الأدب الإسلامي

بقلم : أديب العربية الكبير معالي  الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

ومن مظاهر فقره التي حملتها إلينا النصوص النص التالي:

       «عن ابن عباس قال:

       رأيت عمر بن الخطاب يطوف بالبيت وإزاره مرقوع بأدم»(1).

       لم يخجل عمر من الإزار المرقع، هذا عنده وشاح شرف، ولم يغطه بسرقة قماش من مال المسلمين، وهناك نص آخر عن الرقع في هندامه هكذا:

       «قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – :

       رأيت لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إزاراً فيه إحدى وعشرين رقعة من أدم، ورقعة من ثيابنا»(2).

       وعلامات فقره كثيرة، والدلائل على أنّه يجوع متعددة، فعمر حظه من الدنيا الركض خلف مصلحة الناس، ناسياً نفسه، متقرباً بالتقشف لله، وليس هو الذي تغريه الدنيا، هو معها في صراع، هي تركض وراءه، وهو يجري أمامها هرباً منها، تأتيه بالمجد في الخلافة، فيحول الخلافة إلى جهد وتعب، وينزلها إلى مهنة لا يغبطه عليها أحد؛ لأنه ليس بحاجة لمجد، إن وعاءه طافح منه، ويصدق عليه ما قاله هو عن صفوان حين نظر إليه فقال لأصحابه حين رأى صفوان مبتذلاً لأصحابه:

       «هذا رجل يَفِرُّ من الشرف، والشرف يتبعه»(3).

       ويخطبه المال، فلا يلتفت إليه، ويقلب الجواهر، والأحجار الكريمة، بعود بيديه، وكأنها أحجار أو نوى، لا قيمة لها، وهذه بعض نصوص تري ما كان عليه من الفقر والعوز، وما يدعو إليه منه:

       «وقف عمر بن الخطاب مرة على المنبر بعد أن جمع المسلمين، فخطب فيهم قائلاً:

       أيها الناس، قد كنت أؤجر نفسي بطعام بطني، ثم أصبحت وليس فوقي أحد.

       ثم نزل، فسأله ابنه عما دعاه إلى أن يذكِّر الناس بضعف حاله في الماضي، وهو اليوم أمير المؤمنين، فقال له:

       إن أباك يا بني أعجبته نفسه، فأحب أن يذلها»(4).

       عمر بعيد عن العقد النفسية، ولهذا كشف عن ضعف كانت عليه حاله في الماضي، حتى لا يستغرب الناس منه ضعفه الحالي في المال، ثم أراد أيضاً ألّا يقوى عليه أحد، حتى نفسه، لما رأى أنها تتوق إلى أن تتقوى عليه أضعفها بكشف الخلل فيها أمام الناس، حتى لايكون هناك تراجع. والابن مجده من مجد أبيه، ولهذا ألمح ابنه له بألمه لما تفوّه به أمام الناس؛ لأن هذا لايخص عمر – رضي الله عنه – وحده، ولكنه يخص معه أهله وأبناءه، ولعل الابن اقتنع برد والده، ورضي أن ينتفع والده بما أحرجه هو، فوالده يستحق النفع.

       «ويروى عن إسحاق بن عبد الله أنه قال:

       سمعت أنس بن مالك يقول:

       رأيت عمر يُلقى إليه الصاع من التمر، فيأكله حتى حشفه»(5).

       هنا مظهر جوع، ومظهر تواضع، الجوع في أن يأكل عمر – رضي الله عنه – صاعاً من تمر، فلابد أنه طوى بطنه عدة أيام حتى يجد شبعته هذه، والتواضع أنه لا ينقي التمر فيأكل الجيد، وينبذ الردىء، بل يأكل ما يليه، تمرًا كان أو حشفاً.

