إلى رحمة الله

بقلم: رئيس التحرير

nooralamamini@gmail.com   

عن طريق الصحف الهندية علمنا بوفاة العالم الأديب الشيخ الأستاذ الدكتور شمس تبريز خان القاسمي – رحمه الله تعالى – أستاذ القسم العربي بجامعة «لكهنؤ» فآلمنا ذلك وحزننا كثيرًا. وقعت وفاته بمدينة «لكهنؤ» إثر نوبة قلبية، أَحْوَجَتْ إلى إدخاله المستشفى حيث تَنَاوَلَه الأطبّاءُ بعلاج مُكَثَّف؛ ولكنّ أجلَه كان قد حَضَرَ؛ فلَفَطَ أنفاسَه الأخيرة ظهر يوم السبت 6/ربيع الأول 1434هـ الموافق 19/يناير 2013م، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وكان عمره 70 سنة بالنسبة إلى السنوات الهجرية، و68 عاماً بالنسبة إلى الأعوام الميلادية.

       وقد صَلَّى عليه بالناس فضيلة الشيخ الدكتور سعيد الأعظمي الندوي – حفظه الله – مدير دارالعلوم ندوة العلماء في ساحة قريبة من منزله في حي «مدح غنج» بالمدينة، بعد صلاة العشاء من الليلة المتخللة بين 6-7/ ربيع الأول = 19-20/يناير، ودُفِنَ بمقبرة «تَكِيَّهْ تَارَنْ شَاهْ» في حيّ «كَهدْرَا». وحَضَرَ الصلاةَ عليه جمعٌ كبير من العلماء والطلاب والـمُثَقَّفِين والأدباء وعامة الناس والمُحِبِّين والمتعارفين.

       وقد أبدى الأوساطُ العلميّةُ والدينيّةُ والأدبيّةُ أسفَها الشديدَ وحزنَها العميقَ على وفاته – رحمه الله – لأنّه كان عالماً باحثاً وأديباً لامعاً باللغة الأردية إلى جانب بَصَرِه باللّغة العربيّة واللغة الفارسيّة وإلمامه باللغة الإنجليزيّة، ودراسته العميقة الواسعة للتاريخ الإسلامي والتاريخ الإنساني العامّ. ولدراساته العربية أَكْرَمَه رئيسُ الجمهورية الهندية بجائزة «البراعة في اللغة العربيّة».

       خلّف – رحمه الله – وراءَه إلى جانب زوجته أربعةَ بنين وأربعَ بنات، وكلهم كانوا يسكنون معه بمدينة «لكهنؤ» التي أمضى فيها حياته العمليّة كلّها بعد ما تخرج في جامعة «دارالعلوم/ديوبند»، والتي بنى فيها منزله في حي «مدح غنج».

*  *  *

       كان الفقيد – رحمه الله – من خِرِّيجي الجامعة الإسلامية الأهلّيّة الكبرى في شبه القارة الهنديّة المعروفة بـ«دارالعلوم/ديوبند» وكان فيها من الطلاب الـمُجِدِّين الصلحاء، المنقطعين إلى الدراسة، المُحَافِظِين على الصلاة والعبادات، المُوَاظِبِين على الأوقات، المستَغِلِّين لفُرَصِ الليل والنهار فيما يَعْنِيهم وحدَه.

