اشتغال الصحابة بنشر الدعوة الإسلامية

 بقلم: الشيخ الجليل المحقق حبيب الرحمان العثماني الديوبندي

(المتوفى: 1348هـ/ 1929م)

    رئيس الجامعة الإسلامية: دارالعلوم، ديوبند، الأسبق

تعريب: الأستاذ محمد رضوان القاسمي(*)

         لما فرغ الصحابة -رضي الله عنهم- من مقاومة فتنة الردّة وتأكّدوا منها، اشتغلوا بنشر الدعوة الإسلامية، وخرجوا من الجزيرة العربية، فما هو إلا زمن قليل حتى ملؤوا العالم بمحاسن الإسلام وخيراته، ولا ريب أنّ الإسلام إنّما كان دينًا صادقًا نقيًّا، ومتمتّعًا بمحاسنه الذاتية وتأثيره القويّ وقوته الجاذبة، بحيث لا يترك أحدًا من الناس إلا ويتأثر به ويعترف بحقانيّته إذا دخل فيه بطواعيةٍ منه؛ ولكنّ الفضل الكبير فيما شهد الإسلامُ من سرعة الانتشار وتسخيرِ القلوب والنفوس بجانب فتوح البلدان، إنّما يرجع إلى ما يتمتّع به الصحابة -رضي الله عنهم- من الصفات الحميدة والأخلاق الحسنة، فخرجوا إلى بلدان العالم وهم أسوةٌ عمليّة للإسلام، وأروا أهلَ الدنيا أنّهم يستطيعون أن يجعلوا الناس مولَعين بهم ومنقادين للإسلام انقيادًا كاملًا بحكم القوة الجاذبة التي نشأت في نفوسهم بفيض الصحبة النبويّة، والواقع أنّ الصحابة -رضي الله عنهم- لو لم يكونوا متمتّعين بما تمتّعوا من الصفات ومكارم الأخلاق، أو كان فيهم نوعٌ من النّقص، لما أثّرثْ محاسنُ الإسلام الذاتيةُ هي الأخرى في قلوب الناس؛ لأنهم لما شاهدوا أحوال الصحابة بأم أعينهم بعد ما تعرّفوا على عقائد الإسلام الصادقة و تعاليمه السمحة، دخلوا في الإسلام عن طواعية بالغة.

         وبذلك قد عُلم أنّ فيض الصحبة يكون أقوى وأشدّ تأثيرًا من التعليم الشفويّ، ومن ثم كانت الصحابة أفضلَ الناس جميعًا إلى يوم القيامة، وأعلاهم مكانةً بفضل صحبته المباركة ولو حصلت لهم لساعةٍ من الزّمان، وأمّا الذين جاؤوا من بعدهم من المسلمين فلن يبلغوا مبلغهم من الفضل والشرف ولو بلغوا من مراتب العلم والزهد والكمال منتهاها.

         وكان من شأنهم أنه إذا استعرضهم أحد في ضوء أقوالهم و أفعالهم وأحوالهم و تصرفاتهم، علم في أوّل وهلة أنهم لا يمتّون إلى الدنيا وزخارفها بصلةٍ، وإنّما يُهمّهم دائمًا ابتغاء وجه الله و اتباع الأحكام الشرعيّة. ولا شك أنّهم كانوا يمارسون الشؤون الدنيوية جميعَها: من التّجارة والزّراعة والصّناعة و الحرفة، ويقومون بأعمال البيت، و يؤدّون ما يجب عليهم من حقوق المعاشرة مع الأقرباء والإخوان على أحسن ما يكون؛ ولكنّ قلوبهم لم يتمكّن فيها شيء سوى حب الله و رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فكانوا يشتغلون في النهار بأمور دنياهم كمثل الآخرين من الناس؛ بيد أنه لا يخطر ببال مَن رآهم أنهم يريدون عرض الدنيا.