       لهذا وأمثاله أزرى عمر بالحكام، كل حاكم أتى بعده حاول أن يتشبه به، فلم يستطع، غلبته نفسه، أو غلبه أهل زمانه. وكثيرًا ما طالب الناس حكامهم أن يكونوا مثله، وينسون أن أم عمر لم تلد إلا عمرًا واحدًا، في زمان بعينه، إن من يسمع المدح لعمر يتمنى أن يكونه، ولكن لا أحد يستطيع أن يتحمل ما تحمل عمر، وأول أعداء من يحاول تقليد عمر نفس المقلد، التي لا تسمح له بجَلَد عمر أو حزمه، أو أمانته أو تقشفه، ولو جاء من لديه العزم، ولديه النية الصالحة، وهو أهل لذلك، لما وجد أهل زمانه على استعداد لقبول ما قبل أهل زمان عمر من سياسة عمر، وهذا عمر بن عبد العزيز، وهو من أهل عمر، كان كفيًّا أن يكون مثله في كل صفاته، إلا أنه لم يجد القوم الذين وجدهم عمر، وقد كتب عمر بن عبد العزيز لسالم بن عبد الله فطلب منه كتب عمر وسيرته، فرد عليه سالم بالآتي:

       «كتبت تسألني أن أبعث إليك بكتب عمر وسيرته، وقضائه في أهل القبلة والذمة، وإن عمر – رضي الله عنه – عمل به في غير زمانك، وعمل بغير رجالك، ووليت في زمن من تعلم، بعدما عمل (كذا)، وأظهر ما تعلم»(6).

       وكل من احتاج إلى العدل، أو الحزم، أو القوة في الحلم، أو الشدة في السياسة تذكر عمر، وطالب بسياسة عمر، ولكن التعقل والتبصر يرد الناس إلى واقعهم المختلف عن واقع عمر، فيقنعون، ويقلعون عن المطالبة، ويرضون من الغنيمة بالإياب، فيسالمون زمنهم، ويعايشونه بعيوبه التي هي في الحقيقة عيوبهم، ولكن الطمع في البشر جبلَّة، يريدون الكسب دون أن يعطوه حقه من أنفسهم، بل يريدونه من غيرهم، وهم يعلمون أنه خلاف نهج الطبيعة.

       وهذا عبد الملك بن مروان يشكو من رعيته مطالبتهم له أن يسير فيهم سيرة عمر؛ وعبد الملك جاء في وقت ليس بعيدًا عن وقت عمر، ولكن المجتمع في زمنه تغير كثيرًا عن مجتمع عمر، فالرعية غير الرعية، وقوة الدين في قلوب الناس لم تكن مثل قوته في قلوب رعية عمر، وقد أضجرت هذه المطالبة عبد الملك، فجعلها مادة إحدى خطبه:

       «قال عبد الملك على المنبر:

       ألا تنصفوننا يا معشر الرعية؟ تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولم تسيروا في أنفسكم، ولا فينا، بسيرة رعية أبي بكر وعمر. أسأل الله أن يعين كُلاًّ على كُلٍّ»(7).

       ويبدو أن عبد الملك وجد إلحاحاً من الناس في هذا، فاضطر أن ينبههم في موقف عام إلى ما غاب عنهم، وقد واصل قوله في الرد مثلما واصلوا قولهم في المطالبة، فله موقف آخر في هذا المجال، جاءت الرواية فيه هكذا:

       «قال ابن عائشة:

       سمعت أبي يذكر أن عبد الملك بن مروان أشرف على أصحابه، وهم يذكرون سيرة عمر، فغاظه ذلك، فقال:

       إيهاً عن ذكر عمر، فإنه إزراء على الولاة، مفسدة للرعية»(8).

       حتى أصحاب عبد الملك، وحاشيته، أعجبتهم سيرة عمر، مع أن عبد الملك لو طبق سياسة عمر، لفقد هؤلاء كثيرًا من الميزات التي كانت لهم، ولندموا على ما بدا منهم من أمنية؛ وصحيح أن ترديد سيرة عمر مفسدة للرعية؛ لأنهم يطلبون حقهم فيها، ولا يعطون حقها عليهم، فيحدث التذمر من عدم إجابة مطلبهم، وينالهم ضرر كبير من ذلك.

