إشراقة

الكتابةُ ما هي؟ هناك من يعتقد أنّها متعةٌ مُجَرَّدَة لا تدانيها متعةٌ لمن يُتْقِنُها؛ فيلعب بها كيف ما يشاء؛ لِيَتَلَهَّى بها عن همومه الداخليّة، وألمه الذي يُسَاكِن بَاطِنَه، فيَتَّخِذها وسيلةً لتفريغ شِحْنَتِه النفسيّة وضغطه الداخليّ الذي يكون قد أَثْقَل كيانَه، وشَغَلَه عن كلّ ما يهمّه في الحياة .

       وهناك من يعتقد أنّها مُجَرَّدُ نزهة وأداةُ تسلية، يشتغل بها المحترف لها لإزجاء الوقت، أو للتخلّص من أيّ نوع من التضجّر والتبرّم، أو مما يشعر به كلُّ عاطل عن العمل؛ فيعمد إلى اللعب بالأوراق، أو قراءة كتاب خفيف في قصة قصيرة أو رواية ماتعة، أو كتابة في موضوع مُسَلٍّ قاتل للأحزان، مخفف للأثقال النفسيّة.

       وهناك من يعتقد أنّها أداةٌ فعّالة بل كبسولةٌ ذاتُ مفعولٍ ساحرٍ سريعٍ لإفساد العقول، وتخدير الأذهان، وهدم الأخلاق، وتجريد الإنسان من إنسانيّته، ليعود بهيمةً في سيرته وسلوكه، لا فرقَ بينه وبينها إلاّ فرق الهيكل التركيبيّ. وانطلاقاً من اعتقاده يستخدمها في هذا الغرض الوحيد «النبيل»؛ فينشأ على كتاباته وكتابة أمثاله جيلٌ من البشر كلُّ تصرّفاته تصرّفاتُ البهائم أو أسوأ منها في كثير من النواحي؛ فيعكف على إنتاج الأدب الماجن ووضع الكتب التي تدعو للفحشاء والمنكر وتُزَيِّن الفسادَ والإفسادَ، والفوضى الخلقيّةَ .

       وهناك من يعتقد أنها أداة وحيدة لكسب السمعة وحسن الذكر والتعريف بالذات، وفرضها على المجتمع، وإيهامه بأهميتها وقيمتها، وبالتالي لكسب الشيء الكثير من المال والمتاع، والأرصدة الماديّة التي تَنْفُق وحدها في سوق الحياة الذي لايعرف إلاّ هذه العُمْلَةَ .

       وهناك من يعتقد أنّها أداة وحيدة لإثارة نزعات سلبيّة وصفات هادمة من التطرف والعصبيّة، والعرقيّة والوطنيّة؛ فيدأب على الإكثار من الكتابات التي تثير وتُغَذِّي هذه الميولَ والأفكارَ التي تُحَرِّض بني آدم على التناحر والتقاتل، اللذين يتشاغلون بهما عن كلّ شيء ينفعهم في دينهم ودنياهم، من الاهتمام ببناء الذات، وصقل الصفات، وإيقاظ المواهب، وببناء الاقتصاد، والأخذ بوسائل التقدم الحضاريّ، وتثقيف النشء الحاضر، وتنمية الوسائل البشريّة، والعناية بما يهمّ البلادَ والعبادَ عاجلاً وآجلاً .

وهناك من يعتقد أنّ الكتابةَ في الواقع مسؤوليّة عظيمة أمام الله وخلقه، كُلِّفَ هو أداءَها، عندما أُهِّل لها بتقدير العزيز العليم؛ فلابدّ أن يتأتّى على مستوى الكاتب الحقّ: الكاتب الشاعر بهذه المسؤوليّة المُشَرِّفَة، ولابدّ أن يقفز فوق عقبة تلك الهموم الفاسدة التي يتبنّاها أصحاب الأغراض الرخيصة المذكورة .

       إنّه يعتقد أنّها – الكتابة – أوّلاً وأخيرًا إنما هي للبناء لا للهدم، للإصلاح لا للإفساد، إنّها وُضِعت في يد الإنسان، ليعمل بها على بناء الإنسان. ولم تُوْضَعْ في أيدي أو أرجل البهائم، والضواري والسباع، لتكون لديها أداةً للهدم والافتراس والقتل!.

       الذين يتّخذون الكتابةَ وسيلةً للهدم، هم يسيرون سيرةَ البهائم والضواري والسباع، ولايجوز أن يُسَمَّوْا  «كتابًا» وإنما الواجب أن يُدْعَوْ بـ «السباع» و «الضواري» أو «البهائم» على الأقل.

       المعتقدُ بأنّ الكتابةَ مسؤوليّة عظيمة، يحتسب رضا الله، ويتلمّس خيوط نور الإصلاح، ويضع نُصْبَ عينيه تبييض صحيفته الأخرويّة، فيتحسّس كلَّ كلمة قبل إطلاقها، وكل لفظة قبل تسجيلها، وكل فقرة قبل أن يضعها على الورق؛ لأنّه يعتقد جازمًا أنّه سيُحَاسَب عليها يومَ القيامة، و أنّ كل زلّة يزلها القارئ، وكلّ ضلّة يضلّها، تكون مكتوبةً في سجلّ أعماله، وتُوْزَن مع سيِّئاته، وتُرَجِّح كفّتها رغم حسناته الكثيرة، فتُمَهِّد الطريقَ له إلى النار، أعاذنا الله جميعًا منها.

