دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

مَقدم رئيس الجمهورية الهندية إلى دارالعلوم:

       سيظل يوم 23/ربيع الثاني عام 1396هـ يوما معروفا بيوم رئيس الجمهورية الهندية في تاريخ دارالعلوم/ديوبند؛ حيث قدم  فيه رئيس الجمهورية الهندية السيد/ فخر الدين علي أحمد(1) إلى دارالعلوم /ديوبند، بدعوة منها بالمروحية، ورافقه في هذه الزيارة حاكم ولاية أترابراديش وكبير وزرائها بالإضافة إلى عدة وزراء في الحكومة المركزية والحكومة الإقليمية. وحسب البرنامج المحدد زار رئيس الجمهورية ضرائح كل من الإمام محمد قاسم النانوتوي- مؤسس الجامعة النانوتوي (1248-1297هـــ/1832-1880م)  وشيخ الهند محمود حسن الديوبندي (268-1339هـ/1851-1920م)، وشيخ الإسلام حسين أحمد المدني (1296-1377هـ/1879-1957م) رحمهم الله تعالى، وأهدى الثواب إلى أرواحهم. ثم توجه إلى ضريح العلامة الشيخ أنور شاه الكشميري (1292-1352هـ/1875-1933م)، وقرأ الفاتحة عليـه، ثم عـاد إلى دارالعلوم/ديوبند فتجول في مختلف مرافقها ومكتبتها، ثم حضر مأدبة شأي أقيمت على شرفه. وحضر بهذه المناسبة بعض أعضاء المجلس الاستشاري بدارالعلوم وأساتذتها، و مسؤولو مختلف شعبها وأقسامها، وبعض زعماء مدينة ديوبند وغيرها.

       وفي نهاية المطاف وصل رئيس الجمهورية الموقر إلى مكان الاحتفال الذي عقد على شرفه، وقدم الشيخ حامد الأنصاري (1327-1413هـ/ 1909-1992م)، عضو المجلس الاستشاري بدارالعلوم /ديوبند- كلمة التحية والترحيب بالضيف المبجل، وقال فيما قال: «هذا مركز العلماء والفضلاء والعارفين وأبطال كفاح الحرية، وهذه أرض ديوبند أرض الشهداء عام 1857م، والفدائيين لحركة الرسائل الحريرية، وهذه المؤسسة قلعة كفاح الحرية، والمركز التاريخي لمجاهدي التحرير، وأكبر مركز للعلوم والفنون في آسيا. سخرت دارالعلوم هذه الآلاف المؤلفة من الأبطال في سبيل السجن والتضحية على كافة الجبهات من حركة الخلافة وجليانوالا باغ، وحركة الحكم الذاتي خلال حرب تحرير البلاد.

       قال الشيخ غازي: «إن الاشتراكية  التي تتضمنها القوانين الإقليمية والدولية، والحقوق الأساسية التي يتضمنها دستور منظمة الأمم المتحدة وهي الطعام والكسوة والسكن، والتعليم والصحة قد قامت دارالعلوم بتوفيرها كلها قبل مئة سنة. وللدولة بأسرها أن تستضيء وتهتدي بضوء دارالعلوم/ديوبند في هذا الصدد.

       وبعد كلمة التحية والترحيب قدم فضيلة رئيس الجامعة كلمة الشكر، تحدث فيها عن خدمات دارالعلوم العلمية والسياسية، وقال: «إن مؤسس الجامعة العظيم الشيخ محمد قاسم النانوتوي اعتبر- في أصوله الأساسية الثمانية – مساعدة الشعب أساسا للنظام التعليمي الحر والرجوع إلى الله تعالى، وغرس الحياة الإيمانية الساذجة وحب الوطن، والتضامن القومي، وصيانة حرية البلاد بالإضافة إلى التعليم الإسلامي في نفوس المنتمين إلى دارالعلوم، فخرَّج تعليمُ دارالعلوم وتربيتها كبار مجاهدي التحرير، يشارك في تعظيمهم واحترامهم الهندوس والمسلمون على حد سواءٍ، ويهتدون بهم في دروب حياتهم بإخلاص وتناغم كبير. فهذه المؤسسة تشكل أقدم الأسباب وأكثرها احتراما وقداسة للعلاقة الإسلامية في الهند.

       وفي الأخير ألقى رئيس الجمهورية الموقر كلمة جوابية فقال: «نحمد الله تعالى على أن جعلنا مسلمين، وعلينا نحن المسلمين أن نشارك في حياة الدولة كعنصر أبيٍّ فاعل مؤثر كل المشاركة، ونرتقي بمستوى قدراتها وكفاءاتها».