       والمهدي، وهو من أوائل العباسيين، وجدير أن يبحث عن سياسة سليمة مجربة، ينجح بها في حكمه، ومن المتوقع أن يصل في بحثه إلى ما عرف عن سياسة عمر، ونجاحه فيها، وأن يتمنى أن يكون له نتيجة مثلها؛ ولكنه يعلم علم اليقين أنه لا يستطيع تطبيقها؛ لأن أهل الزمن تغيروا، ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الخلف؛ وعليه أن يجد سياسة تتناسب مع زمنه، يبنيها وهو في أوائل سني الخلافة العباسية، على التجربة، ولابد من الخطأ، حتى يتبين طريق الصواب، وقد أبان هذا في موقف اقتضى الأمر فيه أن يوضح ما تبين له، والقصة هكذا:

       «قال المهدي للناسك صالح بن عبد الجليل، في مجال موعظة له:

       لو أعلم بموضع النجاة ما كنت أولى بعظتي مني بعظتك، وما هو إلا أن أركب سيرة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ولا يصلح والله عليها أحد من أهل هذا العصر، وذلك أن الناس في الزمن الماضي، كان يرضي أحدهم الطمر البالي، وتقنعه الكسرة اليابسة، والماء القراح، وهم اليوم في مضاعف الخز والوشي، ومائدة أحدهم في اليوم بمثل غنى ذي العيال في زمن عمر؛ أو أسيح في الأرض، ذات العرض، فإلى من أكلهم»(9).

       لقد شرح المهدي الأمر شرحاً وافياً، وأبان لهذا الناسك الخيّر، أن الأمر ليس بالسهولة التي قد يتصورها، وأنها لصاحب المسؤولية، والمتبصر بأحوال الناس، تختلف، وأبان له هذا الاختلاف بين زمنه وزمن عمر، مما يجعل من المستحيل تطبيق سياسة عمر على أناس يختلفون، أناس تعودوا سعة العيش، ورحابة الرزق، حتى أن الواحد منهم ليضع على مائدته للشخص الواحد ما يكفي عائلة كاملة، ولأكثر من وجبة.

       وهناك قصة طريفة، تبين كيف يفاجأ أولئك الذين يطلبون سيرة عمر، أنهم ربما لم يحمدوها لو طبقت عليهم، كما تصورنا مع حاشية عبد الملك بن مروان، وهذه القصة مثلٌ أبلج في هذا الأمر، والقصة هكذا:

       «تنازع اثنان، أحدهما سلطاني والآخر سوقي، فضربه السلطاني، فصاح: واعمراه؟

       ورفع خبره إلى المأمون، فأمر بإدخاله عليه، قال:

       من أين أنت؟

       قال: من أهل فاميه.

       قال: إن عمر بن الخطاب كان يقول: من كان جاره نبطيًّا، واحتاج إلى ثمنه، فليبعه؛ فإن كنت تطلب سيرة عمر، فهذا حكمه فيكم.

       وأمر له بألف درهم»(10).

       فإذا كان المهدي اختار أسلوباً أرقى في الحديث مع الناسك، ليقنعه بأن حكم عمر وسياسته لا تصلح لهذا الزمن، فإن المأمون، وهو الفقيه، قد اختار أسلوباً مروِّعاً أولاً، وهو أكثر إقناعاً لهذا النبطي. وقد اهتم المأمون بكلمة: «واعمراه» وأراد أن لا يترك علاج هذا الصوت لأحد، واختار أن يعالج الأمر بنفسه أولاً ليعرف ما وراءه، وما خفي منه، ومصدره، ثم يعطيه الاهتمام الذي يستحقه، ويعالجه بالعلاج الناجع، ثم يجعل صاحبه هو الناشر لما انتهى إليه الأمر. وقد أجاد المأمون الفكر والتخطيط والعلاج، ولا أظن نبطيًّا يقدم على ما جربه هذا الفامي، حتى لو أغراه المبلغ؛ لأن المرة الأولى جاءت بألف الدرهم؛ لأنها حالة منقطعة، أما الثانية فبدء ظاهرة قد تأتي بألف جلدة!

