الفكر الإسلامي
بقلم: الأستاذ محمد إبراهيم الخطيب
جمهورية مصر العربية
في شهر رمضان شهر القرآن يحلو للمسلمين أن يتحدّثوا عن كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ليكون معجزته الكبرى الخالدة.
إن القرآن الكريم قد نزل في ثلاث وعشرين سنة على حسب الحوادث والمناسبات، وأغلبه نزل في مكة وضواحيها (85 سورة) ويسمى المكّي، ونزل الباقي في المدينة (29 سورة) ويسمى المدني، وكان أوله نزولاً (سورة اقرأ) وقد نزل مُنَجَّمًا، ولم ينزل مرة واحدة لتثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولتيسير حفظه وفهمه على المسلمين ولمسايرة الحوادث .
والمعروف أن الآية جزء من القرآن ذو مبدأ ومقطع، وأطول آية (آية 282 من سورة البقرة وهي آية المداينة) وأقصر آية (والضحى) ورتبت الآيات بتوقيف من الرسول.
والسورة جزء من القرآن الكريم، وتشتمل على عدة آيات، وجملة السور (114) سورة، وأطولها سورة البقرة(286) آية وأقصرها سورة الكوثر (3 آيات) وجاء ترتيب السور بتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم كالآيات، وكان للوحي كُتّاب يكتبون ما نزل منه بإملاء الرسول على الجلود والعظام والأحجار والجريد والنسيج، وبقي القرآن في حياة الرسول محفوظاً على هذه الصورة في تلك الصحف، وفي صدور عدد غير قليل من الصحابة.
وبعد موقعة اليمامة التي قتل فيها عدد من الحفاظ ندب “أبوبكر” الصديق بناء على اقتراح عمر “زيد بن ثابت” لجمع القرآن، وبقيت هذه الصحف مرتبة تحت رعاية “أبي بكر” و “عمر” من بعده، ثم أودعت بيت أم المؤمنين “حفصة”.
ولما اتسعت الفتوح وتفرق المسلمون في الأمصار جمع “عثمان بن عفان” الصحابة، واستشارهم في جمع القرآن في مصحف واحد تنسخ منه نسخ للأمصار، فأقروه على ذلك، وكتبت عدة مصاحف من المصحف الموجود عند السيدة (حفصة) وبعثوا إلى كل مصر “قطر” بمصحف، واحتفظ (عثمان) لنفسه منها بمصحف سمي المصحف الإمام.
وهكذا حفظ الله القرآن، وسيظل حافظاً له مصداقًا لقول الله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰـفِظُوْنَ (سورة الحجر/9)
وفضل القرآن على كل حديث كفضل الله على خلقه؛ ذلك لأن القرآن روح تحيا به النفوس، ونور يهدي به الله للتي هي أقوم من يشاء من عباده، وهو أيضًا شفاء، وفي هذا نقرأ قول الله تعالى:
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوْحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتـٰـبُ وَلاَ الإِيمَـٰـنُ وَلَـٰـكِن جَعَلْنَـٰـهُ نُورًا نَّهْدِيْ بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِرٰطٍ مُّسْتَقِيْمٍ (سورة الشورى/52).
ونقرأ أيضًا قوله تعالى:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَاهُوْ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِيْنَ (سورة الإسراء/82)
ثم إنّ الله تعالى لم يبعث رسولاً إلاّ وقد أيَّده بالآيات الكونية والمعجزات المخالفة للسنن المعروفة للناس والخارجة عن مقدور البشر؛ ليكون إظهارها على يديه مع بشريته، دليلاً على أنه مُرْسَل من عند الله؛ فناقة صالح، وعصا موسى، وما ظهر على يدي عيسى من العجائب كلها من هذا القبيل، وكانت هذه الآيات حسية يوم أن كان العقل الإنساني في الطور الذي لم يبلغ فيه الرشد بعد، ويوم أن كانت هذه العجائب تبلغ من نفسية الجماهير مبلغًا لا تملك معه إلا الإذعان والتسليم.
مع رشد البشرية
فلما بدأ النوع الإنساني يدخل في سنّ الرشد وبدأت الحياة العقلية تأخذ طريقها إلى الظهور والنماء لم تعد تلك العجائب هي الأدلة الوحيدة على صدق الرسالة، ولم يعد من السهل على العقل أن يذعن لمجرد شيء رآه خارجاً عن عرف الحياة، إنه يريد شيئًا جديدًا يتناسب مع الطور الذي وصل إليه.
يريد الإيمان الذي لا تخالطه الشكوك واليقين الذي يبدد ظلام الشبهات. وما كان الله لمد النوع الإنساني في طفولته بما يحفظ به حياته الروحية ثم يدعه بعد أن أخذ سبيله إلى النظر العقلي والاستقلال الفكري دون أن يقيم له من الأدلة ما يتناسب مع الارتقاء الذي انتهى إليه.
