إشراقة

إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، كلامٌ حكيم في اللغة العربيّة، تَنَاقَله علماؤها، وعَمِل به حكماؤها عَبْرَ العصور، وأعرض عنه السفهاءُ الذين فُطِرُوا على الثرثرة والإكثار من الكلام.

       من نضج عقلُه قلّ كلامُه، ومن فجّ مخُّه كثر حديثُه. ما رأيتُ رجلاً يُكْثِر من الحديث، إلاّ أيقنتُ أنّه جاهلٌ بالمعاني، فارغ من الحكمة والتعقّل، حافلٌ بالسفاهة والغباء، لا يعرف المخرجَ من المدخل. ويُكْرَهُ ذلك كثيرًا إذا كان صاحبُه من المسنّين؛ حيث إن السنين لم تُعَلِّمه أنَّ السكوت أفضل من الكلام، وأنّ الاستماعَ أثمن من التحدّث .

       وما وجدتُ رجلاً يُحْسن الاستماعَ لأحد، ويصغي بأذنه إليه إلاّ عرفتُ أنّه رجل بكلّ معانيه. الثرثارون السبَّاقون إلى الحديث وشحن أذن المخاطب بأحاديثهم الفارغة كثيرون، يُوْجَدُون في كلّ مكان. أمّا المُقِلُّون من الكلام الذين لايتكلّون إلاّ لدى الحاجة، ويخزنون ألسنتهم كل وقت، ويزنون كل كلمة قبل لفظها، هم قليلون جدًّا؛ ولكنّهم جديرون بالتقدير والإشادة، والثناء والتحبيذ.

       الاستماع فنّ لايؤتاه إلاّ الكبار السعداء الذين يريد الله بهم الخيرَ الكثيرَ الذي لايُحْصَىٰ. والثرثرة والإكثار من الكلام حظٌّ سيّء لايصاب به إلاّ الصغار الأشقياء الذين يقدر الله لهم التعاسة والشقاء.

       الاستماعُ فرصةٌ ذهبيّة مُتَاحَة للسُّعَدَاء لكي يتعلّموا من الآخر، ويكسبوا الدروس، ويزيدوا حصيلةَ تجاربهم، فينتفعوا وينفعوا الآخرين، ويثبتوا أنهم وُلِدُوا لكسب الخير ونشره، والسعادة وغرسها، وإسعاد أنفسهم وغيرهم من بني البشر.

       والثرثرة سَدٌّ منيعٌ، وحاجز كبيرٌ دون التعلّم، وإنضاح التجارب، وكسب دروس الحياة؛ بل وسيلة للجهل، وزيادة أرصدة اللامعلوماتيّة، وإغلاق الباب دون الانتفاع؛ لأنّها تجعل صاحبَها يظن أنه أعقل الناس وأفضلهم وأحقّ بالحديث إليهم دون الاستماع منهم، فلا يزداد خيرًا، ولايجني نفعًا، ولايكسب جديدًا كان لايعلمه، فبقي لايعلمه. الثرثرة انطوائيّة، وحصر الذات في إطار ضيّق، وحدود معلومة، وإعلان بأنّ صاحبها بقيّ غِرًّا كما وُلِد، لم تُعَلِّمه الحياة، ولم يرشده الزمان، ولم يُوَعِّه كرّ الليالي ومرّ الأيّام، ولم يقدر على حلب الدهر بأشطره .

       قد تقول لي نفسي بالتأكيد: إنَّ المستمع للغير، والصابر على التقاط أحاديث الآخرين، قد حِيْزَت له السعادةُ، وجُمِع له الخيرُ، وحُصِرَت له الكرامةُ؛ فَوَفَّقَه اللهُ ليصغي للآخر فتتوفر أرصدتُه العلميّة التجربيّة، ومعرفتُه بالحياة بأبعادها الكثيرة ونواحيها المختلفة؛ فيصبح إنسانًا سويًّا، إنسانًا مطلوبًا، إنسانًا له مكانُه في المجتمع، واحترامُه في القلوب، و وقارُه لدى الأعين، وتقديره لدى كلّ صغير وكبير.

       إنَّ الثرثارَ المُصِرَّ على الإكثار من الحديث، وإرغام النّاس على أنّ يسمعوا منه كلَّ ما يقول من الغثّ والسمين، أريد له الحرمانُ من كثير من الخير الذي لايحظى به المرأُ إلاّ إذا أَتْقَن فنَّ الاستماع للغير من أجل الحصول على ما عنده من المعلومات والأخبار، والقصص والتجارب، التي مرَّ بها في محطّات حياته المتجدّدة، فيتحدّث بها عند مناسبة دعته للحديث عنها؛ فالمستمع له يتلقى منه ما يتحدّث به ممّا عاشه في أحداثه اليوميّة من خلال الأشغال التي مَارَسَها والنشاطات التي كان مُكَلَّفًا أن يقوم بها.

       إن القليل الكلام المؤثر للسكوت على التكلم الملازم للاستماع للآخر بدل التحدّث إليه بضرورة وبدون ضرورة، كلامُه دائمًا يأتي حكيمًا، وألفاظه لدى الحديث تكون مختارةً، قليلةَ المباني كثيرةَ المعاني، متألّقة كالنجوم، مُؤَسَّسَة على التجربة الطويلة والخبرة الواسعة والرحلة الطويلة في دروب الحياة، فتنفع ولا تضرّ، وتنير ولا تُظْلِم، وتريح ولاتؤذي.