       وتأثير سيرة عمر على من قرب من زمانه كبيرة، وقريبة إلى ذهن الحكام والرعية، فهي تطل عليهم عند أقرب داع، فهذا معاوية – رضي الله عنه – يستدعي سيرة عمر في حديث جادٍّ مع ابنه:

       «قال بكير بن الأشج:

       إن معاوية بن أبي سفيان قال ليزيد ابنه:

       كيف تُراك فاعلاً إن وُلِّيت؟

       قال: يُمتِّع الله بك.

       قال: لتخبرني.

       قال: كنت والله، يا أبه، عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب.

       قال: سبحان الله! سبحان الله! والله يا بني، لقد جهدت على سيرة عثمان، فما أطقتها»(11).

       إن معاوية – رضي الله عنه – لم يصل طموحه إل أن يحكم كما حكم عمر، وأقنع نفسه بأن يكون مثل عثمان، وقصر دونه.

       وسمعة عمر الطيبة، واليأس من تقليده، جعله شخصية تتجه الأنظار إلى ما يكتب عنها واستفاد منها الذين يَهْوَوْن النحل، ويعمدون إلى الاختلاق والوضع، إما لوجود فكرة طرأت على أذهانهم، فاستحسنوها، فاستخسروا أن توأد، فوضعوها في صيغة علقوها على مشجب عمر، أو لقصد الإساءة إلى عمر، لحقد في أنفسهم، وبغض في قلوبهم، نتجية جاهلية من نوع أوآخر، أو لقصد الإساءة إلى آخرين عن طريق أقوال يضعونها على لسان عمر، علَّ هذا يجعل لها رواجاً في المجتمع، وإشاعة بين الناس، فيصلون إلى هدفهم عن هذا الطريق الخبيث، والنية السيئة. ومن الأمثلة على ذلك:

       «كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال:

       هذا كسرى العرب»(12).

       ظاهر هذا هو المدح، ولكنه في الحقيقة قدح، فمسلم مثل معاوية، حكم رقعة أكبر من الرقعة التي حكمها كسرى، لا يشرفه أن يمُثَّل بكسرى، وإن شهر كسرى بالعدل؛ ومعاوية إنما عرف بالحلم، وقد يكون قصد به المدح في زمن لا تزال الحاجة إلى تثبيت تفوق معاوية على علي – رضي الله عنه – في نهاية النزاع، ومبايعة معاوية خليفة في زمن الحسن.

       وقد يكون واضعها وضعها في زمن العباسيين وكان يريد أن يكسف من شمس الإعلام التي يَنْشُر ضياءها العباسيون، عند بدء دولتهم.

       على أي حال، إن كانت قيلت عن معاوية، فلا أظن أن قائلها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فما معاوية إلا أحد عماله، ولم يكن له تلك المنزلة المتميزة عن غيره من العمال.

       فإذا كانت هذه الفرية قصد بها أن تكون في جانب عمر، فالقصة التالية، وهي في نظري مختلقة أيضاً، ضد معاوية وعدد كبير غيره:

       «قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – :

       لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما استعملت أحدًا من الطلقاء»(13).

       الإسلام ساوى بين المسلمين، عمر قوي الإسلام، عميق الإيمان، قادر أن يقوِّم أي معوج، وله من حزمه ما يُقدره عل عزلهم لو رأى أن في تعيينهم ما يوجب تغيير السياسة تجاههم. إن بين عماله من هؤلاء من أثبت جدارته، وملأ مركزه، وجاء منه للإسلام خير عميم، وإن عمر كان راضياً عنهم حتى وفاته؛ ولكن هناك من لم يرض، وهناك من أراد أن يضع فكرة تربَّت في ذهنه، فوجد أن خير سوق تعرض فيها هو سوق عمر الرائجة البضاعة عند الناس، أملاً أن تقبل.

       ولمعاوية – رضي الله عنه – من يضع الأخبار عنه، حتى يعدل الكفة التي يملأ أختها أعداء معاوية، فيقول عنه محبوه أقوالاً يضعونها، تلمح فيها علامات النّحل، والهدف من ذلك مدح معاوية، مثل القصة الآتية:

       «قال عمر عن معاوية:

       احذرا آدم قريش، وابن كريمها، من لا ينام إلا على الرضا، ويضحك في الغضب، ويأخذ ما فوقه من تحته»(14).

