دراسات إسلامية

بقلم :    د. أبو اليُسْر رشيد كُهُوس / المغرب

ثانيًا: أصول العمران الأخوي:

       يرجع أصل العمران الأخوي المسلم إلى أصول واضحة المعالم وهو الإسلام المتمثل في:

       1 – القرآن الكريم: والقرآن هو الدعامة الرئيسة الذي نبع منه هذا العمران الأخوي واستقى من معينه الصافي، فوضع معالمه الكبرى، ولفت الأنظار إلى أهميته. ولم يقتصر على ذلك بل وضع أسسه ودعائمه في شتى المجالات…

       أ – المجال الديني: أكّد القرآن الكريم وحدة العقيدة في هذا العمران، وهي أساسه لا اللون والجنس وباقي الاعتبارات المادية.. كما ألغى القرآن كل العقائد السماوية وأبطل كل المعتقدات الفاسدة، قال تعالى: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهَ الإِسْلاَمُ﴾ (آل عمران: من الآية 19).

       ب – المجال للاجتماعي: أقرّ القرآن مبدأ المساواة، وألغى الطبقية، وقضى على التفرق والتشرذم وحمية الجاهلية والنُّعرة القبلية فيما بين البشر، يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿يـٰـأيَّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنـٰـكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأنْثـٰـى وَجَعَلْنـٰـكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقـٰـكُمْ إنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات/13).

       ت – المجال السياسي: لقد حدد القرآن الكريم طبيعة الحكم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فأُوْلـٰـئِكَ هُمُ الْكـٰـفِرُوْنَ﴾ (المائدة: من الآية 44) ﴿هُمُ الظّـٰـلِمُوْنَ﴾ ﴿هُمُ الفـٰـسِقُوْنَ﴾، – والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب – . وأرسى قواعد الحكم الإسلامي، من عدل قال الباري جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (النساء:58) وشورى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِيْ الأمْرِ﴾ (آل عمران: من الآية 159). وحدد – القرآن – طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: من الآية 59)، أنظر إلى التعبير القرآني، أولي الأمر منا، من المؤمنين، أما إذا خرجوا من دائرة المؤمنين ووجهوا وجهم شطر الغرب الصليبي الحاقد، وطبقوا قانونه لا الإسلام فحينئذ لا طاعة لهم علينا.

       هذا، إضافة إلى مجموعة من المقومات والدعائم والركائز التي تثبت أركان هذا العمران في المجال السياسي.

       ث – المجال الاقتصادي والتكنولوجي: حثّ القرآن على السعي في مناكب الأرض، وتطوير الإنتاج، وأخذ ما عند الأمم من التكنولوجيا، والزراعة والصناعة والتنمية… وفي هذا يقول الله جل جلاله:

       في إعداد القوة وتطوير التكنولوجيا وغير ذلك مما يدخل في الإعداد: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 60).

       في الإنتاج الزراعي: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام: 141).

       في الاقتصاد بصفة عامة: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك:15).

       في الصناعة: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيْدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيْدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ (الحديد: من الآية 25).

       خ – المجال للعلمي والتفكيري: حث القرآن الكريم على طلب العلم، وجعل الذين أوتوا العلم فوق الجاهلين، ﴿يَرْفعِ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا مِنْكُمْ وَالَّذِيْنَ أُوْتُوا الْعِلْمَ دَرَجـٰـتٍ﴾ (المجادلة: من الآية11)، وميّزهم بالدرجة الرفعية ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِيْ الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أولُو الألْبَابِ﴾ (الزمر: من الآية9).

       أما في مجال التفكير فقد دعا إلى التفكير في خلق السماوات والأرض والكون كله ﴿إنَّ فِيْ خَلْقِ السَّمـٰـوٰتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيـٰـتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190)، وحث على السير في الأرض لاكتشاف سنة الله في خلقه: ﴿قُلْ سِيْرُوْا فِيْ الأَرْضِ فَانْظُرُوْا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثـُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأة الآخِرَةَ إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ﴾ (العنكبوت:20). وتكرر هذا الخطاب مرات.

