الفكرالإسلامي
بقلم: الكاتب الإسلامي فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
شهر الصوم، وشهر العبادة، كتب الله صيامه على أمّة الإسلام، لما فيه من الأجر والفضائل العديدة، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، وبين ما فيه من مضاعفة الأجر، فقال: (من صام رمضان إيمانًا، واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنوبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)، فهو: (شهر أوله رحمة، و وسطه مغفرة، وآخره عتق من النار) لأنه شهر الخيرات ومضاعفة الحسنات، وشهر التسابق إلى الخيرات: صياماً حيث يظمئ الصائم نفسه، ويجيع بطنه، ويرهق بدنه، بالعبادات طمعًا فيما عند الله؛ ولذا جاء في الحديث، بعد استعراض هذه الأمور، إنّ الله يقول: (الصوم لي وأنا أجزي به). وما ذلك إلاّ أنّ الصائم، ترك طعامه وشرابه، وتغلّب على شهوته من أجل الله سبحانه.
فرضه الله على الأمم، قبل أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من استجاب، وهم القلّة القليلة، ممن حُرموا الأجر والثواب العظيم، ومنهم من عاند، وعدّل وبدّل، ممن استحوذ عليهم الشيطان، فعصوا الله سبحانه، وعاندوا شرعه الذي شرعه عليهم، فباؤوا بالخسران، ومن قصّر وعاند، ولم يؤدّ حقّ الله في الصّيام، فقد شابه تلك الأمم المنحرفة عن شرع الله، والمسلِّمين لأنفسهم قيادة الهوى، والاستجابة للشيطان.
يقول جلّ وعلا في بيان أنّ هذا الشهر المحدّد للصيام وأنّه قد كتب على الأمم قبل أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، في خطاب تكريمي، للفئة المؤمنة، المستجيبة لربّها في سورة البقرة: ﴿يَا اَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ﴾، ثم خَفف الله سبحانه، بعد آية التكليف على المريض والمسافر فقال: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 183-184).
وفي الترغيب في هذا الشهر يقول صلى الله عليه وسلم، في حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، لما حضر رمضان: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشّياطين، وفيه ليلة، هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حُرِم) أخرجه أحمد والنسائي والبيهقيّ. وهو شهر يكفّر الله به السيِّئات، ويكثر فيه فضل الله على عباده، فقد روى مسلم في صحيحه حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (الصلوات الخمس مكفّرات لما بينهنّ، إذا اجتُنبت الكبائر).
والفطر في رمضان لمن ليس له عذر: سواء للذّكر البالغ، فما فوقه، وللنساء المكلّفات، طوال أعمارهن معصية كبيرة؛ لأنّه تعمّد لمعصية أمر الله، واستهانة بحرمة هذا الشهر، الذي فضّله الله على الشهور، وجعل سبحانه له مكانة عظيمة؛ لأن احترامه من كلِّ مسلم، طاعة وحسن استجابة لله، حيث يحبّه الله؛ لأنّه من أهم العبادات.
فخلوف فم الصائم، أطيب عند الله من ريح المسك؛ لأنّه يدع طعامه وشرابه من أجل الله، ورغبة فيما عنده سبحانه من ادخار الأجر العظيم، وإنّ من تكريم الله سبحانه للصائمين، أنْ اختصّهم بباب من أبواب الجنّة، اسمه الريّان لايدخل معه غيرهم. فإذا تكامل عددهم أغلق، وأنّهم ينادون على رؤوس الأشهاد يوم القيامة لإكرامهم.
وقد جاء في الترهيب من الفطر في رمضان، بدون مبرر شرعي، حديث رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [بيْنَما أنا نائم، إذْ أتاني رجلان، فأخذت بضبعي.. أيّ عضدي –، فأتيا بي جبلاً وعْرًا، فقالا لي اصعد. فقلت: إني لا أطيق؟ فقالا: إنّا سنسّهله لك. فصعدتُ حتى إذا كنتُ في سواء الجبل، إذا أنا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟. قالا: هذا عواء – يعني عويل وصراخ – أهل النار.
ثم انطلقا بي، فإذا أنا بقوم معلّقين بعراقيبهم، مشقّقة أشداقهم، تسيل أشداقهم دمًا، قال: فقلت: من هؤلاء: قالا: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلّهم صومهم) يعني بهم الذين ينتهكون حرمة رمضان، بالإفطار فيه، أو الإفطار قبل الموعد الذي حدّده الله عز وجل – أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، و وافقه البيهقي.
والله سبحانه قد حدّد، وقت الإمساك عن الطعام والشّراب والنِّكاح، ليصون المسلم صيامه، ويحفظه مما حرّمه الله عليه وحدد له وقت الإباحة، لما حرم على الصائم اجتنابه، فقال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (البقرة:187).