       خلالَ حديثي عنه – رحمه الله – مع رئيس الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند فضيلة الشيخ المفتي أبوالقاسم النعماني – حفظه الله – الذي كان مُعَاصِرَه في الدراسة في الجامعة أفادني – حفظه الله – يوم الثلاثاء: غرة ربيع الثاني 1434هـ الموافق 12/فبراير 2013م في مكتبه بالجامعة في الساعة 11 ضحى: بأنّي وجدتُه طالباً مُجِدًّا مُتَوَفِّرًا على الدراسة وحدها، منقطعاً عن جميع الأشغال غير الدراسيّة، وكان هادئاً كلَّ الهدوء، يُحِبّ العزلةَ، ويزهد في العَلاَقَة مع الطلاب والحديث معهم، إلاّ لدى حاجة مُلِحَّة، وكان يَعْكُفُ على دراسة اللغة الأرديّة كثيرًا، وكان يُرَاسِل في أيّامه تلك أديبَ الأرديّة الكبير الشيخ عبد الماجد الدريا آبادي – رحمه الله تعالى – (1310-1399هـ = 1892-1978م) الذي كان يُصْدِر جريدةً أرديّةً أسبوعيَّةً باسم «صدق جديد» يتّسم بالأسلوب الأدبي البارع الخلاب الذي كان يجذب الـمُتَذَوِّقِين للغة الأردية إلى قراءتها واقتنائها وشرائها، فكان الأخ «شمس تبريز خان» الذي كان يُعْرَف آنَذَاك في الوسط الطُلاَّبي بـ«شمس تبريز آروي» كثير العناية باقتنائها وقراءتها وتشرّبِ أسلوبها وأفكارها، وكثيرًا ما كنت أجد ساعِيَ البريد المُكَلَّف بتوزيع البريد في محيط الجامعة يَفْرِزُ بريدَه أولاً و يُفْرِده من بريد عامَّة الطلاّب؛ لأنّ كثرةَ ورود خطابات الشيخ عبد الماجد الدريا آبادي الأديب الأردي الكبير إليه، كانت تُمَيِّز بريدَه عن بريد عامَّة الطلاّب. وكنتُ أجده في صلاة الظهر يسبق مُعْظَمَ الطلاب إلى مسجد الجامعة، ويُصَلِّي السنن الرواتب قبل الفريضة، ويتخذ مكانَه عن يمين المُكَبِّر، وينظر بإمعان في عدد من أعداد «صدق جديد». مما جَعَلَني أَتَأَكَّد أنه شُغِفَ حبًّا بالجريدة لأسلوبها الأدبيّ الممتاز.

       وأضاف – حفظه الله – أنه حَدَثَ في تلك الأيّام سِبَاقٌ أدبيّ حادّ تَحَوَّلَ «خِصَاماً أدبيًّا»كاد يُفَجِّر الوضعَ الطلاّبيَّ في الجامعة. وذلك بين طلاب ولاية «بيهار» وطلاب ولاية «يوبي». وكان الأخ «شمس تبريز خان» على رأس طَلَبَةِ «بيهار» في الترسّل والكتابة الأدبيّة باللغة الأرديّة مع طالبين آخرين من «بيهار» هما الشيخ «أسرارالحق القاسمي» الذي كان يكتب في تلك الأيام بتوقيع «أسرار الحق عسجد القاسمي» والذي يكتب اليوم زاويةً مستقلةً في صحيفة «راشتريا سهارا» الأرديّة الصادرة بدهلي وهو اليوم عضوٌ مُنْتَخَبٌ من دائرة «كشن غنج» بولاية «بيهار» في البرلمان الهندي وفي مجلس الشعب الهندي بالذات؛ والأخ «محمد شعيب الجالويّ» الدربنجوي – رحمه الله – الذي كان ابنَ أختِ العالم الهندي الكبير القاضي مجاهد الإسلام القاسمي (1355-1423هـ = 1936-2002م) رئيس هيئة الأحوال الشخصية سابقاً. وقد عمل الأخ الشيخ «محمد شعيب الجالوي» القاسمي أستاذًا بقسم اللغة الأرديّة بجامعة «رانتشي» بولاية «جهاركهند» – ولاية «بيهار» سابقاً – .

       وأضاف – حفظه الله – أنّه كان هؤلاء الطلاب الثلاثة يُصْدِرُون مجلّةً حائطيَّةً ناطقة بجمعيّة سجّاد – إحدى الجمعيّات الطلابيّة الكبرى بالجامعة – باسم «باسبان» (الحارس) وكانت تتّسم بالأسلوب الأرديّ الأدبيّ الجميل الذي كان يُعْجَبُ به طُلاَّبُ الجامعة أشدّ الاعجاب ويُقْبِلُون على قراءتها بنَهَم شديد ورغبة جامحة. وذاتَ مرّة أَصْدَرُوا عددًا منها بالنظم الأرديّ الساخر – الذي قُصِد فيه الاستهزاءُ بطلاّب ولاية «يوبي» – وكانت الأبياتُ فيه قويّةَ النسج، وكانت كلُّها أو جُلُّها مما قَرَضَه الأخُ «شمس تبريز خان» وعندما تَأَزَّمَ الوضعُ الطلاَّبيُّ جدًّا بادرتِ الإدارةُ الجامعية بمُصَادَرَة المجلّة بأعدادها المُعَلَّقَة على الجدران. وعندما جِيْءَ بها إلى مكتب رئاسة الجامعة و وَقَعَ نَظَرُ العالم الكبير فضيلة الشيخ المقرئ محمد طيب – رحمه الله – (1315-1403هـ = 1897-1983م) رئيس الجامعة سابقاً عليها، قال: «بغَضِّ النظر عن الغرض السلبيّ الذي من أجله قال وكتب الطلاّبُ هذه الأبياتَ وهذا النثرَ الأرديَّ الرائعَ، إن لغتهم حقًّا راقية جدًّا تُبَشِّر بمستقبلهم الزاهر في العلم والدراسة والفكر الثقافي». (انتهى ما أفادني به فضيلة رئيس الجامعة: الشيخ المفتي أبوالقاسم النعماني البنارسي / حفظه الله تعالى).

