الأدب الإسلامي
بقلم : الأديب معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر / الرياض
وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السعودي
وذهب علي ومعاوية رضي الله عنهما وذهب جيل كان ينحل عليهما، هجومًا أو دفاعًا، وإن كان النحل لم ينقطع فيما بعد، إذ انتعش مع قيام الدولة العباسية، وبدأ العراك بين العلويين والعباسيين، وبين العرب والفرس، ثم جاء خليفة جديد من بني أمية، وصار له أعداء، فتهيأت أرض جديدة للنحل، ربما وقع بينه وبين منافس له على الخلافة، فقد أتاح تغلب عبد الملك بن مروان على عبد الله ابن الزبير مناخًا رحبًا لوضع القصص، وإحياء النعرات، والتبكيت على جانب، وترجيح الكفة مع الآخر، وفي اتخاذ أسلوب القول، والرد عليه بجواب قوي مفاجئ ما أتاح الفرصة للتوسع في هذا المجال، والوصول بسهولة إلى الهدف.
والقصة الآتية من القصص التي ترجح جانب آل الزبير وأتباعهم، وتلجم عبد الملك بجواب مفاجئ، أقر أنه أخطأ، في استثارة عدوه القادم خاضعًا، والقصة كما يأتي:
“دخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان، وكان زبيريًا، فقال له عبد الملك:
أليس الله قد ردك على عقبك؟
قال : ومن رد عليك، فقد رد على عقبه؟
فسكت عبد الملك، وعلم أنه أخطأ”.(1)
في هذه القصة نسبة كبيرة من احتمال الحدوث، يرجح هذا، الرد الذي لم يكن بالجفاف الذي يثير الاعتراض، ولكن يبقى النسق في القصة، وتماثله مع ما جاء في السابق واضحًا فيه النحول، من القصص والأخبار.
ومن القصص التي يأتي فيها الجواب مفاجئًا ودافعًا القصة التالية:
“لما ولي سليمان بن عبد الملك، أتي بيزيد بن أبي مسلم – مولى الحجاج – في جامعته، وكان رجلاً دميمًا قبيحًا، تقتحمه العين، فلما رآه سليمان قال:
لعن الله امرءًا، أجرّك رسنك، وولّى مثلك!
فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتني والأمر عني مدبر؛ ولو رأيتني، والأمر عليّ مقبل لا ستعظمت من أمري ما استصغرت، ولا ستجللت ما استحقرت.
فقال له سليمان: أين ترى الحجاج، أيهوي في النار، أم استقرّ في قعرها؟
فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا، إن الحجاج قمع لكم الأعداء، ووطأ لكم المنابر، وزرع لكم الهيبة في قلوب الناس.
وبعد:
فإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك عبد الملك، وشمال أخيك الوليد، فضعه من النار حيث شئت!
فصاح سليمان: أخرج إلى لعنة الله!
ثم التفت إلى جلسائه، فقال:
قبحه الله، ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه!”(2).
إن أول القصة مقبول، ويليق برجل اعتمد عليه الحجاج في يوم من الأيام في تصريف أمور مهمة، وكلامه فيه من الأدب ما يتناسب مع مقام الخليفة، والموقف يقتضي من يزيد الهدوء، والمنطق، وقد راعاهما، وقال حقيقة لا ينكرها سليمان؛ ولعل التعليق الذي جاء في نهاية الحديث قول قاله سليمان، لما رأى من قوة الحجة، وحسن البيان. ويزيد في مهب الريح، وقد يقتل لو أساء الأدب، حتى لو كان رأى الموت بعينيه، فأمله في العفو بعد حسن المنطق قوي.
ولعل الرواة زادوا الجزء الأوسط في القصة، وهو ما يخص الحجاج والنار في قول سليمان، وموقع الحجاج فيها مع عبد الملك والوليد؛ لأن هذا القول بعيد عن روح القول الأول، فهذا قول يائس متحدٍّ شتَّام، ولو كان حدث لما اكتفى سليمان بإخراج يزيد، بل لقطع رأسه، ولكنه أخرجه بعد حديثه الأول لما فيه من حجة مقنعة، فإن كان هذا فعلاً حدث، فلابد أن سليمان ندم على هذا الحوار الذي أظهر يزيدًا بمظهر مشرف، وسليمان بتعليقه حرص على أن يدنس هذه الصورة.