       لو قيل أن الذي قال هذا هند بنت عتبة، أم معاوية، لقبل، أما أن يقوله عمر فغير مقبول البتة. فعمر لا يرمي المدح كيلاً بالصاع، ولا عاطفة مندفعة عنده بهذه الصورة، ومعاوية لم يصل إلى هذا الوصف في زمن عمر.

       وهناك قول حوله شبهة النحل، إن لم يكن موثقاً في أحد الكتب المعتمدة، وهو القول الآتي:

       «قال ابن أبي بشر: إنما بايع الناس أبا بكر – رضي الله عنه – لأنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

       الحق مع عمر بعدي، فلما رأوا عمر مدَّ يمينه لبيعة أبي بكر رضوا بذلك لما سبق إليهم»(15).

       ويأتي من يريد أن يدنس سمعة عمر، وهو يعرف أن هذا لن يقبل منه، ما لم يأت بما يقنع بالقبول، عن طريق شبهة فقهية، يدخل منها، ولكن الأمر للمتدبر واضح التدليس:

       «شرب رجل من إداوة عمر – رضي الله عنه – فسكر فجلده، فقال:

       إنه من نبيذك.

       فقال: إنما جلدتك لسكرك»(16).

       إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أبعد من أن لا يعرف الدين، وإذا كان أقرب الناس إلى معرفة الدين، فهو أبعد من أن يخالفه، وهو يعرف أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وعمر كان بعيدًا عما يشين الأخلاق في الجاهلية، وهو في الإسلام أبعد، وفي الإسلام أول ما يشين الخلق مخالفة الدين(17)، وصورته في الجاهلية يبينها النص التالي:

       «قيل لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – :

       أخبرنا عن أيام جاهليتك؟

       قال: ما داعبت أمة، ولا جالست إلا لمة (رفقة)، ولا دأبت إلا في حمل جريرة، أو خيل مغيرة، وأما أيام الإسلام فكفى برغائها منادياً»(18).

       هذا هو عمر بن الخطاب في الجاهلية، ولعل هذا مع غيره يفسر حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إسلام عمر؛ لأن الإسلام يزداد عزًّا بمثل حامل هذا الخلق، في وقت كان خلق الناس مزعزعاً، إلا من عصم الله، وهذا هو عمر في الإسلام يرعبه رغاء الإسلام وتحذيره، فهو أبعد الناس عن الشهوات، وأبعد الناس عن شرب الخمر، حتى قليله؛ لأنه لا ضمان عند الإنسان في أن القليل لا يجر إلى الكثير، وعمر أبعد عن أن يلغي عقله، ويحوم حول الحمى؛ لأنه يعرف أن من حام حول الحمى وقع فيه. وعلى كل حال فليس في الخمر لعمر مطمع، ولا فيها جاذب، أما أن يكون حد الرجل فأمر وارد، ويقبل قول الرجل في حالة واحدة إذا كان قال ما قال وهو تحت وطأة السكر!

       والعين والسحر والجن كلها أمور حق، ولكن الناس يخرجونها عن حدودها المقبولة، وإطارها المعقول، ويعطون لنفسهم القياد في الخيال المُغرب، والصور المدهشة، ويظن قاصُّ القصة المبتدعة أنه إذا قرنها بعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنها سوف تَدْرُج بعيدًا، يميناً وشمالاً، وأنها سوف تقبل، وهذه قصة عن الجن، ورد فيها اسم عمر – رضي الله عنه – :

       «قال نعمان بن سهيل الحداني:

       بعث عمر بن الخطاب رجلاً إلى البادية، فرأى ظبية مصرورة، (محجوبة إطباؤها = أثداؤها) فطاردها حتى أخذها، فإذا رجل من الجن يقول:

يا صاحب الكِناية المسكورة

خل سبيل الظبية المصـرورة

فإنها لصبيـــة مضــــرورة

غاب أبوهم غيبة مـذكـورة

في كورة لا بوركت من كورة(19)

