دراسات إسلامية

بقلم:  أ. د. علي علي صبح (*)

       ومن الدروس التي كان يلقيها الرسول –صلى الله عليه وسلم- للأطفال وصيته لابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فيما رواه ابن عباس نفسه إذ قال: «كنت خلف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه الترمذي (667/4) وزاد أحمد وغيره: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا».

       هذه الوصية النبوية الشريفة تعد لوحة أدبية فنية غنية الألوان والظلال، زاخرة بالقيم الخلقية والقيم الفنية في أدب الأطفال، تحمل طابعين أدبيين، ووجهين إبداعيين، أحدهما: إبداع المصطفى الأدبي الزاخر بقيم خلقية وقيم فنية في تأديب الأطفال، وثانيهما: نموذج أدبي رفيع المستوى، ومثل أعلى في البلاغة البشرية يسير على نهجه أدب الأطفال سواء من إبداعاتهم أو إبداع الأدباء لهم؛ لأن هذه الوصية تميزت بقيم كثيرة في أدب الأطفال، ومن أهمها:

       1- مجالسة الأطفال للكبار، ليحرصوا على التعلم منهم ويستنيروا بمعارفهم ويقتدون بهم في سلوكهم، فقد لازم ابن عباس خير البشر وسار خلفه تأدبا وتقديرا وتوقيرا لمكانة الأستاذ الأول والمعلم الأكبر –صلى الله عليه وسلم-.

       2- تلقى ابن عباس -رضي الله عنهما- الوصية من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليعمل بها هو وأمثاله من الغلمان والشباب؛ لأن العبرة بعموم اللفظ والوصية لا بخصوص السبب.

       3- تخصيص ابن عباس -رضي الله عنهما- بهذه الوصية من بين الغلمان فيه دلالة على نجابته، ورجاحة عقله، فقد صدقت نبوءة الرسول –صلى الله عليه وسلم- في خصوصيته، فصار حبر الأمة ورائد التأويل والتفسير لكتاب الله عز وجل، ويتميز برجاحة العقل في الحوار، وقوة الحجة ونصاعة الرأي.

       4- تعبير الرسول –صلى الله عليه وسلم- في افتتاح الوصية بقول: «يا غلام»، وفي رواية «يا غلامي» يوحي بحرارة العطف وعميق الحب والحنان، كما يشير إلى قرب منزلته وشدة حرصه عليه، مما يعين على فتح منافذ الإدراك الكثيرة في النفس من عاطفة ووجدان ومشاعر وخواطر وأحاسيس فيكون أكثر إقبالا على الوصية وأعظم قبولا لها.

       5- يتميز أسلوب الرسول –صلى الله عليه وسلم- هنا بالرقة، وتصويره الأدبي بالقرب والتيسير، حيث يقول: «إني أعلمك كلمات» أي يسيرات معدودات، مما يعين على تحريك الانتباه وتفتح القلب، فيستقر مغزاه في القلب والعقل معا.

       6- بلغ التعبير الأدبي الغاية في تصوير الطاعة لله عز وجل والالتزام بالمحافظة على حدوده مما يستحق عليه الجزاء الأوفى من ربه، فيتحقق المراد ويطمئن القلب في ثقة وإقدام وذلك في قوله: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك».

       7- أن يغرس في نفوس الأطفال الاعتداد بأنفسهم وعدم التواكل أو الاعتماد على البشر؛ لأنهم لا يدفعون عن أنفسهم الضرر، ولا يجلبون لأنفسهم النفع، فكيف يكون ذلك لغيرهم؛ بل يجب الاستعانة بخالق البشر والخلق جميعا، فهو وحده النافع أو الضار، وقد قضى الله عز وجل بذلك منذ الأزل «فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف» وذلك في تصوير أدبي من جوامع الكلم، يتزاحم بالقيم الكثيرة والمعاني الغزيرة من الإيجاز في الأسلوب وقلة الألفاظ، فلا زالت الوصية تثير كثيرا من القيم الخلقية والفنية الخالدة في تأدب الأطفال والسمو بهم.

