الفكر الإسلامي
بقلم: الشيخ اسماعيل صادق العدوي
جمهورية مصر العربية
خلق الله الزمن وخلق الإنسان حتى يتعلم من دهره وحتى يفهم حقيقة العمر، وجعل الإنسان بعقل واع بما أنزل الله على أنبيائه ورسله، وجعل الزمن كسبًا في الإنسان، وهبة ومنة يخرج به إلى الدار الآخرة على خير حال؛ فالزمن إذا ضاع وتفلت من الإنسان كان خاسرًا، والإنسان العاقل هو الذي يدرك أبعاد زمنه، ومن هنا يزداد إيمانًا فيه ويزداد طاعة منه، وجعل الله ذلك رحمة لعباده. ومن حكمه البالغة، ومن سعة فضله سبحانه وتعالى أن جعل وقتًا من أوقات الدهر على سعة واسعة وعوض الإنسان المسلم ما فاته فيأتي الزمن بنفحات الحق حتى يتعرض لها المؤمن، وحتى يعود إلى نفسه مع خالقه سبحانه وتعالى.
ومن الزمن المبارك شهر رمضان؛ شهر الصوم، شهر القيام، شهر الفرقان، شهر القرآن. إنه الشهر الذي بارك الله في كلياته وجزئياته، وهو شهر فيه كل ما يريده العقل من ربه، وما يريده الله من عباده.
عندما نستقبل شهر رمضان نستقبله بدعاء مهم كان صلى الله عليه وسلم – كما روى الإمام الترمذي رحمه الله – كان إذا استقبل الهلال أو رأى الهلال قال: “اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله هلال رشد وخير”.
دعاء يستقبل به زمنًا من أزمنة الدهر، ويبلغ حقيقة الحياة فيه، وهو أن يعيش في أمن، وأن يعيش في سلام. والأمن والسلام هما غايتان عظيمتان للبشر، ولا يتحقق الأمن إلا بالإيمان، ولا يتحقق السلام إلا بالإسلام؛ فعندما يسعى الناس إلى أمنهم في حياتهم فهذا هو الدعاء؛ أي يكون الإيمان أمانًا للناس، أمانًا للناس من الكفر والانحلال والضلال والشرك، وأن يكون الإسلام بأمره ونهيه عصمة للناس، فَعُصِمَ الناسُ في دهرهم، عُصموا من الكفر، وعصموا من المعاصي. وإذا عصم الناس من الكفر والمعاصي، عمَّ الأمان وعمَّ السلام.
اللهم أَهلِّه علينا بالأمن والأمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله، هلال رشد وخير. والرشد من الله والخير من الله، يلهم الله المؤمنين رشده فإذا أرشدوا به كانوا على خير. أما إذا استلهموا الرشد من غيره فهم في شر..
إنه الدعاء الجامع دعاء جامع في البداية وهي بداية لاينتهي خيرها ولا ينفد عطاؤها؛ حيث خصنا بهذا الشهر العظيم.
فإذا أقبل رمضان نرى ماذا يحدث فيه؟ يحدثنا أسعد الخلق صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين – أي سلسلت – .
إذن هو شهر الجنة، شهر الجنة لأهلها الذين طردوا شياطين أنفسهم، وتركوا وساوس هواهم فشغلوا بالجنة، شغلوا بالآخرة، فالإقبال إقبال ناضج، وإقبال النصوج لا لبس فيه.
والإنسان اليقظ، والأمة اليقظة، تدرك المعنى الذي يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي أمة الجنة، تركت طريق النار، وعاهدت الله تعالى أن تترك المعاصي، وأن تخلع من فسقها وظلمها وجورها وضلالها وهواها. إقبال وعهد وميثاق بأمة رمضان. لا يأتي رمضان عليها كما جاء على غيرها، وإلا فهي قاسية القلب لا تتحرك بنور القرآن، ولا تتغير بتعاليمه، وإنما هي هي على ما هي، إذا فتحت أبواب الجنة – أي تستقبل أهلها.
ومَن أهلها؟
أهلها الأمة المرحومة، الأمة المكرمة، والجنة تستقبلها، فإن فاتها ما فاتها، فالجنة تفتح دائماً لمن أراد أن يدخلها، فهو رمضان شهر الصوم، شهر الامتناع، الامتناع عن أمرين خطيرين: عن القول الضار الفاحش الذي يؤذي الخلق، وهنا يتنزه الصائم منه، وكم أضيرت الأمة بأقوال الزور وتقارير الزور وشهادات الزور في التجارة، وفي دور العلم، وفي دور القضاء، في الحياة كلها، كم أظهر الزور أنيابه ففتك بكثير من الناس.