       إنّ هذا الكاتب يسير في طريق الكتابة مُتَخَاذِلَ الخطو، مُتَبَاطِئَ السير، كأنّما يَصَّعَّد عموديًّا، إلى جبل صعب المرتقى؛ لأنّه يظلّ دائمًا مُثْقَلاً بالشعور بالمسؤوليّة، ربما يُخَيَّل إليه أنّه يشقّ طريقَه من الصخر؛ لأنّه يزن كلاًّ من الأفكار والكلمات كما يزن الصائغُ البارع الذهبَ بدقّة مُتَنَاهِيَة؛ فتأتي صياغاتُه ورُؤَاه مستنيرةً بألق الإخلاص، ونور الاحتساب، وضياء النصح لإخوانه أبناء البشر، الذين يضعهم دائمًا في الاعتبار لدى كلّ ما يكتبه، فلا يسطر إلاّ ما ينفع الناس، فيمكث في الأرض.

       إنّه يصدر في كتاباته عن حاجات الناس وهمومهم، ويركّز على الموضوعات التي تُصْلِح دنياهم التي فيها معاشهم، وآخِرَتَهم التي فيها معادهم، ويتناول قضايا الحياة التي تتنوّع تَنَوُّعَ الحياة، وتستجدّ من جرّاء الأحداث المتتالية والمتغيرات المتتابعة، التي تتسارع بصورة غريبة لم يكن للإنسان عهد بها في الماضي.

       ولا يهتمّ بمتابعة قضاياهم وحدها، وإنّما يهتمّ كذلك بمراعاة مستوى فمهم وإساغتهم، فيحاول جُهدَه أن ينتقي من الألفاظ ما سَهُلَ ولان، ومن الأسلوب ما جَمُلَ وحَلَا، ومن إجماليّ الصياغة ما رَاقَ وشَاقَ .

       ويحاول دائمًا أن يُعَايِشَهم في دنياهم، ويسلك معهم في واديهم، ويصاحبهم في دروب حياتهم، ويظلّ دائمًا معهم يراهم ويسمعهم، ويناجي ضمائرهم، ويُحَاكي أفكارهم، لتكون كتابته حيّةً طازجةً طريّةً، تعبّر عن الواقع، وتترجم الحقيقة، ولاتكون بائتةً ميّتةً، لا روحَ فيها ولا حياة.

       الكاتبُ الشاعر بالمسؤوليّة، الملتزم بالآداب الإنسانيّة، الهادف إلى البناء، المحترز من كل نوع من الهدم والسلبيّات التي تُخِلّ بالمروءة والإنسانيّة وتعوق الاتّجاه إلى الدرب القويم، هو الكاتب بالمعنى الحقيقي للكلمة، والذي لايتبنّى هدفًا، ولايحتضن رسالة، ولا يتقيّد بمسؤوليّة، ويدير قلمه كما يشاء، ويسير على هواه، ويتّبع قفاه، ويتصرّف على القرطاس تصرّف المجنون يدمي نفسه، ومن حوله، ويجرح أعضاءه وأعضاء كل من يجده في طريقه الذي يسير فيه على غير هدى، لايجوز أن يُسَمَّى كاتبًا، بل يصح أن يُسَمَّى  «هادمًا» «مُدَمِّرًا» ويجب أن يُحَاكمَ وتُرْفَع ضدّه الدعوى إلى محكمة الأخلاق والقانون العادلة، حتى تحكم عليه بفرض الحظر على الإمساك بمجرد القلم، فضلاً عن الكتابة في الموضوعات التي تُدَمِّر الإنسان وتنحرف به عن الطريق السويّ، وتجول به في متاهات الفكر المعوجّ المعكوس .

       الكتابةُ كالخطابة نعمة إلهيّة لا تُقَدَّر بثمن؛ فالممسك بالقلم لممارسة الكتابة يتصدّى للانتفاع بهذه النعمة العظمى، فلا بدّ أن يقدّرها حقَّ قدرها، حتى لا يُسْلَبَها؛ لأن النعمة المهدورة المضاعة غير المشكورة، كثيرًا ما تُسْلَب صاحبَها. ومِنْ شكرِها وتقديرِها أن تُسْتَخْدم لنفع الخلق وإسداء الخير للإنسان خير الخلق، وهذا النفعُ لا يتحقّق إلاّ إذا مُوْرِسَتْ إيجابيّةً بِنَائِيَّةً من زرع الخلق النبيل، ورسم معالم الخير، والانتصار للحقّ، والدلالة على سبيل الهدى، والوقوف بجانب المظلوم، والأخذ على يد الظالم، وتعرية المجرمين، والتوصّل إلى الحقيقة، والبحث عن مصدر الشرّ أو الخير في مجال من المجالات، حتى يتجنب المجتمعُ الإنسانيُّ جانبَ الشرّ، ويختار جانبَ الخير.