وصية لقمان لابنه:

       ومن وصايا القرآن الكريم التي أعجزت الفصحاء في بلاغتها وأثرها الإيجابي في النفس في تربية الأطفال وتأديبهم بأدب القرآن الكريم وتجاوبهم مع أخلاقه الخالدة: وصية لقمان لابنه وهو يعظه، فهي درس خلقي وأدبي رباني لا زال يعطي لأطفال كل عصر ما يتناسب مع حضارته ومعطياته، ولكل جيل ما يهيئه ويعده إعدادا قويا وصالحا يتجاوب مع هذه الحضارة وتلك المعطيات الحية، بخلود القرآن الكريم، وازدهار حضارته وأصالة قيمه الخلقية والبلاغية، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمٰنُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصٰلُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْـمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدٰكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يٰبُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمٰوٰتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يٰبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان:13-19] .

       في هذا التصوير القرآني المعجز في بيان بلاغي أخاذ، يرسي قيما خلقية وتشريعية لعلاقة النشء مع ربه في قضية التوحيد وعدم الشرك بالله، وعلاقة النشء مع نفسه وعلاقته مع والديه وأسرته، وعلاقته مع مخلوقات الله، كما توضح علاقة الأب بأبنائه منذ المراحل الأولى في حياته، فهو مسؤول عن رعيته يرعاهم ويرشدهم بأسلوب يفيض رقة وعطفا وحنانا ويخاطب به العاطفة والعقل والمشاعر والوجدان، في بناء جسد قوي وتهذيب للروح صافية نقية في توازن واتزان بينهما على السواء، وبذلك تصلح الأسرة لتكون خلية حية وقوية في تشكيل المجتمع الإسلامي قويا عزيز الجانب، فيسمو بحضارة الإسلام المتجددة في كل عصر ولكل جيل، لذلك احتوت الوصية على معالم رئيسية في بناء الطفل وتكوينه على

أسس قوية تجمع بين هذه العلاقات المختلفة:

       1- تصور الوصية قضية التوحيد وإخلاص العقيدة لله وحده لا شريك له، فالشرك بالله ظلم عظيم وجرم كبير.

       2- تصور الوصية ما يجب على الأطفال من البر والطاعة في غير معصية للوالدين، ومصاحبتهما بالمعروف، مهما اختلفت أحوالهما وعلاقتهما عرفانا بالجميل وإنصافا لأصحاب الفضل عليهم.

       3- الحرص على طاعة الله وتوحيده وطاعة الوالدين والبر بهما في الحياة كلها، فلا يهمل ذلك أو يغفل عنه؛ لأنه محاسب على ذلك عندما يرجع إلى ربه؛ فالله وحده خلقه وأماته وأعاده إليه ليحاسبه على تفريطه وعصيانه.

       4- تصور الوصية مراقبة الله له في كل حين وإحاطته بكل شيء، ليغرس في نفسه منذ المراحل الأولى للطفولة غريزة المراقبة والحضور والخوف، والتدبر والتفكير العميق، والاهتمام والعزيمة الصادقة، والمتابعة والتواصل، وذلك في تصوير تهتز له العاطفة، ويمتلأ به الوجدان والقلب رهبة ورغبة ﴿يٰبُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾.

       5- تنمية القيم والعلاقات الاجتماعية التي تحييها وتجددها: أداء الصلاة ومواصلة الصبر في المعاملة مهما كانت الشدائد والعقبات، والحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليؤدي الطفل دوره الفاعل في بناء نفسه، ولا يقصر في تقدم مجتمعه ورفعته.