       وقس على ذلك شتى المجالات…

2 – السنة النبوية العطرة :

       ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوْا وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ الله شَدِيْدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر: من الآية 7).

       السنة هي الأساس الثاني – بعد القرآن – للتشريع، فقد بيّنت وفصّلت ما سبق ذكره من المجالات… وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول وأول من أرسى دعائم العمران الأخوي مباشرةً بعد وصوله إلى المدينة المنورة، فآخى بين المهاجرين والأنصار، ووضع أعمدة الدولة الإسلامية… كما كان أسوةً وقدوةً للناس كافةً ورحمةً للعالمين، فبنى صرح العمران الأخوي وشيّد أركانه، وبهرت أنواره العالمين.. يقول ربنا تقدست كلماته: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيْرًا﴾ (الأحزاب:21).

       كما أسهمت لغة القرآن في الحفاظ على الشخصية المستقلة للمسلمين، وكونت أفراد العمران، استنادًا إلى مبادئ الإسلام التي قررت نزول القرآن بلسان عربي مبين.

ثالثًا : خصائص العمران الأخوي:

       1 – الرابطة القلبية الإيمانية بين المسلمين: وهذه أم الخصائص “سِمَتُها النفسية السلوكية الإقلاع عن حب الدنيا والتحررُ من العبودية للهوى. وبهذا الإقلاع والتحرر ينقلب موقف المسلم رأسًا على عقب من المِلكية الأنانية لمتاع الدنيا، وتنقلب ذهنيته، وينسلخ من عادات المنكر، ومن الشرك بالآلهة التي يعبدُها – الإنسان – المشرك والغافل من دون الله: الشحِّ والمصلحةِ الخاصةِ والربحِ واللذةِ والمالِ والجاهِ”(16).

       عن هذه الرابطة يتحدث هذا الحديث النبوي الشريف، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اسْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)(17).

       فبدون هذه المواطنة القلبية يبقى الحديث عن العمران الأخوي حديثًا غير ذي معنى، وكلمةً تلوكها الألسن الغافلة.

       الرابطة القلبية المقصودة تلك المشار إليها في قوله تعالى في حق الأنصار رضي الله عنه، قال ربنا جل جلاله: ﴿وَالَّذِيْنَ تَبَوَّأوا الدَّارَ والإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُوْنَ فِيْ صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوْتُوْا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ﴾ الحشر:9).

       لو قال: تبوؤُا الدار فقط، لكانوا كباقي المجتمعات التي تحكمها روابط مصلحيةً دنيويةً محضةً، سرعان ما تتبخر وتذهب أدراج الرياح، لكن قال: (تبوأوا الدار والإيمان)، تبوء ثنائي: تبوؤُا الدار وتبوؤُا الإيمان، هكذا كان الأنصار رضي الله عنه؛ وقوا شح أنفسهم وخرجوا من دهاليز نفوسهم المجبولة على الشح إلى فضاء عبودية الله تعالى ومحبته، فنصروا النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانهم المهاجرين وآووهم وأنفقوا عليهم وأحبوهم، هذه هي الأخوة الصادقة الحقة التي أثنى عليها الله عز وجل، ودعانا إليها لبلوغ المرام.

       2 – التوازن الفريد بين الثنائيات: لقد جمع هذا العمران الأخوي بين الدنيا والآخرة، والثبات والتطور، والأرض والسماء، والفردية والجماعة، والعدل والإحسان، والوحي والوجود، وعالم الغيب وعالم الشهادة، والقدر والاختيار، والروح والمادة، والتربية والجهاد، والإيمان والعقل، وبين الظاهر والباطن، والدعوة والدولة… والوحدة والتنوع: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات:13)، جماعات وشعوب لكن يجمعها ويوحدها الإسلام.

       هذا إضافة إلى الشمولية التي تميز بها هذا العمران، على عكس الحضارة الغربية والحضارات السابقة حيث إذا رميت بثقلها على جانب أهملت جانبًا آخرًا كما في إهمالها بل لكفرها بالآخرة والمعاد والحياة بعد الموت، وإهمالها للدين، وسعيها وراء سراب الشهوات والمغريات وملذات الحياة الدنيا وزينتها.

