إشراقة
قد يَتَصَدَّى الإنسانُ لإحداث تغيير للوضع القائم، الذي يظن أنه إذا تَغَيَّر فإنه يكون خيرًا من ذي قبل للبيت، أو الأسرة، أوالمدرسة، أو الجماعة، أو البلد، أو المدينة، أو المنطقة، أو الفرد، أو المجتمع؛ بل يحلم أنه سيتحول جنّةً غَنَّاء وروضة فَيْحَاء، فتتحقق الأحلام، وتُتَرْجَم الأماني إلى الواقع، ويزول الفساد بأنواعه، وتنحلّ المشكلات كلها مهما كانت مُسْتَعْصِيَةً؛ ولكنه قد يحدث أن الوضع بعد ما يتغير، يتحول أشدّ سوءًا من ذي قبل، فالقضايا تضطرب، والأحلام تتبعثر، والأماني جميعها تتعرض للخيبة والإحباط؛ بل قد يحصد المرأ الأشواك بعد ما يكون قد زَرَعَ الزهور والرياحين، والحلاوةُ لا تؤدي إلّا إلى المرارة، فتصير الدنيا جحيمًا لا تُطَاق.
ولذلك يجب على الـمُتَصَدِّي للتغيير أن يستخير الله تعالى، ويشاور الصالحين الأخيار من عباد الله الذين يتوسّم فيهم الإخلاص، ويتفرس فيهم المواساة، قبل أن ينبري لإحداث انقلاب، أو تغيير جذري، يؤدي إلى حصول انعطاف أساسي في حياة الفرد أوالجماعة أوحياته هو، يمسّ أوراق التاريخ ويلامس صفحات الملابسات، فيقلبها بحيث لا يقبل العودة إلى حالتها الأولى.
ذلك أن الخير كله بيد الله تعالى، والشر كله لايقدر على إزالته إلّا هو، فليطلب الخيرَ منه تعالى، إذافسدت الأحوالُ، وساءت الأوضاعُ، ولم تُطَاوِعْه الأحداثُ، ونَبَتْ به البيئةُ، ولفظه المناخُ، وأعراه الزمانُ؛ فليقل: اللهم مقلب الأحوال! قلّب الأحولَ، إذا كنتَ تعلم أن الخير مرهون بالتقليب، وإلّا فقَدِّرِ الخيرَ في الأحوال نفسها، وليكثر من الدعاء والتضرع والإلحاح؛ لأن التغيير الذي يأتي بعد هذه الخطوة الخيرة الرشيدة، سيضمن الخير، ويكفل النجاح، ويُجَنِّبُه الشرَّ كلَّه، ومضارّه السلبيّة بأسرها.
ينبغي أن يلاحظ الـمُتَصَدِّي لإحداث التغيير، أن الهدف أصلًا ليس تغيير الأحوال، وإنما الهدف في الواقع هو التوصّل إلى الخير، والتخلّص من الفساد والشرّ، فقد يجوز أن يتحقق التغيير، ولا يتحقق الخير المرجو من ورائه؛ لأن التغيير قد يعطي نتائج عكسيّة، فينقلب بالشرّ، ولاينال الساعي للتغيير إلّا الشقاء والأسف الأمرّ الذي يجعله يبكي حظّه العاثر، ويلوم ما أقدم عليه من القيام بالتغيير الذي سعى له جاهدًا وسهر على توفير كل نوع من الوسائل ليستبدل الخيرَ بالشرّ، والصلاح بالفساد، فينعم هو وغيره الذي ساعده على إصلاح الأحوال وقلب الأوضاع بالمسرات واللذات التي حَلَمَ بها طويلًا وتَطَلَّعَ إليها كثيرًا.
ولكنه وجد التغيير لم يُؤَدِّ إلى نتيجة إيجابية، رغم أنه فقد كثيرًا من المصالح، وخَسِرَ كثيرًا من المنافع، وضَحَّىٰ بكثير من الفرص التي كان له أن يستغلها فتُدِرَّ له من المكاسب ما يضمن له حياة رغيدة مُرَفَّهَةً وعيشًا عزيزًا كريمًا.