فما صفا لنا من القول هو جواب مفاجئ ملجم، لم يتوقعه سليمان، الذي كان منطلقه من العاطفة، وبغض الحجاج، وأذهله عن أن يفكر في أن للأمر جوانب أخرى، قد يؤتى منها على غفلة، وقد أتي فعلاً!
والحجاج “بوابة متولٍّ” أخرى، عُلِّق عليها ما جعل تاريخها يئن تحت ثقل الأخبار الموضوعة، حتى أصبح من الصعب معرفة الحقيقي من الموضوع، ولم يبق له إلا صور عامة، تؤخذ من كونه مسلمًا مسؤولاً، وأديبًا متذوقًا، من خلال هذه الأسس يقرر رجحان الخبر من عدمه.
ومن المناسب للكتاب والأدباء، أن يدوّنوا عنه ما جاء من محدثيه من أجوبة مفحمة، سواء كانت مما حدث فعلاً، أو رُكِّبت ليتمتع مركبها برؤيتها تؤخذ بالقبول.
وأمر خروج الخليفة أو العامل إلى الصحراء، ودعوته لأعرابي ليشاركه طعامه تتكرر مع عدد من هؤلاء، ومن بين من نسب إليه شيء من هذا الحجاج؛ والصحراء ألهمت الكتاب بقصص كثيرة، ركبوها مناسبة لما يتوقع بين أعرابي، وخليفة أو عامل، أو ملك من ملوك الفرس، فالأمر كما يبدو قديم، وجاذبيته مغرية لا تقاوم. والقصة الآتية التي حدثت للحجاج هي إحدى هذه الصور، وتنتهي بإلجام الحجاج بالحجة الدامغة:
“قال أبوالحسن:
خرج الحجاج ذات يوم فأصحر، وحضر غداؤه، فقال:
اطلبوا من يتغدى معي.
فطلبوا، فإذا أعرابي في شملة، فأتي به، فقال:
السلام عليكم.
قال: هلمّ أيها الأعرابي.
قال: قد دعاني من هو أكرم منك، فاجبته.
قال: ومن هو؟
قال: دعاني الله ربي إلى الصوم، فأنا صائم.
قال: وصوم في مثل هذا اليوم الحارّ!
قال: صمت ليوم هو أحرّ منه.
قال: فافطر اليوم، وصم غدًا.
قال: ويضمن لي الأمير أني أعيش إلى غد؟
قال: ليس ذلك إليه.
قال: فكيف يسألني عاجلاً بآجل ليس إليه!
قال: إنه طعام طيب.
قال: ما طيبة خبازك ولا طباخك.
قال: فمن طيبه؟
قال: العافية.
قال الحجاج: تالله إن رأيت كاليوم. أخرجوه!”.(3)
إن الحجاج في كل هذا الحوار مغلوب، وملجم بلجام الحجة من هذا الأعرابي، الذي ابتدع موقفه صاحب القصة، ليكرّر انهزام الحجاج. والقصة فيها مداخل على مؤلّفها، فَلَمْ يجعل الحجاج يردّ السلام، وهذا مطعن فيها؛ والحجاج لايحتاج أن يسأل الأعرابي من هو الذي دعاه، وهو أكرم منه، فهو واضح لنا، فكيف للحجاج. والأعرابي يكفيه أن يقول إني صائم، وهو اختصار يليق بأعرابي صائم في يوم قائظ! وليس بين الحجاج والأعرابي وحشة توجب أن يقول: “ما طيبه خبازك، ولا طباخك”، كان بالإمكان إقتضاءً للأدب، وحق الضيافة أن يقول رأسًا: “طيبته العافية”. ثم إنه لا داعي أن يأمر الحجاج بإخراجه، فهو لم يدخل متطفلاً، وقد جيء به لغرض، وانتفى الغرض، وسيخرج دون طرد أو إزعاج.
أما أن القصة جاءت محققةً للغرض الذي في ذهن راويها، سواء كان مؤلفها كلَّها، أو قد أدخل عليها من عنده ما رآه مهمًا، فقد أدَّت غرض المؤلف، وأظهرت الحجاج لغير المتفحص بصاحب اليد الدنيا، والأعرابي بصاحب اليد العليا.