       فالعمران الأخوي؛ عمران شمولي وواقعي وإنساني وعالمي، يحمل رسالة الإسلام لينشرها في العالمين، لا يفرق بين أسود وأبيض ولا بين عجمي وعربي، ولا بين السيد والعبد، ولا بين المرأة والرجل، الكل سواسية، وصدره مفتوح لكل من أراد الانضواء تحت لواء الإسلام، أيًا كان موقعه في الزمن والمكان.

       3 – الإيجابية والعطاء: ومن خصائص هذا العمران الأخوي كونه إيجابيًا يبني ولا يهدم، يصلح ولا يفسد، يسعى لتحقيق الخلافة الكاملة في الأرض، وتطهير الأرض من كل ما يصد عن الله جل وعلا…

       ويوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الإيجابية والعطاء في هذا الحديث: عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (اِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَيَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)(18).

       أما الحضارة الغربية – وسابقاتها من الحضارات – التي تخنقها رؤية سوداوية متشائمة للوجود والمصير والسعي البشري، فإنها تجوس في حناديس ظلام الجاهليات والفوضوية والعبثية اللاتي تهوي بها في مكان سحيق.

       4 – الأصالة والتجديد: عمران أخوي يجمع بين الأصالة والتجديد، قادر على الاجتهاد على نور الإسلام، قادر على حماية ذاته من التفكك والانحلال، قادر على وضع كل القيم والخبرات لدى الحضارات الأخرى في محك الإسلام للاستفادة من سليمها الموافق لمبادئ الإسلام، والرمي بالباقي في مزابل الأفكار الضالة.

       يقول الدكتور عماد الدين خليل: “إنه منذ اللحظات الأولى أخذ الإسلام على عاتقه مهمة تكوين جماعة مؤمنة “متحضرة” تعرف كيف تحقق التقابل الفعال بين أصالة الذات العقائدية وبين الانفتاح على معطيات الأمم والشعوب. (…) وفي فترة قصيرة تمكَّن الإسلام من أن يحول العرب إلى أمة “متحضرة” خرجت إلى أطراف الأرض تحمل علمها الجديد ورؤيتها المتوحدة لكي ترسم للعالمين مصيرًا جديدًا”(19).

       إنه عمران أخوي أصيل، قادر على مواكبة المستجدات والاستجابة للتحديات، متوازن وشامل وجامع وواقعي وبناء، يسعى لإخراج الناس من ظلام الأوثان إلى نور الإيمان، ومن عبادة الخلق إلى عبادة الخالق، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام، لو كان للإسلام إلا هذه المزية لكفاه فخرًا وشرفًا.

       تلك إذن هي شرائط إحلال العمران الأخوي وبدايته. وما دمنا قد تحدثنا عن الطريق إلى العمران، فإنَّا نتم كلامنا في الحديث عن دعائمه وأعمدته.

رابعًا: دعائم العمران الأخوي:

       1 – العقيدة الصحيحة: عقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله، وهي كل شيء، عليها يجتمع البشر، لا على ما تجتمع البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج… إنها أهم دعامة للعمران الأخوي؛ العقيدة السليمة المستمدة من وحي السماء، وبهذا يتجاوز الحضارة الغربية الغارقة في أوحال الماديات، لا ترى إلا ما تحت قدميها. إن هذا العمران يعبر عن ذلك اللقاء بين السماء والأرض بين الدنيا والآخرة بين الدين والسياسة… وعلى ضوء ذلك يخطط لعمله وفق ما تحدده العقيدة في دائرتها لا خارجها.

       وإن أهمّ ما تميز به هذا العمران أنه قام بكل ما قام به من عمارة الأرض وهو يستظل بظل العقيدة الصحيحة؛ بل ينطلق من منطلقها، ويحقق مقتضياتها.