       إنّ الحامل للقلم ليخطّ به ما يُفْسِد الإنسانَ، ويُشَوِّه أخلاقَه، ويُقَبِّح سيرتَه وسلوكه؛ أو ليخطّ به ما لايعني الإنسانَ في دنياه أو أخراه، وإنما تضيّع قراءتُه وقتَه، وتشغله عن واجباته ومسؤولياته، وتلهيه عما يجب أن يقوم به نحوَ نفسه ومجتمعه، ودينه ووطنه، وتُحَوِّله فردًا مُهْمِلاً لايبالي بشيء، ويعيش الحياة متحررًا من جميع المشاعر الإنسانيّة، كالحيوان لايهمّه إلاّ ما يشبع بطنه ومقتضياته البهيميّة.. إنّه يجب أن يُوْقَفَ عن الكتابة ويُزَجّ به إلى السجن، أو يُحْبَس في بيته؛ حتى يعيش حياته دون أن يتضرّر به أفراد المجتمع الإنسانيّ .

       الأدب الخليع، والكتابات الماجنة، والكتابات الملهية، هي التي جنت على المجتمع البشريّ جناية لا تعدلها جنايةٌ، وهي التي قادت قطاعات الإعلام المسموع والمرئي والمقروء، والأغاني الغراميّة، والروايات الجنسيّة، والقصص المدغدغة للغرائز الجنسيّة، وتَسَرَّبت وئيدةَ الخطى إلى غرف ذوات الخدور والحجال، من المحجّبات العفيفات القاصرات الطرف، فأفسدتهنّ، وأخرجتهن من مُخَبَّآتهنّ، وحَوَّلتهنّ سافرات كاسيات عاريات، فصرن يتصيّدن الفتيانَ، وصاروا يتابعونهنّ في مظانّ وجودهنّ .

       المنتجون للأدب الماجن من الكُتَّاب الشهوانييّن الذين احترفوا الكتابات المهلية المسليّة الغراميّة المزجية لأوقات الفراغ، هم الذين جَنَوْا على الإنسانيّة في العصر الحاضر أكثر من غيرهم من محاولي إفساد الشباب والشابّات. ولو أن الحكومات، وقادتها كانوا على مستوى المسؤوليّة، والمروءة والكرامة الإنسانية، لما ساءت الحال إلى هذا الحدّ الذي طغى على المصلحين أجمعين ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.

       الكتابة اليوم صارت في الأغلب أداة فساد وإفساد في أيدي الكتاب المجانين الماجنين أعداء الإنسان والإنسانيّة الذين صاروا بهائم، فيودّون أن يُحَوِّلوا المجتمعَ البشريّ كلّه بهيمةً مثلهم، شأن ذوي العاهات الذين يودون أن يصاب أفراد المجتمع كله بالعاهات .

       كما أنها صارت اليوم أداة أكثر تاثيرًا لإثارة النعرات العرقية والعصبيّات الوطنية، والعداوات اللونيّة، وإحقاق الباطل، وإبطال الحق، وإضفاء الشرعيّة على الاستعمار العسكري، والاستعمار السياسي، والاستعمار الاقتصاديّ، والاستعمار الثقافي، والتصفيق لصالح القوى الغالبة المنتصرة المتفوقة عسكريًّا واقتصاديًّا، والوقوف بجانبها، رغم العلم بأنّها غاشمة، وأنها إرهابيّة، وأنها مُنْتِجَة للإرهاب ومُصَدِّرَة له، وأوّل من زَرَعَ غِرَاسَه، وعَرَّفَ بها المجتمعَ البشريّ .

       فالمسؤولية عادت اليوم باهظة على الكتاب الملتزمين، الذين يتبنّون رسالة البناء والإصلاح لأنهم قلة قليلة، ومعارضوهم من كتاب الفساد والإفساد كثرة كاثرة، والقلة القليلة قد لا تقدر أن تقف في وحة الكثرة الكاثرة إلاّ بصبر وثبات يتضاءل أمامهما صبر وثبات الجبال الراسيات، وقبل ذلك بتوفيق الله.

       «وَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيْلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيْرَةً بِإِذْنِ اللهِ» (البقرة/249) .

       إنّ المسؤوليّة باهظة حقًّا على عوائق الكُتّاب الذين شَرَّفهم الله العلي الحكيم العليم بأن وَفَّقَهم ليكونوا جنودًا مرابطين على ثغر مجابهة الكتاب المتحررين المحبين للفساد والإفساد، الحريصين على الهبوط ببني آدم إلى قعر الذلّ والهوان والخسارة الدائمة.

أبو أسامة نور

( تحريرًا في الساعة 10 من صباح الخميس : 13/ جمادى الأولى 1431هـ الموافق 29/ أبريل 2010م ) .

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1431 هـ = يونيو – يوليو 2010م ، العدد : 7 ، السنة : 34

Related Posts