وفي غزوة «أحد» جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جماعةً من الرّماة وراء «أحد»، وقال لأميرهم: «انضَحْ عنَّا الخيلَ بالنَّبْلِ، لا يأتونا من خلفنا، واثبتْ مكانك إن كانت لنا أو علينا». فاقتتل النّاس قتالا شديدًا، وأنزل الله نصره على المسلمين، وكانت الهزيمة على المشركين، فنظر بعض الرّماة إلى العسكر حين انكشف الكفار عنه، وأقبلوا يريدون الغنيمة ظنّا منهم أنّنا قد انتصرنا، فلم يجب علينا أن نثبت مكاننا؛ فتركوا مكانهم. ولا يخفى أنّ أخذهم نصيبَهم من الغنائم لم يكن محظورًا شرعًا، وإنّما كان حلالا طيّبًا؛ ولكن الله عزوجل قد عاتبهم لمجرّد أنهم تركوا مكانهم من غير أن يأذن لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنزل: ﴿مِنكُم ‌مَّن ‌يُرِيدُ ‌ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ﴾ (آل عمران: ١٥٢) فقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «وما علمت أنّ أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا؛ حتى نزلت الآية»(1).

         ولا يخفى أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: هو الآخر كان يعيش في هذه الدار الفانية يقضي حوائج حياته، ويرى الآخرين من الصحابة أنّهم يشتغلون بالبيع والشراء وبكل نوع من الشؤون الدنيوية، ويدبّرون جميع حاجاتهم الاجتماعية والثقافية؛ ولكن رغم ذلك كله لم يخطر بباله قطّ أنهم يريدون عرض الدنيا. إذن فما هو السبب؟ ليس السّبب وراء ذلك إلا أن الصحابة –-رضي الله عنهم- قد أشْرِبوا في قلوبهم حبّ الله ورسوله، وسرتْ في نفوسهم طاعةُ الله ورسوله سريانَ الدّم في الشّرايين، فكلُّ ما يقومون به من أمور دنياهم، لا يقومون إلا ليقضوا حوائج حياتهم. وهذا هو الشيء الذي يُميّز الزاهدين في الدنيا عن الراغبين إليها؛ فالصحابة -رضي الله عنهم- لم يُسمَّوا بأنهم «طالبو الدنيا»؛ رغم اشتغالهم بكل نوع من الشؤون الدنيوية، و أخذِهم بحظّ وافرٍ من الثروة والغناء. وبالعكس من ذلك إن كان هناك أحد – من بعدهم – ممن أخذ بحظّ قليل من المال وأهمّه كسبُ لقمة العيش، وانقطع إلى الشؤون الدنيوية، فإنّه يطلق عليه أنه من طالبي الدنيا ومن كِلابها، مع أنّه لم يبلغ معشارَ ما بلغوا – الصحابة – من المال والمتاع. ولقد عبّر عن هذا المعنى، العارف بالله الشيخ الرّومي قائلًا: «ما هي الدنيا؟ ليست الدنيا عبارةً عن الملابس الفاخرة والذّهب والفضّة والأولاد والنّساء؛ وإنّما الدنيا أن يصبح الإنسان غافلًا عن ذكر الله تعالى».

         وأمّا ما ذُكر في الآيـة المذكورة أنّ منهم من يريد الدنيا؛ فليس ذلك مما يُشْكِل على الإطلاق؛ لأنه قلّما سلم الكبار من العِثار، فقد صدر هذا الفعل عنهم من خطإ في الفهم؛ حيث إنّهم ظنّوا أنه لم يعُدْ هناك حاجة أن يثبتوا في هذا المكان. أجل! ولو أنّهم أقبلوا على الغنيمة – رغم علمهم أنه لا بدّ من المكوث بذلك المكان – لكانوا ممن يؤثِرون الدنيا على الدين؛ ولكن الأمر لم يكن كذلك في الواقع؛ وإنما أرادوا الدنيا صورةً لا حقيقةً، فعلى ذلك أيضًا نبّههم الله تعالى؛ لأن الخاصّة من عباده إنّما يؤخذون بأدنى عثرةٍ. فهذه القصة قد تضاهي قصةَ أسارى «بدر» حين أُسِر من قريش سبعون رجلًا.

         فاستشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعليًّا وعمر -رضي الله عنهم- فقال أبو بكر: يا رسول الله! هؤلاء بنو العمّ والعشيرة والإخوان، وإنّي أرى أن تأخذ منهم الفدية؛ فيكون ما أخذناه قوةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال: والله ما أرى ما رأى أبو بكر؛ ولكن أرى أن تُمكِّنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتُمكِّن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتُمكِّن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه؛ حتى يعلم الله أنّه ليست في قلوبنا هَوَادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمّتهم وقادتُهم، فهوي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قال عمر، وأخذ منهم الفداء.

