بقلم: الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي المعروف بـ«حكيم الأمة» (1362هـ/1943م)
تعريب: الأستاذ أبو عبد الله أشرف عباس القاسمي(*)
وخلاصة الاستدلال على وجوب التقليد الشخصي الذي سبق ذكرُه، أن التقليد الشخصي مقدمـــــــةٌ للواجب، ومقدمة الواجب واجب، فالتقليد الشخصي واجب، وهـــذا الأصل أي وجوب مقدمة الواجب وإن كان بديهيًّا مسلَّمًا عند كافة أهل الملل وأولي العقل، ولايحتاج إلى دليل مثبِت له؛ إلا أننا نتشرف بإيراد حديث يؤيد ذلك. فعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ: مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فليسَ مِنَّا، أوْ قدْ عَصَى(1).
فائدة:
من الظاهر أن الرمي ليس عبادة مقصودة في الدين، ولكنه لما كان مقدمةً للواجب – وهو إعلاء كلمة الله تعالى إذا مست الحاجة إليه -، وعد وعيدا شديدًا على تركه، والوعید علی ترك شيء، يدل على وجوبه وقت الحاجة، فثبت أن مقدمة الواجب واجب.
الرد على الشبهتین اللتين أثيرتا حول عموم وجوب التقليد الشخصي:
و يرد على الدلیل المذكور شبهتان: الأولى أن الدليل الذي سُقتموه، مصرّح فيه بأن أغلب الطبائع تقع في المفاسد إذا لم تلتزم التقليد الشخصي، فعلی هذا یجب أن يكون وجوب التقليد محصورا في أمثال هؤلاء، ولا یكون شاملا للجمیع؟
فالجواب عن هذه الشبهة أن الأحكام الشرعية التي تتعلق بالإدارة والنظام و التي تُفرض وقايةً للناس من المفاسد، إنما تُفرض نظرًا للأكثر، فبناءً على أحوال معظم الناس یفرض الشرع حكمًا عامًّا للجمیع، وهذا هو معنى ماقاله الفقهاء: كل أمر بإمكانه أن یتسبب في فتنة عامة الناس، يكون اجتنابه واجبا علی خاصتهم. والحديثُ مؤيد لذلك: فعن جابر عن النبي ﷺ حين أتاه عمر رضي الله عنه فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تُعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي، رواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان(2).
فائدة:
فكتابة مثل هذه الأحاديث لما كانت مظنة ضلال أكثر الناس، نهى عنها النبي ﷺ نهيا شاملا للجمیع، ولم يأذن بذلك حتی لمثل عمر المعروف بفقهه وتصلبه في الدين. فعُلم بذلك أن ما یتسبب في فتنة العامة من الناس لايسمح بذلك للخاصة من العلماء والفقهاء أیضا، إذا لم یكن من ضرورات الدين، فاندفع الإشكال وعُلم وجه منع العلماء والفقهاء عن ترك التقليد الشخصي وعموم وجوبه للجميع.
الحديث الآخر:
عن شقيق قال: كانَ عبدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ في كُلِّ خَمِيسٍ فقالَ له رَجُلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أنَّكَ ذَكَّرْتَنا كُلَّ يَومٍ؟ قالَ: أما إنَّه يَمْنَعُنِي مِن ذلكَ أنِّي أكْرَهُ أنْ أُمِلَّكُمْ، وإنِّي أتَخَوَّلُكُمْ بالمَوْعِظَةِ، كما كانَ النبيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنا بها، مَخافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا(3).
فائدة:
الظاهر أن المستمعین بأجمعهم لم يكونوا یشعرون بالسآمة والملل، – كما يدل علی ذلك شوق السائل إلی السؤال، – ولكن ابن مسعود رضي الله عنه وقف هذا الموقف مع الجميع اعتبارا بالأكثر، وبيّن أنه كان هذا من عادة رسول الله ﷺ؛ فثبت هذا الأصل بفعل رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم. وقد ثبت أن كثیرا من الأحكام في كثير من الروايات مبنية على هذا الأصل، فاندحضت الشبهة.