والتغييرُ الذي يحصل عن عنف وإعمال قوة يأتي أشدّ تدميرًا وإفسادًا، ولا يُرْجَىٰ منه الصلاح والخير والبناء الذي يُنْتَظَر من التغيير الهادئ الذي يتحقق عن اللّاعنف، ومسالمة ومهاداة، وتحضير للمناخ، وتمهيد للأرضية، وكسب للرأي، ونفوذ في نفسيّة المجتمع، وتغلغل في مشاعر الناس، ودغدغة لأحاسيس الجماهير، وتسلط على قلوب العوام والخواصّ، بحيث إذا حَرَّك المتصدي للتغيير رجال الشارع تحركوا، وإذا أومأ إليهم توقفوا، إذا أمرهم أطاعوا، وإذا نهاهم انْتَهَوْا.
هذا التغيير الهادئ النابع من داخل القلوب وعمق النفوس، يلامس ضمير المجتمع الإنساني، ويمسحه بالندى اللطيف الرفيق، فتستقرّ جذوره في الأعماق، وتمتد دَوْحَتُه إلى البعيد الأبعد، وتتكاثف أغصانُه، وتخضرُّ أوراقُه، وتَتَقَوَّى سيقانُه، ويعمّ ظلُّه الظليل، ويدوم نفعه العميم، ولا تُزَعْزِعُه العواصفُ، ولا تُؤَثِّر عليه السمائمُ أو الطقوسُ المناوئةُ.
مثل هذا التغيير قد غَيَّرَ التَيَّار، وقَلَّبَ الليلَ والنهارَ، وعَطَفَ مجرى التاريخ، وحَوَّل الشقاء العامّ الذي نزل بالأمة أو الدولة أو الشعب إلى سعادة شاملة مستقرة الجذور ممتدة الأغصان، مسّت الدين والدنيا معًا، وأمطرت شآبيب الرحمة والرضوان والخير والبرّ والخضرة على العباد والبلاد؛ ولكن المنادي بالتغيير، الرافع لواءه لم يُحْدِث أيَّ ضجّة، ولم يُطْلِق أيَّ صرخة، ولم يَدْعُ الناس إلى رفع الهتافات والمناداة بالشعارات، ودقّ الطبول في المواكب والمسيرات، ولم يستغل الظروف لحصد المدح جُزَافًا وكسب الثناء نِيَافًا.
أما التغيير الناشئ عن العنف والتشدد، والتطرف والإرغام، فإنه أنتج دائمًا الحنظل، ولم يُؤْتِ ثمارًا حُلْوة، ولم يُؤَدِّ دورًا في الإصلاح وإزالة الفساد، ومكافحة السلبيّات، ومعالجة المساوئ التي من أجل النجاة منها تم إحداث التغيير وتبديل الأوضاع.
وربما وجدنا القائمين بالتغيير، باكين حظَّهم الشقي؛ لأنهم وجدوا التغيير يُعَاكِس التدبيرَ؛ لأن «زملاء التغيير» وقفوا في طريقه، وحالوا دونه ودون أن يجني ثمار التغيير، ويتمتع بمكاسبه الإيجابيّة الخَيِّرة التي حلم بأنها ستكون نصيبَه. إن هؤلاء الزملاء قد يكونون بارعين في الصيد في الماء العكر، وتوظيف الظروف، واستغلال الأوضاع؛ وقد يكونون سبّاقين إلى استخدام قائد التغيير، فيَعِفّون عند الوغى ويَتَصَدَّرُون صف الواقفين في الطابور لاستلام المغنم، على عكس ما كان يقفه العرب من موقف البطولة والفداء، والزهد التام في المغنم، والذي عَبَّرَ عنه الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد العبسي (525-608م) في أحد أبيات معلقته:
يُخْـبِرْكَ مَنْ شَهِــدَ الْوَقِيعَــــةَ أَنَّنِي
أَغْشَى الْوَغَىٰ وأَعِفُّ عِنْدَ الْـمُغْنَمِ
وأمثال هؤلاء الزملاء يقفون من قائد التغيير الموقفَ الذي ظلّ يقفه أمثالُهم في التاريخ؛ حيث إنهم ما إن يجدون أن عملية التغيير قد انتهت، وأن نتائجه تكاد تتحقق، وأن ثماره تكاد تُوْنِع، يُحْبِطون سعيه، ويحولون دونه ودون استفادته من مُكْتَسَبَات التغيير، وقد يُطِيحون شخصه، ليتخلّصوا منه للأبد، ويَأْمَنُوا خطرَ الانقلاب عليهم، والثورة ضدهم أو ضدّ مصالحهم؛ لأنهم يَتَأكَّدون في قرارة أنفسهم أن من ثار ضد غيرهم، جاز أن يثور ضدهم هم، لأن محاولات التغيير التي بذلها، والتغيير الذي حصل، إنما كانت نابعة من إخلاصه للأغراض التي تبنّاها، فهو مخلص لأهدافه، فلايقبل المساومة عليها، فإذا وجد أحدًا منا يقف حائلًا دون تحققها «لغرض» يتبناه أو «مرض» يحلّ به، فإنه سيثور ضدنا كما ثار ضد غيرنا؛ لأن العزيز لديه والحبيب إليه إنما هو الهدف وليس الأشخاص، والإصلاح وليس الأفراد، فلا بد أن نتخلص منه، بإبعاده عن الساحة، وإقصائه عن مجال العمل والتأثير والنفوذ، أو إطاحة شخصه هو، حتى لا تبقى مشكلة تواجهنا من وقت لآخر.