*  *  *

       كان الفقيد – رحمه الله – حليم الطبع، هادئاً، صَمُوتاً، لا يتكلّم إلاّ إذا دَعَتْه حاجة مُحْوِجَة إلى الكلام، سليمَ النفس، لا يُقَهْقِه ولا يضحك، وجُلُّ ضحكه الابتسامة التي لا تتجاوز شفتيه إلى أسنانه، لا يخوض في عرض أحد، مُتَفَرِّغاً لشؤونه هو، استراح الناسُ منه واستراح هو منهم، مُتَمَتِّعاً بروح الصبر لآخر الحدود، إذا تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ عن علم ودراسة ومعلومات، ولا يتكلم إلا بصوت منخفض، بسيطاً كلَّ البساطة في مأكله وملبسه وتعامله مع الحياة، قصير الخطو، سريع المشي، تظلّ عيناه مركوزتين إلى الأرض لدى السير، يصعب على رائيه أن يتحسس أنه رجلٌ ذوعلم من هندامه الذي يشفّ عن التواضع المتناهي، رَبْعَةً من الرجال مائلاً إلى القصر، واسع العينين، أزجَّ الحاجبين كثيفَهما، أسمرَ اللّون مائلاً إلى البياض، لاسميناً ولا نحيلاً، جميل الخطّ الفارسي الذي استعارته الأردية والذي كان يخطّه بقلم الحبر، وكان قلمه كذلك متواضعاً رخيص الثمن جدًّا، كلما كان يخطّ جملة يهزّه من الفوق إلى التحت؛ لأن الحبر الرديء الذي كان يجفّ دائماً في طرف ريشته، يُحْوِجُه إلى ذلك، وكأن هزَّ القلم لدى الكتابة أصبح عادةً لا فكاكَ له منها؛ ولكنه كان لايشطب لدى الكتابة الكلمات أو الجملَ مثلَ مُعْظَم الكتّاب. قلتُ له: كيف تَعَوَّدْتَ ذلك؟ قال: إنّي أشطب الكلمات والجمل والتعابير في ذهني لدى تحضيرها فيه؛ فلا أكتبها على الورق إلاّ مُسْتَوْثِقاً منها مُسْتَقِرًّا رأيي فيها.

       كان من الأدباء المُتَضَلِّعِين من اللغة الأرديّة، قلّ أن يُدَانِيَه مُعَاصِرُوه من المتخرجين في جامعة دارالعلوم/ ديوبند في الكتابة بها، وكان أسلوبه مزيجاً من أسلوب العلاّمة شبلي النعماني (1274-1332هـ = 1857- 1914م) والشيخ عبد الماجد الدريا آبادي الذي مرّ ذكره آنفاً، كان يكتب اللغةَ الأرديةَ محكمةَ النسج، صحيحةَ التركيب، قليلةَ المباني، خالية من الحشو، مشمولة بالحلاوة الأدبيّة، والروعة البيانية. وكما كان كاتباً بارعاً، كذلك كان مُتَرْجِماً بارعاً من اللغة العربيّة إلى اللغة الأرديّة. وكان ذلك من فضل الله عليه؛ لأن كلّ كاتب قدير لايكون مُتَرْجِماً قديرًا، وكذلك كلّ مُتَرْجِم مُتَمَكِّن لايكون كاتباً ماهرًا.