وأما الشبهة الثانية – التي لاتليق بأن یوضع في الاعتبار – فهي أن إحدى مقدمتي الدليل المذكور- وهي وجوب الأمور الخمسة المذكورة – ثابتة بالحديث النبوي الشريف دونما شك، ولكن المقدمة الأخرى – وهي أن الأمور الخمسة تصاب بالخلل إذا تُرك التقليد الشخصي – إنما هي صادرة عن تجربة ومشاهدة، ولایؤيدها حديث، فلما كانت المقدمة الأولی فقط مؤيدة بالحدیث، ولیست المقدمة الثانية كذلك، فكيف يتم ثبوت الدعوى بالحديث؟
والجواب عن هذه الشبهة أن هذا الأمر لا يختص بهذا الدليل؛ بل يعم جميع الدلائل الشرعية، مثلًا: إذا بلغ الرجل من عمره أكثر من عشرین سنة، وجب علیه الصلاة، ویقول ذلك جميع العلماء والعقلاء، فلو سُئل أحد عن الدلیل علی ذلك، فلایكون جوابه إلا أن الصلاة واجبة علیه بالكتاب والسنة. مع أنه لم يرد فيهما إلا مقدمةٌ أولی من الدليل وهي وجوب الصلاة على كل محتلم، أما المقدمة الثانية – وهي أن زيدا مثلًا قد بلغ الحلم – فلم تثبت بالكتاب ولا بالسنة، وإنما هي مبنية علی المشاهدة والعیان، ورغم ذلك لا يقول قائل: إذا لم تثبت المقدمة الثانية بالكتاب والسنة، لزم أن یقال: وجوب الصلاة عليه لم يثبت بالكتاب والسنة.
والسر في ذلك أن الكتاب أو السنة لیس إلا لبیان الأحكام الكلية، وأما الحكايات الجزئية فلیست من موضوعهما، وإنما تثبت بالمشاهدة أبدا، والدلیل إذا ورد حكمه الكلي في الكتاب والسنة یطلق علیه أنه ثابت بالكتاب والسنة. وكذلك الأمر في الشبهة المذكورة أیضا. وقد تقرر فيما قبل أن وجوب التقليد الشخصي وجوب بغیره لا بذاته، فلم يبق مجال للشك، وثبت وجوب التقليد الشخصي بالحديث الشريف دونما غموض وخفاء. ولله الحمد
وجه حصر المذاهب في الأربعة والتقيد بالمذهب الحنفي في بعض البلاد والأمصار:
بقي سوال، وهو: ما هو وجه انحصار المذاهب الفقهية في الأربعة؟ فإنه كان هناك كثیر من المجتهدين وتجدون أسماءهم وأقوالهم مسطورةً في الكتب؟ فلماذا خصصتم المذهب الحنفي من بين الأربعة؟
والجواب أنه لما ثبت آنفًا وجوب التقليد الشخصي وأن الأخذ بالأقوال المختلفة یتضمن مفاسد كثيرة، وجب أن لانتبع إلا من يكون مذهبه مدونا ومضبوطا في الأصول والفروع معًا، ویستوعب جميع المسائل الفقهية كلًا أو جزءا؛ لئلا تبقى الحاجة إلى الرجوع إلى أقوال أخری. والمذاهب الأربعة هي التي خصها الله تعالیٰ بهذه الصفة، فأصبح من الواجب ألا نقلد إلا أحد هذه المذاهب، فإنا إذا أنشأنا مذهبا آخر فلربما يؤدي ذلك إلى الفساد الذي سبق ذكره، فإنه إذا لم نجد الجواب عن نازلة أو حادثة واضطررنا إلى مذهب آخر فإذن تعتاد النفس الحريةَ وإطلاقَ العنان، وقد بينا فيما قبل ما يتضمن هذا من الفساد – فهذا هو وجه حصر المذاهب في الأربعة. وهو ما عكف عليه وتوارثه العلماء منذ قرون، حتى حكى بعض العلماء الإجماع على حصر أهل السنة والجماعة في المذاهب الأربعة.
أما السوال عن سبب عدم تدوين المذاهب الأخرى على هذا المنوال، فليس من الواجب في هذا المقام الكشفُ عن أسبابه، مهما كانت، ولكننا نعيش زمنًا نجد فیه مذاهب أخری كثیرۃ غیر مدونة، وهذه المذاهب الأربعة مدونة قدیما- من غیر فعل اختیاري منا – فثبت لنا انحصار المذاهب في هذه الأربعة.
وأما السوال عن خصوص التقيد بالمذهب الحنفي فالجواب عنه أننا نعيش بلدا انتشر فيه مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى من قبلُ دونما كسب وفعل منا، ویتوفر في هذه البلاد علماء هذا المذهب وكتبه، فلو أخذنا بالمذهب الآخر لصعب الاطلاع علی أحكام النوازل والقضايا الفقهية؛ فإن العلماء بسبب تلقي العلم والاشتغال به ومزاولته مطلعون علی مذاهبهم ومتمكنون منها ویمتلكون من سعة النظر ودقة البصیرة ما لایمتلكونه في المذاهب الأخری، ولو كانوا یستطیعون مطالعة كتبها – ولا یخفی ذلك علی أهل العلم-
فإن قيل: أما في البلاد التي یتواجد فیها أتباع جميع المذاهب، فلیست فیها مثل هذه المشكلات، فما هو وجه الإصرار علی المذهب الحنفي في تلك البلاد أیضا؟
قلنا: اخترنا المذهب الحنفي واستمررنا في تقلیده منذ بعید، لأجل الضرورة المذكورة، فإن اخترنا مذهبا آخر، لزم ترك التقليد الشخصي، الأمر الذي يؤدي إلى المفاسد التي ذكرناها سابقًا.