فالصيام يجب – في شهر رمضان – على كلِّ مسلم: فلا يجب على الكافر بحال، وإنّ أسلم في أثناء الشهر، لم يلزمه قضاء الأيام السّابقة لإسلامه، وإنّما يجب بعدما أسلم، لما روى سفيان بن عبد الله بن ربيعة قال: (حدثنا وفْدُنا الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإسلام ثقيف قال: وقدموا عليه في رمضان، وضرب عليهم قبة – يعني خيمة – في المسجد، فلما أسلموا صاموا ما بقي من الشهر) رواه ابن ماجة.
وأن يكون مكلّفًا، فلا يجب على مجنون ولا صغير، لم يبلغ الحلم، ويرى بعض العلماء أن يعوّد الصغير مادام يطيقه، حتى يسهل عليه بعد التكليف. أخذًا من حديث: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع) أخرجه النسائي في سننه.
ومن عجز عن الصوم، لكبر كالشيخ الهرم – ذكرًا أو أنثى – اللذين يجهدهما الصّوم، ويشقّ عليهما مشقّة شديدة.. أو كان لعجز عن الصوم لكبر أو مرض، لا يُرْجى برؤه، فإنّ عليه الإطعام عن كلِّ يوم لمسكين، أما إذا كان فطره، لمرض طارئ أو لمرض يعوده، فإنّه يفطر بهذا، ويقضي بأيام أخر وقت ما ينفكّ عنه المرض. فقد كان الإمام مالك – رحمه الله –، لما كبُر وصار الصيام يشقّ عليه، في آخر عمره، فصار يطعم عن كلِّ يوم مسكينًا. ولا ينبغي للصائم في هذا الشهر، عندما يسافر فيه أن يصوم، بل يفطر ويقضي، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من البرّ الصيام في السفر).
غرس يدي:
قال رجل من إخوة المأمون، للمأمون: يا أمير المؤمنين، إنّ عبد الله بن طاهر، يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه من قبله، فدفع المأمون وأنكره، ثم عاد بمثل هذا القول.
فدس المأمون إلى عبد الله بن طاهر رجلاً، ثم قال له: امض في هيئة القرّاء والنّسّاك إلى مصر، فادع جماعة من كبرائها، إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صر بعد ذلك، إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم ائته فادعه ورغّبَه، في استجابته له، وابحث عن دَفِيْنِ نيّته، بحثًا شافيًا، وائتني بما تسمع منه.
ففعل الرجل، ما قاله وما أمره به، حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام، قعد يومًا بباب عبد الله بن طاهر، ودفع رقعه إلى الحاجب ليوصَّله إليه، فأذن له، فأدخله عليه، وهو قاعد على بساطه، ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مدّ رجليه وخفاه فيهما، فقال له: قد فهمت ما في رقعتيك، من جملة كلامك، فهات ما عندك.
قال: ولي أمانك، وذمّة الله معك؟. قال: لك ذلك. فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم فأخبره بفضائله وعلمه وزُهْده، فقال له عبد الله: أتنصفني؟. قال: نعم. قال: هل يجب شكر الله على العباد؟ قال: نعم.
قال: فهل شكر بعضهم لبعض، عند الإحسان والمنّة؟. قال: نعم.
قال: فتجيء إلي وأنا في هذه الحال التي ترى: لي خاتم في المشرق وفي المغرب، وفيما بينهما أمري مطاع، وقولي مقبول، ثم ما التفت يمينًا وشمالاً، و ورائي وقدامي، الاّ نعمَة لرجل أنعمها عليّ، ومنّة طوّق بها رقبتي، ويدأ لائحة بيضاء، ابتدائي بها تفضّلاً وكرمًا، فتدعوني إلى الكفر، بهذه النِّعمة، وهذا الإحسان، وتقول: اعذر بمن كان أوّلاً لهذا وآخرًا، واسْبغْ في سَفْك دَمه، تراك لو دعوتني، إلى الجنّة عيانًا، من حيث أعلَم، أكان الله يحبّ أن يغدر به، وأكفر بإحسانه، ومنّته، وأنكث بيعته.
فسكت الرجل، فقال له عبد الله، أمّا إنّه قد بلغني أمرك، وتالله ما أخاف عليك إلاّ نفسك، فارْحَلْ من هذا البلد، فإنّ السلطان الأعظم، إنْ بلغه أمرك – وما آمن ذلك عليك، كنتَ الجاني على نفسك ونفس غيرك. فلما يئس الرجل ممّا عنده، جاء إلى المأمون فأخبره الخبر، فاستبشر وقال: ذلك غرس يدي، وإلف أدبي.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34