       وكل عمل يقدم عليه عمر – رضي الله عنه – فهو لصالح الرعية، وقد يأتي هذا في صورة حث على أمر، أو نهي عن أمر، وقد يأتي عن عمل يجد عمر أن في اتخاذه ما ينفع المسلمين في معاشهم، أو في سهولة أدائهم لعبادتهم، وقد مر بنا ما قاله للمزارعين الجدد من العرب الذين سكنوا العراق، بأن لا ينهكوا وجه الأرض، ومن مشاريعه في الإصلاح توسعة المسجد الحرام، والنص التالي يحدد تاريخ ذلك:

       «في سنة سبع عشرة وسع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – المسجد الحرام، بدور اشتراها، ودور هدمها على من أبى البيع، وترك ثمنها لأربابها في خزانة الكعبة، حتى أخذوها بعد»(20).

       وإصلاحه يذهب إلى هذا البعد، ويقترب إلى مجال النصيحة والإرشاد في الأمور الاجتماعية، التي تساهم في إسعاد الناس، فمثلاً في النص التالي يظهر بمظهر الوالد عندما ينصح بما فيه مصلحة الفتاة:

       «قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – :

       لا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح، فإنهن يحببن ما تحبون»(21).

       وليكون قوله مسموعاً، ونصحه مقبولاً، فإنه يلحقه بتعليل مقنع، لا يجادل فيه اثنان، فمثلما يحب الرجل أن ينتقي المرأة الجميلة، وألا يجبر على القبيحة، فالمرأة كذلك تريد أن يكون زوجها جميلاً لا قبيحاً، ومن يمكنه أن يجادل في هذا، أو يغالط في صحته!

       وفترة عمر فترة انتقال، يجد فيها جديد، يحتاج إلى أن ينظم، ويدخل المجتمع عادات، ولابد لها من ترتيب، لتجد مكانها اللائق في المجتمع الإسلامي، ويبدو أن عمر يشعر أنه المسؤول عن هذا التنظيم وهذا الترتيب؛ بل قد لا يكون جديدًا، ولكن عمر بعد أن صار إليه الأمر أصبح يفكر في كل شيء، ويوصله إلى درجة الكمال ما أمكن ذلك، والقصة التالية تُري كيف أن عمر التفت إلى أمر، على بساطته، ذي أهمية، وأهميته هذه تكمن في أن فيه رأفة لفئة من الرعية، يستحقون الرفق والحنان، والالتفاتة الأبوية، في موقف نبل يقفونه، والقصة كما يلي:

       «مر عمر بن الخطاب – رحمة الله عليه – بحفارين يحفرون قبر زينب بنت جحش، في يوم صائف، فضرب عليهم فسطاطاً، فكان أول فسطاط ضرب على قبر»(22).

       ويدخل في حب التنظيم بعض عاداته اليومية؛ ولأنها تتكرر، وبعضها له صلة بالناس، مما يوجب توحيدها، فقد صار له نهج في ذلك، وعمر ليس بدعاً في هذا، فالملوك والولاة لهم نهج عرف عنهم، أراحهم، وأراح جلساءهم، والملوك والولاة يجلسون مجالس للخاصة والعامة، ويأتي وقت انصرافهم من المجلس، أو صرف الناس عنه، ولابد من كلمة أو إشارة في هذا المجال، فكان لكل واحد منهم علامة يعرف بها من في مجلسه أنه آن الأوان للانصراف، وقيل عن عمر في هذا ما يأتي:

       «وكان عمر يقول: قامت الصلاة»(23).