       فمنذ “لحظات الفجر الأولى، كانت العقيدة بالنسبة للإنسان المسلم والجماعة المسلمة بمثابة الدافع والهدف.. فهي تحركهم من الداخل بعطائها الدائم ومطالبها المستمرة، وهي تناديهم من الخارج ليتحركوا إلى الأهداف الكبيرة التي جاء بها هذا الدين لكي يجعل العالم يتحقق بها، فيكون عالمًا جديرًا بالإنسان الذي كرمه الله”(20).

       فالأساس الأول لهذا العمران هو التوحيد الذي جاء به الإسلام ليعيد إليه صفاءه الأول، وليأخذ بيد الناس إلى ربهم، وليخرجهم من ظلمات الشركيات وكهوف العقائد المنحرفة الضالة إلى نور التوحيد والعقيدة السليمة ليعبد الناس ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم ولا يجعلوا معه أندادًا، يقول الله جل وعلا: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ (الإخلاص). إنها أروع صورة للعقيدة الإسلامية الصحيحة التي بها اهتدى الناس إلى سبيل الرشاد، وبها تبوأوا المكانة الرفيعة في العالم قبل أن يزيغوا عن جادة الصواب. إنها الطاقة الخالدة لانطلاق العمران.

       “فإنه ما من خطوة في تاريخ البشرية حررت العقل، وكرمته، ووضعته في موقعه الصحيح كهذه الخطوة: تحويل التوجه الإنساني من التعدد إلى التوحيد، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن عشق الأحجار والأصنام والتماثيل والأوثان إلى محبة الحق الذي لا تلمسه الأيدي ولا تراه العيون..”(21).

       إن العقيدة روح العمران، وما أصاب الأمة الإسلامية اليوم من تخلف وصَغَار، ومن نكبة قاصمة لظهرها، وتَتَابُع الخطوب عليها، يرجع كل ذلك إلى غيبة تلك الروح من جسد الأمة، فتضعضع ذلك الكيان، وأصبحت الأمة خائرةً جامدةً متوعكةً مريضةً..

       إن الإرادة القوية التي تهدف إلى البناء هي التي خارت وضعفت، بسبب الداء العضال الذي أصابها؛ “داء الأمم”(22) الذي أكل أحشاء الأمة ونخر كيانها، فأصبحت قصعةً توكل وتداعت عليها الأمم من صهيونية حاقدة وصليبية كافرة وعدوّ لا يرعى فيها إلاًّ ولا ذمةً، فنكل بها وأفنى قوتها، وأزال استقلالها، وفرق شملها، وزرع الشقاق في أرضها.

       لقد كان مؤرخنا الكبير ابن خلدون رحمه الله حكيمًا لما جعل الشؤون السياسية والاقتصادية… والعلم في دولة مسلمة تبعًا للشأن الديني – وهذا هو الأساس –، وجعل العقيدة الحقيقة الأولى لهذا الدين الحنيف، في ضوئها درس ما حل بالدولة من مصائب وفساد، وركود العمران، وانتقاص الصنائع واختلال طرائق العلم، وتلاشي ملكات العلوم وغير ذلك، فوجد أن كل هذه الأدواء والأمراض راجعة إلى اختلال العقيدة دعامة العمران البشري والدولة القائمة.

       بل هذه الأدواء راجعة إلى داء الأمم الذي أصاب الأمة، وحول نظام حكمها من خلافة راشدة على منهاج النبوة، إلى ملك عاض ثم جبري.

       السبب الرئيس الذي جعل الأمة تصل إلى حضيض التخلف والتأخر عن الركب، هو “داء الأمم” فرغت أفئدة أبنائها من المحبة لله ولرسوله والمؤمنين، أصبحت تلك القلوب تصفر فيها رياح الشحناء والحقد والبغضاء.

       ولن تقوم لنا قائمة حتى نرجع إلى المنهاج النبوي لنغير ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا، يقول عز من قائل: ﴿إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).

       فبمحبة الله ورسوله، شفيت الأمة في بداية أمرها، وبه تشفى في وسط أمرها وآخره، فمهما التمس الناس الهدىٰ في غير الإسلام، ومهما تفلسفوا عن القوميات ومعانيها ومهما… كل ذلك يتبخر ويذهب أدراج الرياح ما دامت الأمة تركن إلى الأهواء القاتلة والنُّعرات القبلية والطموحات الشخصية، وما دام داء الأمم يضرب بخيله ورجله في أرضها.