وقد يذهب الصائم شاهد زور، وقد ينطق بالكلمة الفاحشة خطرًا على أعراض الناس، وشرًّا على ماضيهم ومستبقلهم؛ فالصائم الذي يدع القول الضار للأمة إذن لا صوم مع قول يضر، ولا صوم مع معصية، إنه وهم يتوهمه الناس، فليس الإمساك عن شيء دون شيء.
ونأتي إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
يا من تشهدون الزور في تجارتكم وبيعكم، اتقوا الله فهذا شهر البراءة من النار ومن أعمال أهلها.
الإنسان بين قول وفعل
هذا هو القول، والإنسان بين قول وفعل، ولا ثالث لهما.
فالقول لابد وأن نتطهر منه، أن نتطهر من قول فاسق، ومن قول زور كذلك. نبرأ من الفعل الفاسق “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق”.
إنها دعوة للصائمين، “وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم.. إني صائم”. أي ممتنع خشية من الله ومراقبة له. إنه يسمع ويرى وأنا صائم صائم له بسرّي وعلانيتي، بقولي وفعلي، بحركتي وسكوني في كل حياتي؛ في بيتي، في موقع عملي، في مدرستي؛ في مسؤوليتي.. إني صائم إني صائم لا آتي الفسق ولا أرتضيه، ولا أقره.
إنها دعوة لكل الأمة بحكامها ومحكوميها، برعاياها ومسؤوليها، لا زور بينها، ولا فسق بينها. إننا أمة تكاملت معانيها حتى أصبحت على طاعة تامة..
ما أجمل الصوم وما أدق الامتناع، الصوم امتناع، تربية للنفس على ترك الشهوات، جاء في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف”.
قال الله تعالى: “في هذا الحديث إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”. فليس بسبعمائة ولا بسبعة آلاف ولا بسبعة ملايين. فالصائم يدع طعامه وشهوته من أجل سر عظيم بين الصائمين وربهم: “والله تعالى يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم”.
الصوم هذه حقيقته إن أردنا صوماً، وهذا شهر المغفرة، شهر المغفرة للمسلم وللأمة؛ فقد كثرت المعاصي، وعم الداء، واستفحلت الأخطار، ولا مخرج إلا بالتفكير في هذا الشهر.
صوم رمضان يقول فيه أسعد الخلق صلى الله عليه وسلم في حديث متفق عليه: “من صام رمضان إيماناً واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”.
إيمانًا واحتسابًا فيتعارض الفسق مع الإيمان، ويتعارض إقرار المعاصي مع الإيمان، لابد وأن تنتزع هذه الأشياء وأن تغلق دور الفسق، فكيف يكون رمضان مع هذا، من صام رمضان إيماناً واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
وفي الليل لا ينتهي الصائم إلى الملاهي، ولا إلى دور الفسق، ولا إلى القمار ولا إلى الفواحش.
وإنما ينتهي من مغفرة إلى مغفرة.
يقول أسعد الخلق صلى الله عليه وسلم: “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”، فأنت في النهار قد غفر لك وفي الليل قد غفر لك، فأصبحت وقد غفر لك، ونمت وقد غُفر لك، فما أعظم هذه النعم.
الشهر شهر جديد
الشهر شهر جديد، في ليالي رمضان، لا يختلف الناس هذا مسجد الثمانية ركعات، وهذا مسجد العشرين. صلوا وأكثروا من القيام، لا تختلفوا فالنافلة خير، والزيادة فيها خير. لا تتلاعبوا بالشرع، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:
“ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه”.
فإذا صليتَ مائة ركعة هل يمنعك مانع، ما يمنعك إلا الشيطان وأهل الهوى.
اتقوا الله في النوافل
اتقوا الله في النوافل حتى تدركوا الخير بها، عند إفطارك ينتظرك الله برحمته، ويقرب منك بفضله، ويغشاك بإحسانه.
عند الإفطار أنت مجاب الدعوة، فلو أخلصت الأمة في ساعة واحدة وسألت الله في هذه الساعة لفرج الله عنّا، ولرفع الشدة والكرب. يقول أسعد الخلق صلى الله عليه وسلم:
“ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الإمام العادل، ودعوة الصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب”.
أنت أيها الصائم عند إفطارك سل الله ما شئت بلا إثم ولا قطيعة رحم..
إن كل وقت له فضله، وله جماله، وله جلاله، وله إحسانه.
عندما تجلس للإفطار وتتناول طعام الإفطار وأنت فرح، إنها فرحة الدنيا، يقابلها فرحة الآخرة: “للصائم فرحتان فرحة عند فطره رفرحة عند لقاء ربه”.
فأنت فرح بهذا الشهر لايصيبك حزن ولا كرب لا في الدنيا ولا في الآخرة.