       وقال رئيس الجمهورية الموقر– وهو يثمن خدمات عظماء دارالعلوم العلمية والسياسية-: «هؤلاء القواد العظماء الذين قدموا خدماتهم الدينية والقومية المتمثلة في الدور الذي امتازوا به في كل مرحلة من مراحل كفاح الحرية طوال مئة عام، ولم يريدوا على هذه الخدمات الجبارة جزاء ولاشكورا، وإنما قاموا بما قاموا على أساس أنه واجبهم، فزادوا رفعة ومنزلة في التاريخ الإسلامي».

وتتلخص كلمة رئيس الجمهورية الهندية فيما يلي:

       «إن دارالعلوم هذه تشكل مؤسسة دينية تاريخية عظيمة هامة ليس للهند فحسب؛ بل للعالم الإسلامي بأسره. لقد أثَّر في نفسي كثيرا إخلاصُكم، وسذاجتكم الإسلامية، والولع الديني. وإن العصر الحاضر الراقي يشهد تراجعا كبيرا في القيم الإنسانية هذه بشكل مستمر.

       سادتي، لقد ظلت دارالعلوم هذه شيئا كثيرا علاوة على أنها مؤسسة دينية. كانت تشكل مركزا للمناضلين والمجاهدين في حرب تحرير البلاد، ولا أغلو لو قلت: إن دارالعلوم تتصدر قائمة المؤسسات الدينية والقومية التي ساهمت في تحرير هذه البلاد الغالية من الرق والعبودية. فلايمكن نسيان دورها التاريخي وكفاحها أبدا. وإن اسمها يستحق أن يكتب بحروف من ذهب في تاريخ تحرير بلادنا.

       إن إخلاص مؤسس دارالعلوم الشيخ محمد قاسم النانوتوي وأصحابه الآخرين المخلصين والعلماء والمجاهدين والذين خلفوهم، وخدماتهم العلمية والدينية المخلصة إليـه ترجع استفادة الآلاف المؤلفة من البشر من هذه المؤسسة، وإلى هؤلاء العظماء والمشايخ يرجع الفضل في إضاءة نور العلم والفكر في مئات الآلاف من البيوتات.

       وقبل قرن من الزمان شنَّ الشيخ محمد قاسم النانوتوي – بإشراف من الشيخ الحاج إمداد الله المهاجر المكي(1233-1317هـ/1817-1899م) وغيره من صفوة الشخصيات – حركة التعليم الديني في جانب، وفي جانب آخر شن السير السيد أحمد خان (1232-1306هـ/1817م -1889م) وأصحابه حركة التعليم الجديد، وجاءت الحركتان كلتاهما – بصفة أساسية – انطلاقا من  التألم من حال الأمة الإسلامية، ولم تكن إحداهما تصادم الأخرى، إلا أن حركة «ديوبند» امتازت بأنها شاركت في كفاح التحرير بحماس زائد. فأصبحت هذه المؤسسة مفخرة لكل هندي يحب بلاده.

       وأما الإسلام والتوجيهات الإسلامية فأنتم أعلم مني بأن ثمة رجالا كثيرين قضوا حياتهم كلها في استيعاب الحياة الإسلامية وتوجيهاتها وشرحها وبيانها. ونحمد الله تعالى على أن جعلنا مسلمين، وأغنانا بالأصول الإسلامية الخالدة، وأول درس لقننا الإسلام هو درس التوحيد، وعلَّم العالمَ العدل والمساواة، كما بين لنا سر لَمِّ الشمل على أساس وحدة الكلمة، وفرض علينا التدرب على النظافة الجسدية والطهارة القلبية خمس مرات، ولقننا درس الانضباط والتنظيم، وأكد على الاجتماع على نقطة واحدة، كما شرح لنا أهمية العمل والتقوى بجانب العلم. والأحكام الإسلامية ترشدنا في الدين والدنيا كليهما، وتُعَلِّمنا الصلاةُ الصحة الجسدية والانضباط والتنظيم بجانب التربية الروحانية، والأصول التي علَّمها الإسلام ليست موقتة و عارضة؛ بل دائمة خالدة، وهل يمكن رفض أهمية الوحدة والتنظيم والتقيد بالنظام في مثل هذا العصر الراقي؟

       لقد سررت جدا حين علمت أنكم تحافظون على الأصول الأساسية التي وضعها مؤسس دارالعلوم، وحاولتم  الإبقاء على نظامكم التعليمي حرا طليقا من الضغوط بشتى صورها وأنواعها ومن التدخل الخارجي. وتغرس هذه المؤسسة العظيمة في طلابها حبَّ الوطن والانسجام الوطني، وعواطف الحفاظ على حرية البلاد بالإضافة إلى تزويدهم بالعلوم الدينية. وهذه المثل والقيم  نفتخر بها جميعا، ولاشك أنه من جراء هذا التعليم وهذه التربية سارع أساتذة دارالعلوم وطلابها في المشاركة في كفاح تحرير البلاد، لقد لقي مشايخنا وعظماؤنا مصائب السجن والحبس، ويحضرني بهذه المناسبة ما تعرض له الشيخ محمود حسن والشيخ حسين أحمد المدني ورفقاؤهما في الدرب من السجن في مالطة، وإن صورة حياتهم الزكية ماثلة أمام ناظري، وإن حياة الشيخ حفظ الرحمن الجهادية بين يدي، ونعم ما قيل بالفارسية ما معناه:

       رحم الله هؤلاء العلماء الطاهرة طينتهم

       وفي عام 1857م حين أحكم الاستعمارُ سيطرته  وقبضته الظالمة على الهند، كانت المخاوف قائمة بصورة حقيقية من أن نفقد الحرية الدينية بعد أن حُرِمْنا الحكومةَ والجاه الدنيوي، وانطلاقا من هذه العواطف الدينية والوطنية المزيجة أسست دارالعلوم عام 1866م بإشراف من الحاج إمداد الله رحمه الله، وعليه ظلت إنارة شموع حب الوطن- بالإضافة إلى التعليم الديني- هدفا من أهدافها الأساسية الهامة.

       ومن بواعث الفرح والسرور أنكم وفرتم في دارالعلوم فرص تلقي المنطق والفلسفة والرياضيات و الطب والصحافة والإنكليزية والهندية بجانب التعليم الديني. ويسرني أكثر أن تعنوا بالعلوم الأخرى، ويشهد التاريخ بأن المسلمين سبقوا غيرهم في تلقي العلوم الأخرى.

       وأنتم على علم تام بأن قياداتنا اعتنقت مبادئ العلمانية بالحكمة البالغة والنظرة البعيدة، وإن دستور بلادنا يخول لكل مواطن حرية الرأي والعقيدة، والشعب كله سواسية في منظور هذا الدستور، وهذا الدستور يتطلب أن لاندع جدران التفاوت الاجتماعي تحول دون رقي البلاد، وأن لانخص أحدا بمعاملة خاصة بناءً على عقيدته ودينه، وأن لا ندع مجالا للعصبية وضيق النظر بناء على اللغة أو المنطقة. وهذه الخصال هي التي تنسجم مع خطبة رسول الإسلام العظيمة والتاريخية، ولايبعد أن توصف هذه الخطبة بأول مرسوم للإنسانية.

       قد أشرتم في كلمة الشكر إلى قانون الأحوال الشخصية الإسلامي، ولقد اطلعتم في هذا الصدد ما قاله رئيس الوزراء الهندي وما قلته أنا أيضا، فقد تم التصريح مرارا بأنه لايمكن إدخال التعديلات في قانون الأحوال الشخصية ما لم يرغب فيه المسلمون أنفسهم. وأما الإسلام فيكفيه القرآن الكريم والأسوة النبوية هداية وإرشادا في كل عصر من العصور. وما دمنا مؤمنين بذلك فإنه يجب علينا أن نتلمس حلول المشاكل التي نواجهها اليوم فيهما، ولا أعدو الحق إذ أذكركم في هذا المركز الذي يحتضن العلماء بأن التوجيهات الإسلامية الصافية تجلت للعالم على أنها تنسجم مع الفطرة الإنسانية، وأنها رسالة الأمن والفلاح والرقي بالإنسانية في كل عصر و بيئة. وبإمكاننا أن نستفيد مما تحمل هذه التوجيهات من المواساة للإنسانية والنفع الشامل. وإن عالما يشكل مجالا واسعا للتغيرات في ظل تقلبات الدهر، وإن متطلبات الأوقات والأزمان تختلف من حين لآخر، وتتجلى لنا الحياة كل يوم حاملة معها مشاكل وقضايا جديدة، ونحن مضطرون إلى التناغم معها، وعلى العلماء اليقظين أن يعرضوا التوجيهات الإسلامية الطاهرة الشاملة على العالم بكل وعي ويقظة وبأسلوب جيد يقطع السبيل على تطرق النقص والضعف إلى ما تتصف به من المواساة للإنسانية ونفعها وتأثيرها. ويستفيد خلق الله تعالى في كل زمان من إرشادها الصحيح كل الاستفادة.

       سادتي، لقد أتى علينا مئة وعشر سنوات اعتبارًا من عام 1866م إلى عام 1976م، وماقامت به دارالعلوم من الخدمات العلمية العظيمة، وما قدمته من التضحيات الغالية يشكل مأثرة عظيمة، وأدعو الله تعالى أن تستمر نفحات دارالعلوم وخيراتها أبد الدهر.

==============

(1)     فخر الدين علي أحمد (1905-1977م)(Fakhruddin Ali Ahmad) هو محامِ وسياسي من الهند ولد في دهلي،تلقى دراسته في جامعة بنجاب، واحترف المحاماة ثم شغل منصب رئيس الجهورية الهندي 1974- 1977م. راجع: http://en.wikipedia.org/wiki/Main_Page


(*)   أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1439 هـ = نوفمبر- ديسمبر2017م ، العدد : 3 ، السنة : 42

Related Posts