       معين العلاجات كلها يكمن في الأخوة الصادقة والمحبة والمواطنة القلبية بين المؤمنين، وفي عودة الأمة إلى أصلها مرةً أخرى إلى أس العلاج  ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران: 103).

       2 – محبة الله ورسوله: المحبة عماد العمران لولاها لما استقام البناء على وجه الأرض لحظات، إنها السبيل الذي يخرجنا من ذلك المستنقع الآسن، والدرك الهابط، والظلام البهيم، السبيل الذي يعيدنا إلى ذلك العمران الأخوي الأول؛ محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين، ما بال الناس يرتسكون في الحمأة الوبيئة والعلاج بين أيديهم؟ إن المحبة هي العلاج المنسي في عالمنا الإسلامي المعاصر، يتسارع المسلمون إلى فجاج وإلى جهات وإلى أساليب ووسائل شتى بحثًا عن العلاج، والعلاج بين أيديهم وهم عنه تائهون، تلك والله هي المصيبة الكبرى:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ

والماء فوق ظهورها محمول

       تلك المحبة هي ترياق العمران، هي المفتاح الذي يقود الأمة إلى عمران أخوي، هي المفتاح الذي يدفع الإنسان إلى اقتحام العقبات الكئودة، من أجل البناء بناء صرح العمران على أس القرآن وسنة النبي إمام أهل الإحسان صلى الله عليه وسلم. إن البناء الذي ينسى هذا الأساس المتين لا يمكن أن يحمي صاحبه من الأخطار الوافدة إليه بشكل من الأشكال، بل سرعان ما ينهار على أم رأسه.

       إذا انفك قلب الإنسان عن هذا التاج – المحبة – العظيم، ما الذي يبقى له؟ لاشك يصبح قلبه مأوىً ووكرًا لأفاعي الريب وسوء الظن، وذئاب الهوى والطمع…

       إذاً فهذا العمران لا ينهض إلا على دعامة رئيسة واحدة، ألا وهي دعامة الحب. إذا سلم أساسها وقامت صافيةً عن الشوائب والزغل سَهُل البناء، وقام صرح العمران، وكلما كانت المحبة شديدةً كلما كان البناء شامخًا ومتينًا.

       لكن ما نلاحظه غياب تلك المحبة روح العمران، فابتلينا بغيابها بالويل والثبور وعظائم الأمور أن تعود القلوب إلى معين المحبة، فتغرف منه، ذلك هو الدواء لهذه الأمراض الوبيلة التي حلت بنا.

       لو أن القلوب صفت وغُرس فيها مغرس المحبة، لجمع الله شملها، ووحد كلمتها، ولفجر القوة من حيث لا تحتسب من كيانها… فما انتصر الإسلام بالفكر ولا الجدال، لكنه انتصر بالمحبة والطاعة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام وبتلك الروحانية الإيمانية العالية. فالإسلام الفكري لا يحقق شئًا، لا ينبت كلأً ولا يعطي ثمارًا؛ لأنه شجرة فوق الأرض لا جذور لها سرعان ما تعصف بها الرياح العاتية وتهوي بها في مكان سحيق.

*  *  *

الهوامش:

العدل، ص 180.

الجامع الصحيح للإمام مسلم رحمه الله، باب تراحم المؤمنين تعاطفهم، ح 4685. والمسند للإمام أحمد رحمه الله، باب حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. وغيرهما.

المسند للإمام أحمد رحمه الله، باب مسند أنس بن مالك رضي الله عنه.

انظر كتابه: حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، دار ابن كثير، ط 1/1426 = 2005 ص 73-74.

المرجع نفسه، ص 72.

مدخل إلى الحضارة الإسلامية، الدكتور عماد الدين خليل، الناشران: الدار العربية للعلوم، والمركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1/1426هـ 2005م، ص 18.

حب الدنيا وكراهية الموت.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان 1431 هـ = يوليو – أغسطس 2010م ، العدد : 8 ، السنة : 34

Related Posts