فكان أن بعث “محمدا صلى الله عليه وسلم ” وأيده بالمعجزة العلمية والحجة العقلية وهي القرآن الكريم.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (سورة الإسراء/88).
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من الأنبياء نبي إلاّ أعطى ما مثله آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أَوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة”.
وهذا القرآن الكريم ليس من تأليف أحد إنما هو وحي الله أنزله على أكمل صورة من صور الوحي، وأكمل هذه الأنواع هو إرسالُ الرسولِ بالوحي. وهذه الصورة هي التي نزل بها القرآن فقد نزلَ – كما نعرف – بواسطة جبريل عليه السلام:
وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـٰـلَمِيْنَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِيْنُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِيْنَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِيْنٍ (سورة الشعراء/192-195).
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيْلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِيْنَ (سورة البقرة/97).
مبادئ السلام العام
لقد جاء هذا الوحي ثورة على الباطل في كل صوره وعلى الفساد في جميع مظاهره؛ فثار على الخرافات التي لوَّثت العقول، وعلى الانحرافات التي شوَّهت الفِطَر، كما ثار على العُرف الفاسد الذي عطّل حرية الفكر واستقلال الإرادة.
ثار على هذا كله ثورة عاتية دمَّرت كل معالم الشر، ومحت كل لونٍ من ألوان الفساد، واستبدل بها الحقائق التي تهدي العقل وتنير الضمير وتسمو بالنفس لتصل إلى أقصى ما قدر لها من الكمال الإنساني.
واستهدف القرآن تهذيب الفرد وتعاونَ الجماعة وإيجاد حكم أساسه الشورى وحرية الرأي وفتح الطريق أمام الرأي الآخر؛ والدعوة إلى الحكمة والموعظة الحسنة والأخوة الإنسانية. وكل هذه مبادئ تعجل بسلام عام يعيش الناس في ظله آمنين مستقرين ترفرف عليهم أعلام الحب والمودة والوئام!
ولم يكن القرآن بهذه المبادئ يستهدف مصلحة ذاتية، ولا منفعة وطنية، ولا ترجيح كفة جماعة على كفة جماعة أخرى، ولا إيثار مذهب على مذهب، وإنما كان هدفه هو خير العالم ومصلحة الناس: كل الناس.
لقد جاء القرآن ليحل المشكلات التي أعضلت الناس قديمًا وحديثًا ويهديهم إلى سواء السبيل.
ولقد رأيناه يجيب عن كل سؤال من هذه الأسئلة على سبيل المثال.
- ما الدين وما مبادئه ؟
- من الله ؟ وما صفاته؟
- من الرسل وما وظائفهم؟
- ما ماهية الحياة بعد الموت؟
- ما الخير؟ وما الشر؟.
- لماذا خلق الإنسان؟. وما مركزه في الكون؟.
- ما علاقة الإنسان بغيره؟. وما علاقة الأمم والشعوب بعضها ببعض؟.
- ما علاقة الرجل بالمرأة ؟.
- ما الحياة الطيبة؟ وما السبيل إليها.
وهكذا يمضي القرآن يضع أمام العقل الإنساني مئات المسائل التي لا يُستغني عنها في دور العلم والفلسفة والتي تعجز عقول البشر عن الإحاطة بأقل القليل منها، والتي يحتاج إليها في قطع مرحلة هذه الحياة لتكون أعلامًا هادية تجنبه الضلال في شئون الدين والدنيا.
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلـٰـمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمـٰـتُ الله (سورة لقمان/27).
ثروة علمية ضخمة
كل هذه المسائل جاءت في أسلوب بلاغي رائع يملك على المرء حسه، ويستولى على مشاعره، ويوقظ حواس الخير فيه مع بعده عن الاختلاف وسلامته من التناقض.
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوْا فِيهِ اخْتِلَـٰـفًا كَثِيْرًا (سورة النساء/82).
إنه لم يعرف لكتاب من الكتب مثل ما لهذا (القرآن) من سمو الموضوع وسحر البيان وقوة التأثير مما وجه عناية العلماء إلى الاهتمام بدراسته من حيث ألفاظه ومعانيه، وعقائده وآدابه، وأحكامه وتشريعاته، فخلقوا بهذه الدراسة ثروةً ضخمة من العلم والأدب لا تزال – ولن تزال – المادة الصالحة لقيام حضارة إنسانية ينعم فيها البشر بحياة أفضل وعيش أرغد.