       نقل عددًا من الكتب – إلى جانب تاليفه وكتابته بالأردية مباشرةً – من اللغة العربية إلى اللغة الأردية الفصيحة التي لم يَشُمَّ منها رائحةَ الترجمة حتى كبّارُ الكُتَّاب والأدباء باللغة الأردية، فعندما صدرت ترجمةُ كتاب «روائع إقبال» للعلاّمة الشيخ أبي الحسن الندوي (1333-1420هـ = 1914-1999م) إلى اللغة الأردية العذبة الجميلة بقلم الفقيد – رحمه الله – أشاد كبارُ الأدباء والصحفيين بمحتويات الكتاب الأصليّة، كما أشادوا بالأردية الفصيحة الرائعة التي صِيغَتْ فيها الترجمةُ لِهذا الكتاب الذي هو أكثر مُؤَلَّفات الشيخ الندوي صعوبةَ عبارة، ودقّةَ تعبير، وروعة تصوير؛ لأنّه كتاب أدبيّ فكري أُلِّف في التعريف بالشاعر الإسلامي الأكبر في هذا الجزء من الشرق الإسلامي الواسع: الدكتور الفيلسوف «محمد إقبال» (1290-1357هـ = 1873-1938م) وأفكاره السامية، ورؤاه العالية، وأبياته الخالدة في التعبير عن الفكر الإسلامي القرآني المحمدي، والإشادة بالحضارة الإسلاميّة، والتغنى بالمجد الإسلامي، والتشنيع على الحضارة الغربية ومُعْطَياتها الفاسدة المفسدة، وتداعياتها القاتلة. وعلى رأس هــؤلاء الأدبــاء الكتاب الشيخ عبد الماجد الدريا آبادي – رحمه الله تعالى – الذي كان ممن يزنون كلَّ كلمة قبل أن يُطْلِقوها فكان لايكيل المدحَ جزافاً.

*  *  *

       ولمؤهلاته العلمية الأدبية والكتابيّة اختاره سماحة الشيخ السيد أبوالحسن علي الندوي – رحمه الله – ليكون عضوًا كاتباً باحثاً في المجمع العلمي الإسلامي بندوة العلماء، فانضم إليه في 3/أغسطس 1966م (6/جمادى الأخرى 1388هـ) فألّف من على منبره أولاً كتابه بالأردية «الأحوال الشخصية للمسلمين والنظام العائلي لدى الإسلام» كما ألّف الجزء الثاني من «تاريخ ندوة العلماء» كما نقل إلى الأردية كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم» لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (661-728هـ = 1263-1328م) باسم «إسلامي وغير إسلامي تهذيب» و«روائع إقبال» للشيخ أبي الحسن الندوي باسم «نقوش إقبال» وألّف كتاباً حول حياة العالم الأديب الفطن الذكي السريّ حبيب الرحمن خان الشيرواني – رحمه الله – (1283-1369هـ = 1867-1950م) وإلى ذلك كان يساعد الشيخ الندوي – رحمه الله – في البحث والتأليف؛ فكان يجمع مواد ومعلومات تاريخية واجتماعيّة يشير بها عليه من مظانّها، كما كان يُمْلِي عليه الشيخ الندويّ مقالات وخطابات، فكان يخطّها بقلمه بالخطّ الفارسي الأرديّ بسرعة بالغة، وكان يقوم بذلك كله على مستوى كان يرضاه ويُعْجَب به الشيخ الندوي – رحمه الله – ويدعو له بالبركة في حياته وأعماله ورزقه.

       وإلى جانب عمله بالمجمع وعلى تكليف من الشيخ الندوي، كتب كثيرًا من المقالات والأبحاث في موضوعات شتى أدبية وعلمية وفكرية ودينية واجتماعيّة نشرتها مجلاّت وقورة في شبه القارة الهندية. ورغمَ مكانته الكبيرة التي اكتسبها بعلمه وفضله وتعمقه في الدراسات العربية والفارسيّة والأرديّة لم يُوَفَّ في المجتمع حقَّه من الصيت، ولم يتمكن من جمع المال والتوسّع في أسباب المادة والمعدة؛ لأنّه كان لايقدر على فرض الذات والتشهير بها وتضخيم الشخصية، الأمر الذي بدونه لايحترم المجتمع أحدًا قدرَ ما يستحقّه مهما كان كبيرًا في الواقع في علمه وفضله وقيمه الإنسانية.