إن بطل الثورة ضد الوضع القائم وقائد تغيير الحال، يظلّ – بعد ما تنجح الثورة ويتم التغيير – مُعَرَّضًا للأخطار ومخاوف الإبادة أو على أقل تقدير لمخاوف الإقصاء عن الساحة والمنع من جني ثمرات التغيير لصالحه أو صالح أنصاره الذين يكونون قد ساعدوه على إحداث التغيير وإنجاح الثورة؛ لأن «زملاء التغيير» لا يصدرون في الأغلب عن الإخلاص، وإنما يصدرون عن المصالح الذاتية والأغراض الشخصية، فبمجرد حدوث التغيير يُقْبِلُون على تحقيق أغراضهم التي يكونون قد تَوَخَّوْها خلال خوض معركة التغيير، وبما أنهم يرون أن «قائد التغيير» قد سارع إلى تحقيق الأهداف التي تَبَنَّاها من وراء التغيير، والتي هي تعاكس أغراضهم الشخصية المحدودة التي من أجلها تعلقوا بركب التغيير، فهم يعودون أَشَدَّ عداءً للقائد الذي رفع علم التغيير، وقاد مسيرة الثورة ضد النظام الفاسد القائم الذي نجح في إسقاطه، ونصب نظام آخر مكانه، وإقرار وضع آخر ضد الوضع القديم الذي كان كيانُه نَخِرًا.
على كل فإن الأحلام التي يحلم بها المتصدي لإحداث تغيير أو القيام بثورة لا تتحقق دائمًا بالتأكيد، وإنما تتبَخَّر في الأغلب، ولا تتكوّن الجنة التي يكون قد تَصَوَّرَها خلال القيام بالتغيير بل قبل البدء في عملية التغيير؛ لأن الأحلام في الأغلب لا تَحْظَىٰ بالتأويل المرضي، وإنما تكون أضغاث أحلام لا تعرف تأويلًا ولا تجد تعبيرًا.
والتغييرُ إنما يأتي مُنْتِجًا مُحَقِّقًا للنتائج المرجوّة، إذا صَاحَبَه الإخلاصُ من جميع «زملاء التغيير» وسَبَقَتْه الاستخارةُ من الله عز وجلّ، وكانت الأغراض الـمُتَوَخَّاة من ورائه نبيلةً صافيةً، لم تَشُبْه شائبةٌ من الرياء وطلب الصيت أو الغرض الشخصيّ.
فالذي يَتَصَدَّى لمجرد التغيير، ويظن أنه إذا تحقق فإنه سيأتي بكل ما يتصوّر ولا يتصوّر من الخير والصلاح الذي يمسّ حياتَه أو حياةَ الذين حوله من أعضاء المجتمع، لا يحظى من وراء محاولته إلّا الفشل والحزن والأسف الذي يجعله يتجرع المرارة طويلًا.
(تحريرًا في الساعة الثانية عشرة من ضحى يوم الخميس: 17/ربيع الأول 1439هـ الموافق 7/ديسمبر 2017م).
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة 1439 هـ = فبراير – مارس 2018م ، العدد : 6 ، السنة : 42