وهذا القرآن الذي أراد الله له الخلود لا يتصور أن يأتي يوم يصل فيه العلم إلى حقيقة ما تتعارض مع أي حقيقة من حقائقه؛ فالقرآن كلام الله، والكون عمل الله، وكلام الله وعمله لا يتناقضان أبدًا، بل يصدّق أحدهما الآخر، ولهذا جاءت الحقائق العلمية مصدقة لما سبق به الكتاب تحقيقًا لقول الله سبحانه:
سَنُرِيهِمْ ءَايَـٰـتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيْ أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (سورة فصلت/53).
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ سَيُرِيْكُمْ ءَايَـٰـتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بَغَـٰـفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ (سورة النمل/93).
والله سبحانه يريد لكلمته أن تذاع، وتصل إلى العقول والأسماع، وتتحوّل إلى واقع عملي ولا يتم ذلك إلا إذا كانت ميسَّرة للذكر والحفظ والفهم؛ ولهذا جاء القرآن سهلاً ليس فيه ما يشق على الناس فهمه، أو يصعب عليهم العمل به.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (سورة القمر/17).
ومن تيسيره أن حَفِظَه الرجال والنساء، والصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، وردّدوه في البيوت والمساجد، ولا تزال أصوات القرّاء تدوّي في كل ناحية، ولا نعلم أنّ كتابًا من الكتب غير القرآن نال من هذه الميزة بعض ما اختص به القرآن الكريم.
الرعاية .. وآثارها
وقد تلقى الصحابة – رضوان الله عليهم – هذا الكتاب الكريم مدرِكين مدى الشَّرف الذي حَباهم الله به، فأقبلوا عليه يرتلون آياته ويتلونها آناء الليل وأطراف النهار، حتى لقد كان من يمر بهم ليلاً يسمع لهم دويًّا كدويّ النحل مِن تلاوة القرآن.
جعلوه غذاءَ أرواحهم، وقوتَ قلوبهم، وقرة أعينهم. نفذوا أحكامه، وأقاموا حدوده، وطبقوا شرائعه. طهرت به نفوسهم، وصلحت به سرائرهم، فاستطاعوا أن يحدثوا أكبر ثورة عالمية غيروا بها وجْه الأرض، وأعادوا الحياة الصحيحة من جديد.
رسخ الإيمان في قلوبهم، واستقرّ اليقين في أعماقهم، فقاوموا أعداءهم وصبروا وصابَروا ورابطوا حتى تمَّ لهم النصر، واستطاعوا أن يطهروا جزيرة العرب من المشركين واليهود، ثم انسابوا في أقطار الأرض يحملون النور والهدى، فلم يمض عليهم سوى ثلاثة أرباع قرن، حتى تمّ لهم فتح ثلاثة أرباع العالم، طهروها من الكفر والظلم والاستبداد، وملأوها بالإيمان والحق والعدل، مما كان مثار الإعجاب ودهشة علماء الاجتماع.
ثم خلف من بعد هؤلاء خلف هجروا العمل بكتاب الله هجرًا غير جميل، ولا يزال هجر العمل به يقوى ويشتد، حتى انتهى الأمر بكثير من الناس إلى جعل حظهم من القرآن أن يستمعوا إليه استماع الطرب والنغمات يقرءونه في المقابر والمآتم لأرواح الأموات، ويستجدون به على أبواب المساجد وفي الطرقات، ويعلقونه تعاويذ وتمائم .
وأحسنهم حالاً من يقرؤه لحصول البركات وتكثير الحسنات دون أن يكلف نفسه شيئًا من العمل مما فيه.
وبهذا الهجر أجدبت القلوب، وخبثت النفوس، وتشعبت الضلالة، والتبست السبل، وانقسم الناس.
وأمام هذه الحقائق كما لابد من العودة إلى دعوة القرآن الكريم فإنه لا منجاة إلا به؛ لأنه الروح الذي به الحياة.
ولقد روى عليّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قلت: يا رسول الله، وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله، ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولاتتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا تملّه الأتقياء، ولا يخلق – أي يَبْلَى – على كثْرة الرَّد، ولا تنقضى عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالو:
إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا (سورة الجن/1).
“من علم بعلمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم”.
ولا يتم الانتفاع به إلا إذا تعاهده المرء بالتلاوة والتدبر، وتأثرت به نفسه، وخشع له قلبه، وعاش في جوه، واستظل بظله الظليل.
ومن هنا رأينا الله يلفت أنظارنا إلى تذكُّر نعمته بإنزال كتابه الجامع للحكمة والموعظة الحسنة .
وَاذْكُرُوْا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَـٰـبِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ (سورة البقرة/231).
ثم إنّ أهل القرآن هم أولى الناس بالله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فلنبدأ الطريق في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34