       عمل – رحمه الله – بالمجمع نحو 19 عاماً في الفترة ما بين 3/أغسطس 1968م (6/جمادى الأخرى 1388هـ) و 14/يناير 1987م (17/جمادى الأخرى 1407هـ) ثم انضم إلى السلك التدريسيّ في القسم العربي بجامعة لكهنؤ في 15/يناير 1987م (18/جمادى الأخرى 1407هـ) بعد ما حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها، وظلّ ينال فيها الترقية حتى صار «أستاذًا» – بروفيسورًا – وكان يحترمه زملاؤه في العمل وفي التدريس والمسؤولون كلّهم، لكونه رجلاً لايضرّ أحدًا بفعاله أو مقاله، مشغولاً بشخصه وبأعماله. وظلّ يعمل بها حتى آخر لحظة من حياته، رحمه الله وأدخله فسيح جنّاته، وغفر له زلاّته، وألهم أهلَه وذويه الصبرَ والسلوانَ، وتَوَلاَّهم برعايته وعنايته من بعد وفاته، فهو وليُّ من لا وليَّ له وسندُ من لا سندَ له.

*  *  *

       أذكر أنّي حَطَطْتُ رَحْلِي قادماً من دهلي العاصمة لدى سماحة الشيخ الندوي – رحمه الله رحمة واسعة – في أواخر ذي الحجة 1391هـ أوائل فبراير 1972م، ومكثت شهورًا بوطنه «تكيه كلان» الملاصقة لمدينة «رائي بريلي» ثم عُنِّيْتُ أستاذًا بدارالعلوم ندوة العلماء بلكهنؤ على اختيار ورغبة منه – رحمه الله تعالى – فتعرفتُ على الشيخ «شمس تبريز خان»، وعدتُ ألتقيه لقاءً شبهَ يوميّ في مجلس الشيخ الندوي الكتابيّ والتأليفيّ الذي كان يعقده كلَّ يوم في الفترة ما بين ما بعد تناول الفطور إلى ما قبيل أذان صلاة الظهر، ثم عشتُ معه زمناً طويلاً ممتدًّا على نحو عشر سنوات، وأتيح لي أن أتعمق في شخصه وأنزل إلى أغوار طبعه، فوجدتُه على ما ذكرتُه في السطور السالفة. وقد تجوّلتُ معه بعض الأحيان في الأسواق للتسوق، أو للجلوس إلى بعض الأدباء والشعراء الأرديين اللامعين في مدينة «لكهنؤ» ولاسيّما الذين كانوا يرتادون بعضَ المقاهي ومحلاّت الشأي في سوق «حضرة غنج» الشهيرة بنظافتها وغلائها وبضائعها المرتفعة الأسعار، فكان لايرتادها للتسوّق إلاّ الأثرياء والطبقة الأرستقراطية، وكانت تمتاز عن غيرها من الأسواق بالمدينة، بثقافتها الأدبيّة هي الأخرى. وكانت له – رحمه الله – علاقة وطيدة مع عدد من الكتّاب والأدباء الذين كانت تنعقد مَجَالِسُهم الأدبية عفويًّا كلَّ يوم.

       كما سافرتُ معه مرات من مدينة «لكهنؤ» إلى «تكيه كلان» موطن الشيخ الندوي – رحمه الله – وأمضيتُ معه فرصة ثلاث أو أربع ساعات في الطريق بين المكانين، فعرفتُ به أكثر مما يعرف أعضاء أسرة واحدة بعضُهم ببعض وعلمتُ أنه رجل ساذج جدًّا، يكاد لايعرف حتى نفسَه – إذا صَحَّ تعبيري وقَبِلَه عارفوه – ولايهتمّ حتى بما يهمّ شخصَه ويهمّ أسرتَه، رجلٌ وُلِدَ وعاش ومات على غفلة عن الناس، لم يعرف ضررًا ولاضرارًا، ولم يغتب أحدًا ولم يحقد عليه، ولا مسَّ أحدًا بسوء من يده أو لسانه، خزن لسانَه، فاجتنب كثيرًا من المعاصي التي تكون نتيجةَ حَصَائِدِه، وقد أخبر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أن الناس يُكَبَّون في النار على وجوههم أو على مَنَاخِرِهم من أجل حصائد ألسنتهم، فقال – صلى الله عليه وسلم – : «وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم – أو قال على مناخرهم – إلاّ حصائدُ ألسنتهم» (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح) هكذا كنتُ قد عرفته وعليه تركته منذ نحو 33 عاماً عند ما انتقلت من درالعلوم ندوة العلماء بلكهنؤ إلى دارالعلوم بمدينة ديوبند أستاذًا ورئيس تحرير لمجلة «الداعي» العربية الشهرية حاليًّا والنصف الشهريّة سابقاً.