فإن قيل: لم لايمكن أن نتبع في مثل هذه الأمكنة والأمصار مذهبا آخر معینا، ونقلده تقلیدا شخصیا ونعمل به في جميع الأحكام الشرعية ونترك المذهب الأول تماما؟
قلنا: إذن ما هو سبب مرجح لترك المذهب الأول؟، فإن من لايملك قوة الاجتهاد- وكلامنا یتركز علی هذا – لایدرك وجوه الترجيح، فيكون فعله ترجيحًا بلا مرجح. وأما من له اطلاع قلیل علی وجوه الترجیح، فأخذُه بمذهب آخر يفتح لعامة الناس- المتبعين لهواهم- بابًا لترك التقليد الشخصي. وقد حقّقنا سابقًا بالحديث أن الأمر الذي یُوقع عامة الناس في الفتنة، یُمنع عنه حتی الخواص من العلماء والفقهاء. وهذا فحوی ما يقوله العلماء من أن الانتقال من المذهب ممنوع.
بقي سؤال وهو أن من أسلم أو رجع عن اللامذهبية إلى التقليد ثم اتبع المذهب الحنفي، فما هو وجه ترجیح المذهب الحنفي من خلال المذاهب الأخری؟
والجواب عنه أنه لوكان مثل هذا الرجل في مكان یقلَّد فيه المذهب الحنفي فالأخذ بهذا المذهب هو الأرجح له. وإن كان في مكان ینتشر فيه غير واحد من المذاهب فلا ندعي له وجوب ترجيح المذهب الحنفي على الغير؛ بل هو مخيَّر، يختار منها ما یطمئن له قلبه. ثم يتمسك به ویبقی علیه.
نعم إن وصل أحد من المقلدين لمذهب معين إلى مكان لا يوجد فیه علماء مذهبه، و ليس هو من العلماء، وعرضت له مسألة، وتعذر علیه أن یعمل بمذهبه، فإذن لا حرج في اتباع مذهب آخر، وإنما یجوز له؛ بل یجب علیه أن یأخذ من المذاهب الأربعة ما یروج في تلك الدیار، ویراجع علماءه ویعمل به. ولا نكلفه أبدا أن یبقی علی المذهب السابق، بناءً علی العذر المذكور. ولكن یندر وجود مثل هذه النوازل. وإلا فحُكمُ وجوب التقليد الشخصي هو المتعين في أكثر الأحوال. والآن لم يبق أمر يورث شبهة أو وسوسة فيما يتعلق بهذا المقصد. ولله الحمد والفضل.
المقصد السادس: الرد على شبهات كثيرة الورود:
الشبهة الأولى: قد ورد ذم القياس والظنِّ في بعض آي القرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًاۚ﴾(4). والقياس ظني عند القائلین بالقیاس أنفسهم؟
والجواب أن المراد بالظن لیس مطلق الظن، وإلا لزم تعارضُ الآية مع الأحاديث التي تُجوِّز القياس، والتي سبق ذكرها في المقصد الأول – علاوة علی أن معظم الأحادیث من قبیل الأخبار الآحاد، والآحاد لاتفيد إلا الظن، وأما الأحادیث المتواترة فأكثرها محتملة لوجوهٍ عدة، فتعيين وجه واحد من تلك الوجوه وترجيحه علی غیره لايكون إلا ظنيا، فيلزم أن يبقى العمل بالحديث غیر جائز -العياذ بالله -. والأمران باطلان – فليس المراد بالظن مطلق الظن، وإنما المراد بالظن في الآیة زعم لایصاحبه دليل. فقد قال الله تعالى: ﴿وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهْرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ (الجاثية:24) ومن الواضح أن الكفار لم يكن لديهم دليل ظني اصطلاحي فيما يعتقدون بأن الدهر هو الفاعل، بل كان دعواهم دونما دليل، وعبر عنه بالظن، وهذا هو المراد في الآية أیضا.