هذه هي دعوة المسلم ودعوة الأمة، والله تعالى من حكمة عظيمة ختم الصوم بفتح أبواب الرجاء كلها..
بعد رمضان، وبعد الكلام عن رمضان نقرأ حقيقة أمرنا. في شهرنا.
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنـٰـتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(سورة البقرة/185).
ويقول الله تعالى:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ( سورة البقرة/186).
ان أمة القرآن لا يخيب الله رجاءها، ولا يعطل أمرها. إنها أمته إنها أهله وخاصته الذين جعلوا القرآن فرقانًا في حياتهم، ودستورًا في منهاجهم، لا يتحرّكون إلا بالقرآن، ولا يعيشون إلا بالقرآن، فهو أمرهم ونهيهم، وهو حجتهم، وهو قوامهم.
إن أمة القرآن لو رفعوا أيديَهم لتحرّكت السماوات والأرض، يقول ربنا في حديثه القدسي:
“عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، ثم سألوني لأعطيتُ كل واحد مسألته، ولا ينقص ذلك من ملكي شيئا” .
إنها أمة القرآن ينتظر الله دعاءها، فهل نحن أمة القرآن.
إرجعوا إلى أنفسكم، إننا أمة أخطأت عصمتها في قرآنها، أمة أفسدت صلاحها في قرآنها، أمة أفسدت غفرانها في قرآنها، أمة التبس عليها الأمر وعصمتها في قرآنها..
القرآن في رمضان، ورمضان يأتي بالقرآن.
يا من اشتريتم المصاحف، وأكثرتم المسابح، ليس الأمر بالقول، وإنما الأمر بالفعل، لا تكثروا تسبيحًا وأنتم مصرون على المعصية، لا تقرأوا القرآن والقرآن يلعنكم. تقرأون آيات الربا وتقرونه، وتقرأون آيات الصدق وتكذبون، وتقرأون آيات الغيبة وتتلفظون بها، وتقرأون آيات العدل وأنتم ظالمون، وتقرأون آيات الحق وأنتم على الباطل.
اتقوا الله يا أهل القرآن مع الفرقان في شهر رمضان، حتى يستجيب الله لنا دعاءنا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (سورة الأنفال/24).
هذه هي الحياة فلنتعظ بها ولنرجع إلى خالقنا بما أنزل علينا، حتى يكون شهر رمضان شهر خير على الأمة جميعًا إن شاء الله..
تحرَّوا ليلة القدر
في هذا الشهر ليلة القدر.. تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان وفي حديثه الصحيح المتفق عليه قال صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه”.
وهكذا يضاعف الله لنا الأجرَ حتى لو اعتمر المسلم في رمضان فالعمرة في رمضان تختلف عنها في أي وقت.
وفي الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن العمرة في رمضان فقال صلى الله عليه وسلم: “اعتمرى في رمضان فإن العمرة فيه تعد حجة”.
فيضاعف الله العمرة في رمضان، تعدل حجة في الأجر؛ لكن لا تسقط حجة الفريضة، فكل شيء يضاعف في رمضان إذا كان على حقيقته، فإن جلست وقرأت آيات القرآن فتدبر أين أنت منها، عندئذ يضاعف لك أجر التوبة؛ لأنك تبت إلى الله في رمضان.
كل عمل في شهر رمضان فيه بركة وفيه خير، حتى الأكل يقول صلى الله عليه وسلم: “تسحّروا فإن في السحور بركة”.
وأنت تأكل طعامك، وتأكل الحلو، وتشرب ما تشرب ففي هذا التناول أجر، فيه بركة على عافية، وفيه قوة لبدنك؛ لأنك نويت من أجل طاعة، فكل شيء تنوي به خيرًا فيه بركة.
إذا سعيت إلى معروف، أو إلى خير، أو إلى صلح، أو إلى طاعة من الطاعات، فاعلم أن الأجر يضاعف لك.
شهر فيه خير كامل.. وبالله عليكم إذا خرجت الأمة من رمضان بهذه الصفة فهل يغلّها أو يهينها أو يقدر عليها أحد.. هل يضحك الشيطان ؟ – لا – إنها أمة تعلقت بالقرآن وتعلقت بعبادة الصوم وصانت أنفسها، ومنعت شهواتها، وراقبت الحق سبحانه وتعالى.
إنه شهر يذكِّرنا بكل حركات الإسلام وسكناته، ويبعدنا عن التقاتل والشر والبغضاء. إنه شهر الحب وشهر الوئام. وشهر الصلة بالله. وشهر الصلة بالناس.
فاتقوا الله في نفحات دهركم، واتقوا الله في شهر مبارك، قد أهله الله علينا بخير إن شاء الله.
والتائب من الذنب كما لا ذنب له.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34