إعطاء المشورة.

       وقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الإشارة عن غير رشد ومداولة رأي وإعمال تفكير وفي غير مبالاة، فقال –صلى الله عليه وسلم-:

       «من تَقَوَّلَ عليّ مالم أقل، فَلْيَتَبَوَّأْ مقعدَه من النار، ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رُشد فقد خانه، ومن أفتى بفُتْيَا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه» (مسند أحمد: 8266).

       وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «البِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، والثَيِّبُ تُشَاوَرُ، قيل: يا رسول الله! إن البكرَ تَستحيي. قال سكوتُها رضاها» (مسند أحمد: 7131).

       وعن علي ابن أبي طالب –رضي الله عنه– قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «لو كنتُ مُوَمِّرًا أحدًا من غير مشورة لَأَمَّرْتُ ابنَ أم عبد» (الترمذي:3808).

       وعن أبي هريرة –رضي الله عنه– قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: إذا كان أمراؤكم خيارَكم، وأغنياؤكم سُمَحَاءَكم، وأمورُكم شورى بينكم، فظهرُ الأرض خيرٌ لكم من بطنها؛ وإذا كان أمراؤكم شرارَكم، وأغنياؤُكم بخلاءَكم، وأمورُكم إلى نسائِكم، فبطنُ الأرض خيرٌ لكم من ظهرها» (الترمذي:2266).

       وقد أكثر النبي –صلى الله عليه وسلم- من مشاورة أصحابه رجالًا ونساءً، في كل مالم ينزل به نصٌّ قرآنيّ؛ لأن ما نَصَّ عليه كتابُ الله تعالى لايجوز فيه إجراء المشاورة ومناقشة الآراء. قال تعالى:

       «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا» (الأحزاب:36).

       فاستشار –صلى الله عليه وسلم- أوّلَ ما بُعِثَ زوجتَه خديجة بنت خويلد– رضي الله عنها- وفي أسرى بدر أبابكر وعمر – رضي الله عنهما – ويوم أحد استشار أصحابَه في الخروج للقتال من المدينة أو المكث فيها، واستشار يومَ الخندق سلمان الفارسي –رضي الله عنه– وغيره من أصحابه، واستشار السعدين في ثمار المدينة.

       كما كان يقول لأصحابه – حسبما أورده البيهقي في دلائل النبوة 3/110 – : «أشيروا عليّ أيّها الناس!» فأشار عليه الحبابُ بنُ المنذر في موقع غزوة بدر.

       وشاور عليًّا وأسامة فيما رمى به أهلُ الإفك عائشةَ –رضي الله عنها– فسمع منهما رأيهما ومشورتهما، حتى نزل القرآن، فحَسَمَ الأمرَ، فجَلَدَ الرامين، ولم يلتفت إلى تنازع الرامين والشاكّين والمتوقّفين في الأمر، وحَكَمَ –صلى الله عليه وسلم- بما أمره الله به.

       وقد سار سيرتَه –صلى الله عليه وسلم- الصحابة والتابعون ومن بعدهم طوال التاريخ الإسلامي، فمن المعلوم أن أبابكر –رضي الله عنه– جعل عمرَ عنده عندما سَيَّرَ جيشَ أسامة بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- فجَعَلَه عضدًا له وشَاوَرَه في ذلك. وأَسَّسَ عمر –رضي الله عنه– مجلسًا للشورى، وكان كثيرًا ما يستشير ابنَ عباس، ويقول له: «غُصَّ غَوَّاص» رغم أنه كان صغيرَ السنّ. وهكذا ظلّت الشورى أمرًا مُتَّبَعًا بين الصحابة والتابعين وعلماء الأمة الراسخين اللاحقين.

       وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يستشير صاحِبَيْه: أبابكر وعمر –رضي الله عنهما– لأنّهما كانا وزيرين له؛ فقــــــد روى ابن عباس –رضي الله عنهما – أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من نبي إلّا له وزيران من أهل السماء، و وزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبوبكر وعمر» (الترمذي:3680).

       قال أبوهريرة –رضي الله عنه–: «ما رأيتُ أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-» (الترمذي:1714).

       واعتبر النبي –صلى الله عليه وسلم- المشورةَ أمانةً ونصح المُسْتَشَارَ أن يكون على مستوى الأمانة، والمسؤولية، فقال –صلى الله عليه وسلم-: «المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» (رواه الترمذي:2823).

       والشورى هي الطريق الوحيد للتوصّل إلى الرأي الجماعيّ الذي يكون أَصْوَبَ وخيرًا للفرد والمجتمع معًا من الرأي الفردي والشخصي؛ لأن الإنسان مهما بلغت درجةُ خبرته وتجربته، ونضجه العقليّ، وإدراكه الفكري، وثقوبه النظري، وفطانته الطبيعيّة، وذكائه الموهوب، لن يُفَكِّر تفكيرَ الجماعة من أهل الرأي والنصح، والإخلاص والأمانة؛ فهو محتاج دائمًا إلى مشاورة الآخرين؛ ليهتدي إلى الأَصْوَب الأنضج من الرأي.