الشبهة الثانية: لقد جاء ذم التقليد في آية من القرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآۗ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة:170) فقد دلت الآية على أن اتباع السلف والآباء مع وجود الكتاب والسنة من عمل السوء. وكذلك قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلْأَمْرِ مِنكُمْۖ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍۢ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء:59). دلت الآیة علی أنه لايجوز الرجوع إلى إمام أو مجتهد؟
الجواب: ما أوسع الفرق بين التقليد الذي نتحدث عنه وتقليد الكفار المذكور في الآية، فقد ذكر الله تعالى سببين لذم تقليد الكفار: الأول: أنهم يرفضون الآيات والأحكام ويقولون: لانتبعها؛ وإنما نتبع آباءنا. الثاني: أن آباءهم وكبارهم كانوا لایملكون العقل والدین والهدایة. وأما التقلید الشرعي فهو بمعزل عن هذین الأمرین، فأنت لا تجد أحدا من المقلدین یزعم أنه لایتبع الآيات والأحاديث؛ بل تجده یقول: «ديننا هو الكتاب والسنة ولكن أنا قليل العلم أو عديم العلم أو لم أبلغ درجة الاجتهاد ولاأملك قوةَ الاستنباط، و أُحسن الظن والاعتقاد بالعالم أو الإمام الفلاني، وأعتقد أنه قد أحاط علما بما ورد في الآيات والأحاديث من ألفاظها ومعانيها، فكل ما فهمه من معنی ومراد فهو صحیح وراجح عندي، فلا أعمل إلا بالحديث، ولكن وفقَ توجيهه وإفادته».
ولذلك صرّح العلماء بأن القياس مُظهر للحكم لا مثبت له. ويعبر المقلدُ عن هذا المقال تارة بعبارة مفصلة وأخرى بعبارة مجملة ومعنی الكل واحد، فالحاصل أن المقلد لايرفض الكتاب والسنة أبدا. ولم يكن العلماء والأئمة المتبوعون مجرَّدين عن العلم والمعرفة والهدایة؛ فقد ثبت متواترا أنهم كانوا عاقلین ومهدیین، فلما لم يوجد السببان في التقليد الشرعي لم يثبت ذمه بآية القرآن الكريم.
وكيف يراد مطلق التقليد بالتقلید المذكور في الآية، فإنه يلزم إذن تعارض الآية الكريمة مع الأحاديث التي سِیقت في باب جواز التقليد في المقصد الأول. وما ذكرناه من أن القياس مظهر للحكم لا مثبت له، قد دل علی أن العمل بالقياس لیس مخالفة لله ورسوله، وإنما هو عین الرجوع إلیهما.
الشبهة الثالثة: قد ورد في الحديث استنكار الرأي في الدين، والرأي هو القياس فثبت أن القياس لا يجوز؟
الجواب: المراد بالرأي ليس هو مطلق الرأي وإلا یلزم التعارض مع الأحاديث التي سیقت في إثبات جواز القياس في المقصد الأول؛ بل المراد هو الرأي الذي لا يكون معتمدا علی دليل شرعي بل یعتمد علی الظن والتخمین فقط. كما یؤید ذلك الحديثُ الآتي:
عن علي بن أبي طالب أنه قال: لو كان الدينُ بالرأي لكان أسفلُ الخفِّ أولَى بالمسحِ من أعلاهُ، وقد رأيتُ رسولَ اللهِ ﷺ يمسحُ على ظاهرِ خفَّيهِ(5).
أما رأي المجتهدين فهو یكون معتمدا علی دليل صحيح شرعي، وروي عن الصحابة الكرام أنهم رأوا هذا الرأي قولًا وعملًا، كما مر في المقصد الثالث من قول عمر: إني أرى أن تأمر بجمع القرآن…، ومن قول أبي بكر: رأيت في ذلك الذي رأى…. فاستعمال الرأي قولًا وعملًا ثابت، أما قولًا فإن عمر ؓ نسب الرأي إلى نفسه بلسانه، وأما فعلًا فإن أبا بكر الصدیق ؓ عمل بمقتضی الرأي وهو جمع القرآن.
الشبهة الرابعة: ورد في رد القياس بعض أقوال السلف، فمنها «أن أول من قاس إبليس». فعُلم أن القياس في الدين حرام شرعا؟
الجواب: ليس المراد بالقياس مطلق القیاس، وإلا يلزم التعارض مع الأحاديث التي تجوّز القياس، والتي سیقت في المقصد الأول؛ بل المراد هنا ذلك القياس الباطل الذي قاسه إبليس في هذه الحادثة، فإنه رفض النص الذي هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة بزعمه وقياسه، ومثل هذا القياس حرام بلا شك؛ بل هو كفر. وأما قياس المجتهدين فلا یكون هو إلا لتوضيح معاني النصوص.
* * *
الهوامش:
- صحيح مسلم، الرقم: 1919.
- تخريج مشكاة المصابيح – الصفحة أو الرقم: 1/136.
- صحيح البخاري، الرقم:70 و أخرجه مسلم (2821).
- يونس:36.
أخرجه أبو داود (162) واللفظ له، والنسائي في «السنن الكبرى» (119)، وأحمد (737) بنحوه.
(*) أستاذ بالجامعة.
مجلة الداعي، المحرم – صفر 1445هـ = يوليو – سبتمبر 2023م، العدد: 1-2، السنة: 48