       وعمر حزمه يجعله يرمي ثقله على الأمر الذي ينوي معالجته، يخطط له، ويفكر فيه، ويعيد الفكر ويديره، حتى يضمن نجاحه، فهو لا يجازف، ولا يترك الأمر للصدف، يضع أمامه الهدف، ووجوب بلوغه، فلا يترك وسيلة للوصول إليه دون أن يزنها بميزان دقيق، يتأكد من كل جانب فيها، فلا يعشي عينيه جانب، فيفاجأ بجانب آخر، كان يجب أن يحسب حسابه، ويعطيه حقه من الرعاية، فليس هو من أصحاب الرأي الفج، ولا الفكر العابر، ولابد من اختمار الفكرة في ذهنه، ومعرفتها معرفة جيدة. ويوم السقيفة يوم مهم، كان له ما بعده، وعمر لم يهرول إلى المكان، ذاهل الفكر، مشدوه البال، لايدري ما سوف يقول، ولا ما هو هدفه، ولم يكن ينتظر إلى أن يصل إلى هناك، ويرى إلى ما يتبلور إليه الرأي، وما يكون عليه الجدل، وما ينتهي إليه الأخذ والرد؛ بل ذهب وفي ذهنه فكر، وفي نيته خطة، ويرمي إلى هدف واضح، ولهذا أعدَّ القول مقدماً، وجاء وهو يدري ماذا يريد أن يفعل، جاء ليقود الرأي، وليكون الرسن في يده، ويبقى مُوَجِّهَ السفينة طوع بنانه، والميناء الذي يريد السفينة أن ترسو فيه معروف له، والنص التالي يشير إلى هذا:

       «قال الغلابي: سئل عبد الله بن محمد التيمي عن قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوم السقيفة:

       كنت زورت في نفسي كلاماً.

       فقال: معناه: كنت أصلحت زوره، حتى استقام. قال: ومنه قول أبي وجره:

يزَوِّرُ الأمْرَ حتَّى يستقيمَ لَهُ

فمَا تَرى أبداً في أمْرِه زُورا(24)

       لهذا فعمر – رضي الله عنه – لا يُختل عندما يقول قولاً؛ لأنه لم يقله إلا بعد تفكير، أدى إلى اقتناعه به، فهو لا يفاجأ بالاعتراض يأتيه ممن لم يتعمق في الأمر، ولم يتبصر في جوانبه، وفي القصة التالية وضوح لموقف عمر، والمعترض على قوله:

       «قال عمر بن الخطاب:

       إن في قوم كذا وكذا من شهر كذا لساعة لا يدعو الله فيها أحد إلا استجيب له.

       فقال له قائل: أرأيت إن دعا فيها المنافق؟

       قال: فإن المنافق لن يُوفق لتلك الساعة»(25).

       وعمر يلتفت إلى ما قد يغفل عنه أذكى الناس؛ لأنه لا ينطلق من اللحظة التي تأتيه المشكلة فيها، أو يعترضه الأمر أثناءها، إن عمر ينطلق من مبادئ حفرها جوادَّ في ذهنه، وقوالب ثابتة، يضع فيها ما يقابله في حياته، فيتكيف الأمر في ضوئها؛ ومن الصعب القدرة على الانتصار على رأي عمر من معترض لم تتبلور في ذهنه الأمور بلورتها في ذهن عمر، وينضج الفكر عنده إنضاجه عنده.

*  *  *

الهوامش:

  • عيون الأخبار: 1/414.
  • عيون الأخبار: 1/414، ربيع الأبرار: 4/8.
  • محاضرات الأدباء: 108.
  • جيل الدربكة: 247.
  • عيون الأخبار: 3/247.
  • الذهب المسبوك: 182.
  • البيان والتبيين: 1/265، وسراج الملوك: 348، ومحاضرات الأدباء: 67.
  • مجالس ثعلب: 2/394.
  • الذهب المسبوك: 210.
  • عيون الأخبار: 1/451.
  • الإشراف: 127.
  • ربيع الأبرار: 4/229.
  • ربيع الأبرار: 4/249.
  • عيون الأخبار: 1/62.
  • البصائر: 6/124.
  • ربيع الأبرار: 4/63.
  • انظر ما سبق أن كتبه عمر لأبي عبيدة عن أحد الصحابة لسكره، وما وعظه به: في الأجزاء السابقة من هذا المقال.
  • البصائر: 2/30.
  • الإشراف: 176.
  • الدرر الفرائد: 1/417.
  • عيون الأخبار: 4/12.
  • الإشراف: 323.
  • محاضرات الأدباء: 83.
  • البصائر: 3/48.
  • البيان والتبيين: 3/279.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الثاني 1434 هـ = فبراير ، مارس 2013م ، العدد : 4 ، السنة : 37

Related Posts