         ولا شكّ أنّ الأسباب التي يستند إليها رأي الفدية، وإن كانتْ قد أسفرت عن النتائج المفيدة؛ ولكنّ الله عزوجل قد أنزل تأييدَ عمر -صلى الله عليه وسلم- من وجهٍ، وقال عن الرأي الذي عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿مَا ‌كَانَ ‌لِنَبِيٍّ ‌أَن ‌يَكُونَ ‌لَهُۥٓ ‌أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾(الأنفال:٦٧)(۲).

         ولا يخفى أنّ أخذ الفدية من الأسارى وإطلاقَ سراحهم، إنّما كان مبنيًّا على مصالح الإسلام، وكذا الرغبة إلى المال لم تكن إلا لتقوية الإسلام، ولم يُطْلق المسلمون أقرباءهم وعشيرتهم إلا لصالحه، فلم يكن في هذا و ذاك دورٌ للطمع في المال والمتاع؛ ولكن هنالك رغبةٌ – فيما يبدو– إلى المال والمتاع، فاستحق هذا الرأي العتابَ، ولم يَنَلْ – رغم أنّه كان محمودًا في الواقع، و أسفر عن النتائج المتوخّاة – الإعجابَ مقابلَ ما رأى عمر-رضي الله عنه-.

         وخلاصة القول: أنّ الصحابة –-رضي الله عنهم- قد نهضوا لتبليغ الدعوة الإسلامية وهم نموذج صادق كامل للإسلام، فكانت أحوالهم ومواقفهم تشكّل دليلًا واضحًا على العقائد الإسلامية الطيبة؛ فإذا كان رآهم أحدٌ – ممن كان له إلمامٌ بعقائد الإسلام وأحكامه – بأمّ عينيه، تأكّد لديه دعوى حقانيّة الإسلام بدلائل وشواهد قويّة ظاهرة، و يعود يستيقن لا محالة أنّ الإسلام إنّما هو دين حق ثابت على الأساس. وإلى ذلك يرجع فضل ما شهد الإسلام من التقدم المُدْهش وسرعةِ الانتشار على عهد الصحابة، ولا شكّ أنّ الصحابة -رضي الله عنهم- وإن كانت قصصُ حروبهم وتدبيرهم وشجاعتِهم فيها هي الأخرى من الأهمية بمكانٍ بحيث عجز تاريخ العالم أن يقدّم نظيرها أو يأتي بما يشابه أحوالَهم؛ غير أنّنا لا نأتي عليها، ولا نطوف بك في مجال واسع من فتوحاتهم؛ وإنّما سنُريك أنّ الأقوام والقبائل لماذا دخلت في الإسلام أفواجًا؟ وما هي العوامل التي دفعتهم إلى أن يعتنقوه عن رضىً وقناعة؟.

         أيّها القارئ! إنّ وقائع أحوال الصحابة – -رضي الله عنهم-– وتأييدِهم من الله كثيرةٌ تكاد لا تحصى، واستيعابها في مثل هذه الرسالة الوجيزة ليس صعبا فحسب؛ بل لا يليق بهذا المقام، ولكنّنا ما نورد هنا من الوقائع المنتخبة ما سوف يتضح ويتبرهن به دعوانا المذكورة.

فتح جزيرة «دارين» وغَورُ ماء البحر:

         لقد أسلفنا قصة ردّة أهل البحرين، وأنّ أبابكر -رضي الله عنه- كان قد بعث العلاءَ بن الحضرميّ -رضي الله عنه- على قتالهم، و رأى المسلمون في طريقهم إلى البحرين قصّةً عجيبةً لنصرتهم الغيبيّة – قصــةَ غــديرٍ عظيم من الماء -، ثم لما اقترب العلاء من جيوش المرتدّة – وقد حشدوا وجمعوا خلقًا عظيمًا – نزل ونزلوا، وباتوا متجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل؛ إذ سمع العلاء أصواتًا عاليةً في جيش المرتدّين، فقال: من رجل يكشف لنا خير هؤلاء؟ فقام عبد الله بن حذف، فدخل فيهم فوجدهم سكارى لا يعقلون من الشراب، فرجع إليه فأخبره، فركب العلاء من فوره والجيش معه، فكبسوا أولئك، فقتلوهم قتلا عظيمًا، وقلّ من هرب منهم، واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم وأثقالهم، ثم ركب المسلمون في آثار المنهزمين يقتلونهم بكل مرصد وطريق، وذهب من فرّ منهم أو أكثرهم في البحر إلى جزيرة «دارين»، ركبوا إليها السفن.