       فالفَلَّاحُ، والصانعُ، والمحترفُ، والتاجرُ، والمُهَنْدِس، والطبيب، والإداريُّ، والمُدَرِّسُ، والكاتبُ، والمُؤَلِّفُ، والأديبُ، والشاعرُ، والمُفَكِّرُ، ومن إليهم من رجال مجالات الحياة التي لا تُحْصَىٰ، صغارًا كانوا أو كبارًا، معروفين كانوا أو خاملين.. كلٌّ في مجال عمله يحتاج إلى مشاورة غيره ليُحَقِّق الفائدةَ المرجوَّةَ، ويَتَجَنَّب الأضرارَ التي قد تلحقه، إذا اسْتَنَدَ إلى القرار الذي يتخذه صادرًا عن تفكيره الشخصيّ ورأيه الفرديّ. إن الرأي الجَمَاعِيّ المُسْتَخْلَص من التشاور ومناقشة الآراء، يفتح دائمًا المغاليقَ، ويزيل العوائق عن مجال العمل، ويتفادى بالمرء من المهالك والأخطار التي قد تكون مُدَمِّرَة له ولمن يتعلّق به ويشاركه في ساحة العمل.

       أجل، إن الشورى يحتاج إليها الفردُ – مهما بلغ من العلم والفضل درجةً يَصْعُب الارتقاءُ إليها – وتحتاج إليها الأسرةُ، وتحتاج إليها الجماعةُ، وتحتاج إليها الدولةُ. والمستغني عنها يَتَخَبَّط خبطَ عشواء في دروب العمل وطرق الحياة، وتلتبس عليه الأمورُ، ولا يكاد يتبيّن فيها المواردَ والمصادرَ، وتَخْذُلُه الحِيَلُ، وتَضِلُّ عليه السُّبُلُ.

       ولذلك أَكَّدَ العلماءُ والمفكرون والخبراءُ أن الشورى عبادة، وهو طريق مباشر إلى البحث عن الحق والصواب، ووسيلة للتوصّل إلى المواهب والقدرات، واستعلام لمعادن الرجال، وجمع لقلوب طالبي الخير على الإيمان والرشد والصلاح والنفع، وأكثر من ذلك أنها طريقةٌ سديدة لتربية الأمة، وبناء لقواها الفكرية، وتركيز لجهودها على نقطة النفع والربح والسعادة، وإبعادٌ لها عن الشرور والفتن والخسائر التي لايعلم إلّا الله مداها.

       قال الشاعر الأموي العباسي الكبير بشار بن برد (96-167هـ = 714-784م):

إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشْوَرَةَ فَاسْتَعِنْ

بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَــــةٍ حَـازِمٍ

وَلَا تَحْسَبِ الشُّورَىٰ عَلَيْكَ غَضَاضةً

فَـإِنَّ الْخَوَافِي قُـوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ

       وقال الشاعر محمد بن أحمد بن محمد صادق المعروف بـ«الوَرَّاق» (1247-1317هـ = 1831-1899م):

إِنَّ اللَّبِيبَ إِذَا تَفَرَّقَ أَمْـرُهُ

فَتَقَ الْأُمُورَ مُنَاظِرًا وَمُشَاوِرًا

وأَخُو الْجَهَالَةِ يَسْتَبِدُّ بِرَأْيِـــهِ

فَتَرَاهُ يَعْتَسِفُ الْأُمُورَ مُخَاطِرًا

       وقال أبوالأسود الدؤلي (16 قبل هـ-69هـ):

وَمَا كُلُّ ذي نُصْحٍ بِمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ

وَمَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبٍ

وَلٰكِنْ إِذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ وَاحِــــــدٍ

فَحُقَّ له مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبٍ

       وقال الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد (543-569م):

وَلَا تَرْفِدَنَّ النُّصْحَ مَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ

وَكُنْ حَيْثُ تَسْتَغْنِي بِرَأْيِكَ غَانِيًا

وَإنَّ امْرءًا يَــــوْمًا تَوَلَّىٰ بِــرَأْيِـــهِ

فَدَعْهُ يُصِيبُ الرُّشْدَ أَوْ يَكُ غَاوِيًا

       وينبغي أن يستشير دائمًا رجلًا مُحَنَّكًا يُدْرِكُ عَواقِبَ الأمور بنحو مُعَمَّقٍ؛ لأن الغِرَّ غير المُجَرِّب للأمور، الجاهل بالغوص في أعماق القضايا، إذا شاورتَه في أمر ما ضَرَّك بدلَ أن ينفعك؛ لأن رأيه يأتي فِجَّا غيرَ ناضج ومُؤَدِّيًا إلى الخسائر دون الأرباح، ولا يُغْنِي غَنَاءً في القضية التي تُهِمُّك والتي دَعَتْك إلى أن تستشيره فيها.

       وينبغي أن يكون المستشار كما قال الشاعر (وهو جثامة بن قيس الكناني الجاهلي، سيد بني بكر بن عبد مناة، من قبيلة كنانة، أحد أشراف العرب، وساداتهم وفرسانهم، وشعرائهم وحكمائهم ورُمَاتِهم) يصف حكيمًا في عصره:

بَصِيرٌ بِأَعْقَابِ الْأُمُورِ كَأَنَّمَا

يُخَاطِبُـــــهُ مِنْ كُلِّ أمر عَوَاقِبُهُ

       لأن المشاورة عمليّة مهمة للغاية يتمّ من خلالها تقليب الآراء، وتصريف وِجْهَات النظر، والموازنة بينها، لاستخراج أنفعها واستنباط أصلحها، وبالتالي تَبَنِّيه والعمل به، لتحقيق الغرض على أحسن الوجوه، وأسهل الطرق، بعيدًا عن الأخطار، وبمنأى عن العِثَار.

(تحريرًا في الساعة العاشرة والربع من صباح يوم الاثنين: 9/جمادى الأخرى 1439هـ الموافق 26/فبراير 2018م).

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1439 هـ = أبريل – مايو 2018م ، العدد : 8 ، السنة : 42

Related Posts