       أمّا الثرثار، السبّاق إلى الكلام بحاجة وبدون حاجة، وبأدنى مناسبة وبدون مناسبة، فكلامه يأتي عادةً هباءً منثورًا، وعبئًا ثقيلاً دونما فائدة، وكثير الألفاظ وقليل المعاني، ويضرّ ولاينفع أو ينفع بقدر ضئيل لايُذْكَر. إنّـه يصدع رأسَ المخاطب بكلامه الهواء الفارغ من كل معنى، ويجعله يسأم ويصطدم بجدار أمامه أو شجرة يمرّ بها أو سيارة يواجهها، وقد تحدّثه نفسه بأن ينتحر، حتى لا يُبْتَلَىٰ في حياته بمثل هذا الثرثار القوّال الأحمق الذي لم يتعلّم أن يحترمَ نفسَه فلم يتعلم أن يحترم غيره، ولم يهتدِ أن يرقق مشاعرَه ويجعل حِسَّه مُرْهَفًا فلم يهتد أن يدرك مشاعر الآخرين ويراعي عواطفهم، ولم يُوَفَّقَ أن يعرف قيمة الوقت، فأهدره في غير شعور بأهميّتِه في هرائه وكلامه الأجوف الفارغ من كل حصيلةٍ علميّةِ أو معلوماتيّة، كما أهدر أوقات الآخرين، وأَضَاعَها في غير ما فائدة، أي في حديثه الخالي من كل ما يكسب به الحديث معناه.

       الرجلُ الذي أجده يستمع للآخر، كأنّه يُصْغِي للأستاذ والشيخ المُرَبّي، حتى إنّه يتخلّى عن حديثه بعدما يكون قد بدأه، أجدني مضطرًّا بشكل عفويّ أن أقبّل رأسَه، وشفتيه وعينيه، وأضعه في صدري إن وَسِعَنِي ذلك؛ لأنّه يُؤكِّد بسلوكه أَنَّه فُطِرَ على الكرامة والشرف والمروءة والمعاني الإنسانية النبيلة الكثيرة التي تُؤَكِّد أنَّ المُتَّصِفَ بها كبيرٌ بكل ما في الكلمة معنى وأنّه سعيدٌ في كثير من نواحي الحياة.

       والرجل الذي أجده يُطْلِق لسانَه كلَّ وقت وفي كلّ مناسبة، ويُحَرِّك حنجرتَه في كل مجلس، وكأنه يودّ أن يؤكّد أنّه أكيس الناس وأكثرهم تجربة للحياة، وخبرة بالناس، أجدني مضطرًّا أن أكرهه الكراهيةَ كلَّها، وأمجّه كما يمجّ أحدنا المُرَّ من الشراب، وأدعو الله أن لايبتليني به أو بمثله ما بَقِيتُ حيًّا؛ لأنّه يُؤَكِّد بكلّ سلوكه أنه فُطِرَ على الذلّ والدناءة والمعاني البهيميّة التي تجعل الإنسان بهيمةً رغم كونه مخلوقًا بالهيكل الإنسانيّ؛ لأنّه لافرقَ بينه وبينها – البهيمة – إلاّ بصورة اللحم والدمِ التي هي الفرق في المظهر وليس الفرق في المخبر. والأصلُ في كلّ شيء هو المخبرُ لا المظهرُ .

       الرجل الملازم للسكوت المُؤْثِر له على الكلام يكون مُهَيَّئًا للتلقّي والأخد والاستفادة، وبناء الذات، وصقل المواهب، والاكتفاء الذاتي في المُؤَهِّلات التي تجعل الإنسانَ يتكامل داخليًّا، وينبني معنويًّا، ويُلِمّ بكل ما يُعَدَّ ضمن المقومات الإنسانيّة.

       أمّا الرجل المُسْتَعِدّ كلَّ وقت للثرثرة، والمُتَهَيِّءُ للكلام، والمُتَحَيِّن للفرصة لممارسة الحديث، يبدو كأنّه يرفض أنّه إنسان يحتاج إلى الاستفادة من الآخرين، والاعتبار من تجاربهم، ومجرِيات أحداثهم، وما عايشوه من كرّ الغـداة ومرّ العشيّ، وكأنّه يزعم بلسان الحال أنّه رجلٌ كاملٌ متكاملٌ شاملٌ لايحتاج إلى أيّ لمسة من لمسات التأهيل أو التزيين. ومن الواضح أنّه من يزعم ذلك هو أحمق الحمقى، ورئيس الأغبياء الذين وُلِدُوا ليعيشوا بالقفز على جميع هموم الحياة .

       أيُّها الأخ القارئ الفاضل المحظوظ بالسعادة! تعلَّم الاستماعَ لغيرك أكثرَ من الحديث إليه والكلام معه، تكن من خير الناس وأسعدهم وأكثرهم توفيقًا لكسب التجارب، وإنضاج الخبرات، والانتفاع ببني البشر، والنفع لهم، وحيازة أدعيتهم، والثناء عليك بألسنتهم.

       السكوتُ يعينك على التفكير وعلى هدوء البال، وعلى الانتفاع بفرص الصفاء والإلهام. أما الضراوة بالإكثار من الكلام، والتغلّب على الآخرين عن طريق تحريك الحنجرة وصياغة مجرد الألفاظ التي لا تحمل معنى ذا قيمة تذكر، فذلك إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنك ما انتبهت بعدُ أن اهتمامك بنفسك كان وسيكون خيرًا لك من اهتمامك بغيرك، من خلال إهدائك إليه كلماتك الثقيلة: “أَتَاْمُرُوْنَ النَّاسِ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُوْنَ الْكِتـٰـبَ أَفَلاَ تَعْقِلُوْنَ” (سورة البقرة/44).

أبو أسامة نور

( تحريرًا في الساعة : 11 من صباح يوم الثلاثاء : 18/جمادى الأولى 1431هـ = 4/ مايو 2010م ) .

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان 1431 هـ = يوليو – أغسطس 2010م ، العدد : 8 ، السنة : 34

Related Posts