         ومما يجب أن يُعلَم أنّ «دارين» كانت جزيرةً تقع على مسافة يومٍ وليلة من ساحل البحر عن طريق السفن، وقد سبق أن اجتمع فيها عدد كبير من الأعداء، والآن انضمّ إليها جماعةٌ من هؤلاء المرتدّين المنهزمين أيضًا، فازدادت هنالك قوة مخيفة ضدّ الإسلام، فكان العلاء قد أقْلقه هذا الوضعُ الرّهيب، لأنّه لو هجم على «دارين» لخافَ أن يهجم العدوّ على أهل البحرين من ورائهم، ولوخلى عن هذه الجزيرة لاشتدّتْ فيها هذه القوّة المرهبة أكثر فأكثر.

         فلم يزل العلاء مقيمًا في عسكر المشركين، وكتب إلى من ثبت على إسلامه من بکر بن وائل، يأمرهم بالقعود للمنهزمين والمرتدّين بكل طريق، ففعلوا، وجاءت رسلهم إلى العلاء بذلك، وبلغه عنهم القيام بأمر الله، والغضب لدينه، فلما جاءه عنهم من ذلك ما كان يشتهي، أيقن أنّه لن يؤتى من خلفه بشيء يكرهه على أحد من أهل البحرين، فندب المسلمين إلى دارين، وقال لهم: اذهبوا بنا إلى دارين؛ لنغزو من بها من الأعداء، فأجابوا إلى ذلك سريعًا، فسار بهم حتى أتى ساحل البحر؛ ليركبوا في السّفن، فرأى أن الشقّة بعيدة، لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله، فجمعهم وخطبهم، فقال: إنّ الله قد جمع لكم أحزابَ الشياطين وشرد الحربَ في هذا البحر، وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر، فانهضوا إلى عدوّكم، ثم استعرضوا البحر إليهم، فإنّ الله قد جمعهم، فقالوا: نفعل ولا نهاب والله بعد «الدهناء» هوْلًا ما بقينا، فارتحل وارتحلوا، حتى إذا أتى ساحل البحر اقتحموا على الصّاهل، والجامل، والشّاحج والنّاهق، والرّاكب والرّاجل، ودعا ودعوا، وكان دعاؤه ودعاؤهم:

         «يا أرحم الرّاحمين، يا كريم، يا حليم، يا أحد، يا صمد يا حيّ يا محيي الموتى، يا حيّ يا قيّوم، لا إله إلا أنت يا ربنا!» فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله جميعًا يمشون على مثل رَمْلةٍ مَيناء فوقها ماءٌ يغمر أخفافَ الإبل، وإنّ ما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر في بعض الحالات، فالتقوا بها، واقتتلوا قتالا شديدًا، فانهزم المشركون، وظفر المسلمون، وفتحوا دارين.

         لقد تقبّل الله عزّ وجلّ دعاءَ عباده المقرّبين، وجعل لهم طريقًا في البحر يبسًا سهلًا للغاية، وقد سبق أن رأوا نصرتهم الغيبيّة في مكان قفر في الرّمال. وأعجبُ من ذلك ما رأوا الآن من تمهيد أَثْبَاجِ البحار، فقد أشعرهم الله عزوجل بذلك أنّ دين الإسلام إنّما يحالفه النّصر الإلهي، وأنّ انتشاره لا يتوقّف على الأسباب الظاهرة، ولا يمتّ إلى نوع من الإكراه والإجبار. فهذه مواقف ومشاهد من يراها – وإن كان فظًّا غليظ القلب للغاية ومنحرفًا عن الحق – لا يمكن أن لا يتمكّن في قلبه حقانيّة الإسلام ولو كان قائمًا على دينه القديم بكل قوّة وعصبية. وجاذبيّةُ الإسلام لن تذَره يثبت على ما كان عليه من الكفر والعناد. ومن هنا لقد اُضطرَّ راهبٌ نصرانيٌّ في «هجر» – كان في جيش المسلمين، و رأى في كلّ من البرّ والبحر النّصر الإلهي، وما أجرى الله على يدي العلاء من الكرامات، بأم عينيه – إلى عتناق الإسلام.