السيرة الذاتية للفقيد في سطور:

  • الاسم: شمس تبريز خان بن فخرالدين أحمد خان
  • الوطن الأصلي: (مكان الولادة): بهوجبور، مديرية «آره» ولاية «بيهار».
  • الولادة: (حسب ما هو مُسَجَّل في سجل الالتحاق بجامعة دارالعلوم/ ديوبند) 15/شعبان 1364هـ (17/يونيو 1945م).
  • التعليم: التعليم الابتدائي تلقّاه في المدرسة الحنفية الفرقانية بمدينة «غوندا» بولاية «يوبي» بالهند. أما التعليم المتوسط والنهائي فتلقاه في الجامعة الإسلامية «دارالعلوم/ديوبند». التحق بها في 22/شوال 1380هـ (12/مارس 1960م) وتخرج فيها في شعبان 1384هـ (نوفمبر 1964م).

وفي ما يلي العلامات التي حصل عليها في كل كتاب من كتب الحديث الشريف بجامعة ديوبند، علماً بأن السقف النهائي للعلامات كان أيام ذاك خمسين علامةً في كل كتاب، ونذكر بجنب كل كتاب اسم الشيخ الذي قرأه عليه: صحيح البخاري: 47 = الشيخ الكبيرالسيد فخرالدين أحمد رحمه الله (1307-1392هـ = 1889-1972م) جامع الترمذي: 41 = الشيخ العلاّمة محمد إبراهيم البلياوي رحمه الله (1304-1387هـ = 1886-1967م) صحيح مسلم: 40 = الشيخ بشير أحمد خان رحمه الله (المتوفى يوم السبت 8/جمادى الأخرى 1386هـ = 24/سبتمبر 1966م) سنن أبي داود: 42 = الشيخ السيد فخرالحسن رحمه الله (1323-1400هـ = 1905-1980م) معاني الآثار للطحاوي: 43 = الشيخ السيد فخرالحسن رحمه الله، سنن ابن ماجه: 35 = الشيخ الكبير العالم الهندي المعروف المقرئ محمد طيب رحمه الله (1315-1403هـ = 1897-1983م) رئيس جامعة ديوبند سابقاً، سنن النسائي: 35 = الشيخ شريف الحسن رحمه الله (1339-1397هـ = 1920-1977م) الشمائل للإمام الترمذي: 43 = الشيخ السيد فخرالحسن رحمه الله، موطأ مالك: 45 = الشيخ بشير أحمد خان رحمه الله، موطأ محمد: 39 = الشيخ عبد الأحد الديوبندي رحمه الله (1329-1399هـ = 1911-1979م) .

  • العمل:  1   عمل عضواً باحثاً في المجمع الإسلامي العلمي بندوة العلماء في الفترة ما بين 3/أغسطس 1968م (6/جمادى الأخرى 1388هـ) و 14/يناير 1987م (17/جمادى الأخرى 1407هـ)

2   ثم عمل أستاذًا في القسم العربي بجامعة «لكهنؤ» في الفترة ما بين 15/يناير 1987م (18/جمادى الأخرى 1407هـ) حتى وفاته في 19/يناير 2013م (6/ربيع الأول 1434هـ)

  • المؤلفات: اللغة العربية في عهد الحكم الإسلامي باللغة الأردية، تاريخ ندوة العلماء الجزء الثاني بالأردية، «صدر يار جنك» ترجمة مولانا حبيب الرحمن خان شيرواني بالأردية، الأحوال الشخصية للمسلمين والنظام العائلي لدى الإسلام بالأردية.
  • التراجم: نقل كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم» إلى الأردية باسم «إسلامي وغير إسلامي تهذيب» وكتاب «روائع إقبال» باسم «نقوش إقبال» إلى جانب ذلك كتب كثيرًا من المقالات والأبحاث بالأردية في كثير من المجلات الأردية الصادرة بشبه القارة الهندية.
  • الوفاة: توفى – رحمه الله تعالى – ظهر يوم السبت: 6/ربيع الأول 1434هـ الموافق 19/يناير 2013م، بمدينة لكهنؤ، ودفن بها. وكان عمره لدى الوفاة 70 سنة بالنسبة إلى السنوات الهجرية، و 68 عاماً بالقياس إلى الأعوام الميلاديّة.

(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الجمعة: 4/ربيع الثاني 1434هـ الموافق 15/فبراير 2013م)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الاولى 1434 هـ = مارس ، أبريل 2013م ، العدد : 5 ، السنة : 37

Related Posts