       6- تصور الوصية قيما خلقية سامية يتعامل بها مع المجتمع من حوله فلا يؤدي مشاعرهم، فيصدر عنه ما يكرهونه أو يفرق وحدتهم ويفسد المودة بينهم، فتنفره من الكبر والخيلاء والإعجاب بالنفس وهتك الحرمات والخوض في أعراض الناس وتلويث البيئة بالأفعال القبيحة والصور المنفرة والأصوات المزعجة وذلك في صور يهتز لها الوجدان وينخلع منها القلب وتتفق مع الفطرة والعقل جميعا ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا …﴾.

       7- تؤكد الوصية أن القيم الإنسانية والخلقية بما يتفق مع فطرة الإنسان في كل عصر ولكل الأجيال، فما أوصى به لقمان في الماضي البعيد أقره الإسلام، ولا زال يقره ويحث عليه في الحياة الدنيا؛ لأنها قيم ثابتة وحية ترتبط بوجود الإنسان وحياته.

أدب الإسلام في استئذان الأطفال:

       حث الإسلام على إفشاء السلام وتبادل التحية بصفة عامة لإشاعة السلام والأمن، ونشر المحبة، والتعاون على البر والتقوى، لا الإثم والعدوان، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء:61] ، ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرٰهِيْمَ الْـمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَـٰمـًا قَالَ سَلَامٌ﴾ [الذاريات:24-25] ، وعن كلدة بن الحنبل -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي –صلى الله عليه وسلم- فدخلت عليه ولم أسلم فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل» رواه أبو داود والترمذي.

       وكذلك الاستئذان في الدخول على الآخرين، قال تعالى: ﴿يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلٰىٓ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكٰى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [النور:27-31] .

       وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» رواه البخاري ومسلم، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور:61] ، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «يا بني إذا دخلت بيتك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك» رواه الترمذي، وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع» رواه البخاري ومسلم، هكذا حث الإسلام على أدب إفشاء السلام وتبادل التحية بين الناس، مؤكدا على أن يبدأ به الصغير على الكبير توقيرا له وعرفانا بفضل الله عليه.

       لكن أدب استئذان الأبناء والأطفال في الدخول على آبائهم وأمهاتهم داخل البيوت وعلى غيرهم من باب أولى، فقد صوره القرآن الكريم تصويرا بلاغيا معجزا ليحدده في أوقات ثلاث فقط، وما عداها فمجاله مفتوح غير مقيد به في غير ذلك من الأوقات؛ لأن هذه الأوقات الثلاثة يجنح الإنسان فيها إلى عدم المكاشفة ويميل إلى التكتم والراحة ويتخفف من ثيابه، ويفضي إلى نفسه بأسرار لا يحب أن يتطلع عليها غيره أو يستغرق في التأمل والتدبر أو في النوم، فيكره أن يزعجه أحد بالدخول ولو ابنه، ليتجدد نشاطه بعد ذلك، ويعيد إلى الجسد طاقاته وحيويته، فيباشر أعماله في دأب ونشاط، لذلك كان من الواجب على الأطفال أن يتأدبوا بأدب الإسلام ويتخلقوا بخلق القرآن الكريم والسنة الشريفة، يقول الله تعالى: ﴿يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَوٰةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوٰةِ الْعِشَاءِ ثَلٰثُ عَوْرٰتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْاٰيٰتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 58-59] ، وهذه القيم الحضارية -التي أدب بها القرآن الكريم والسنة الشريفة- أدب رباني أبهر العقول وباتت مبهورة بهذا التشريع السماوي الذي يتفق مع الأدب الجم، والذوق الرفيع، والرقي الإنساني وسمو المبادئ الإنسانية التي اصطفى بها الله عز وجل هذه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، فيعم الخير والبركة على من ألقى السلام والتحية وآنس الاستئذان، وعلى من رد التحية والسلام وسمح بالدخول: ﴿تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ «يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك»، «رجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله»، ومن كان الله ضامنه وكفيله فلن يتعرض للأذى مطلقا.


(*)      أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر الشريف.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1439 هـ = نوفمبر- ديسمبر2017م ، العدد : 3 ، السنة : 42

Related Posts