         فقيل له: ما دعاك إلى الإسلام؟ قال: ثلاثة أشياء، خشيتُ أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل: فيضٌ في الرّمال، وتمهيد أثباج البحار، و دعاءٌ سمعته في عسكرهم في الهواء من السّحر قالوا: وما هو؟ قال: «اللهم أنت الرّحمن الرّحيم، لا إله غيرك، والبديع ليس قبلك شيء، والدّائم غير الغافل، والحيّ الذي لا يموت، وخالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللهم كل شيء بغير تعلم». فعلمتُ أن القوم لم يعاونوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله.

         من كان في قلبه شيء من الإنصاف وفي عقله ذرّةٌ من العقل، فهو يفهم أنّ وقائع فتوحات المسلمين وحروبهم وشجاعتهم التي رآها هذا النصرانيّ – الذي كان عالما بدينه وراهبًا – بأم عينيه، لم تُكرهه على الدّخول في الإسلام، وكذلك لم يُكرهه المسلمون على ذلك، وإنّما ظلّ قائمًا على دينه القديم بكلّ قوّة، وهو يُسهم في عسكر المسلمين بغاية من طمأنينة قلبه، وما أسلم إلا من بعد ما رأى أحوال الصحابة ووقائعَ تأييدهم السّماويّ. فرغْمَ ذلك كلِّه هل هناك من أحد يجترئ أن يقول: إنّ الإسلام قد انتشر بحد السّيف؟

         كان المسلمون ولا سيّما الصحابة –-رضي الله عنهم- على ثقة تامة من حقانيّة الإسلام وتأييدهم من الله؛ حيث لا يحتاجون في ذلك إلى دليل وبرهان، وكانوا على يقين كامل أنّهم على الحق، وأنّ النّصر الإلهيّ إنّما يحالفهم أينما حلّوا وساروا؛ غير أن الأمر الذي لا يختلف فيه اثنان ولا يتناطح فيه عنزان أنّ اليقين القلبيّ إذا أكّدتْه المشاهدةُ والمعاينةُ فذلك يخرج من علم اليقين إلى عين اليقين الذي هو أكثر منه قوةً وتأثيرًا، ويؤيّد ما قلنا قولُ إبراهيم-عليه السلام- في كيفية إحياء الموتى: «ربّ أرِنيْ كيف تحي الموتى؟» فسأل الربّ جلّ وعلا: أوَلمْ تؤمنْ؟ قال: بلى؛ ولكن ليطمئنّ قلبي.

         فكان لتلك الواقعة أثر عظيم في نفوس المسلمين، فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر:

         ألم تـــــــر أن الله ذلل بحـــــــــــــــــــــــــــــــــره

وأنزل بالكفار إحدى الجلائل!

         دعونا الذي شق البحار فجاءنا

بأعجب من فلق البحار الأوائل(3).

*  *  *

الهوامش:

(1)    الكامل 2/57، ذکر غزوة أحد.

(2)    البداية والنهاية: ٣/٢٩٧، فصل وقد اختلف الصحابة في الأسارى أيقتلون أو يفادون. تفسير ابن کثیر:2/329، سورة الأنفال: الآية: 67. (3)  تاريخ الطبري: ٣/256،57، ذكر خبر أهل البحرين وردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين. البداية والنهاية: 6/329، ذكر ردة أهل البحرين وعودهم إلى الإسلام. الكامل في التاريخ:٢/١٤٢،٤٣، ذكر ردة أهل البحرين، وص:174: ذكر مسير خالد بن الوليد إلى العراق وصلح الحيرة.


(*)      الأستاذ بالجامعة الإسلامية العربية بجامع أمروهة/الهند.

مجلة الداعي، جمادى الأولى 1444هـ = ديسمبر 2022م، العدد: 5، السنة: 47

Related Posts