وللحجاج موقف آخر، وقف فيه مبهوتًا أمام ردٍّ لم يكن يتوقعه، والقصة قد تكون حقيقةً، وهي عند التمعن لا تخلو من فائدة للحجاج، فرغم ما ظهر به مناقشُهُ من جفاوة وصراحة، إلا إن الحجاج تحمله، ولم يسع في أذاه، والقصة كالتالي:
“قال زيد بن عمرو:
سمعت طاؤوسًا يقول: بينا أنا بمكة، إذ دفعت إلى الحجاج بن يوسف، فثنى لي وسادًا، فجلست، فبينا نحن نتحدث إذ سمعت صوت أعرابي في الوادي، رافعًا صوته بالتلبية، فقال الحجاج:
علي بالملبّي.
فأُتِيَ به، فقال:
منِ الرجل؟
قال: من أفناء الناس.
قال: ليس عن هذا سألتك.
قال: فعمّ سألتني؟
قال: من أي البلدان أنت؟
قال: من أهل اليمن.
قال له الحجاج: فكيف خلفت محمد بن يوسف؟ يعني أخاه.
قال: خلفته عظيمًا، جسيمًا، خرّاجًا، ولاّجاً.
قال: ليس عن هذا سألتك؟
قال: فعمّ سألتني؟
قال: كيف خلفت سيرته في الناس؟
قال: خلفته ظلومًا غشومًا، عاصيًا للخالق، مطيعًا للمخلوق.
فأزورّ من ذلك الحجاج، وقال:
ما أقدمك على هذا وأنت تعلم مكانته مني؟
فقال له الأعرابي: أفتراه بمكانة منك أعز مني بمكانتي من الله تبارك وتعالى، وأنا وافد بيته، وقاضي دينه، ومصدق نبيه صلى الله عليه وسلم.
فوجم لها الحجاج، ولم يحركه جوابًا، حتى خرج الرجل بلا إذن”.(4)
راوي القصة وصل إلى هدفه من إظهار الحجاج بمظهر الملجم بالحجة، وهو عامل الخليفة المهيب، والحجة الدامغة جاءت من رجل من عامة الناس؛ ولكن المتمعن فيها يجد عليها بعض المآخذ، ومنها أن المُلَبُّون في المشاعر كثيرون، لا يكادون يحصون، فلماذا خص هذا الملبي بالمساءلة؟ هل لأن لهجته يمنية لفتت نظر الحجاج وسمعه؟ فأراد عن طريق هذا الباب أن يدخل إلى المسآءلة عن أخيه، ورأي الناس في سياسته، قد يكون هذا ما وراء اخبر إن صح.
أضعف من هذا تغابي الرجل عما يقصده الحجاج، وهو تهرب يتنافى مع صراحته في نهاية القصة، وهو ما هَمَّ الراوي، وقَصَده من القصة كلها. فهل ياترى أن للقصة أصلاً زاد عليه الراوي ليتماشى مع غرضه.
والقضاة وهم العلماء الذين اختيروا لتميزهم بالعلم والإدراك، والأمانة، وقوة الفراسة، لهم من الهيبة ما ليس لأحد غيرهم إلا للحكام، فمن الفخر للمرء أن يغلب أحدهم بالحجة، ويعلو عليه بالدليل، يفطن إلى ما غاب عنه، ويرده عما قرره؛ ولا تخلو سيرة قاض من قصة من قصص غلبة الخصم أو الشاهد للقاضي، وبعض القصص تنقل من قاض إلى آخر، وكأنها ثوب يستعار عند الحاجة!
ومن القصص التي تُروَى عن القاضي “سوار” القصة الآتية:
شهد رجل عند سوار، فقال له:
ما صناعتك؟
قال: أنا مؤدب.
قال: فإنا لا نجيز شهادتك.
قال: ولِمَ؟
قال: لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرًا.
قال: وأنت تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرًا.
قال: إني أُكرِهت على القضاء.
قال: ياهذا، القضاء أكرهت عليه، فهل أكرهت على أخذ الرزق؟
قال: هلمّ شهادتك. فأجازها”.(5)
إن كانت هذه القصة حدثت، فلاشك أن الشاهد غلب القاضي بالحجة، وفاجأه بالجواب، وإن كان لايزال في جانب القاضي رأي، وفي جعبته سهم، لم يطلقه، وهو أنه عندما أُجبِر على القضاء، انقطع بهذا رزقه من مهنته الأولى، ولابد له أن يعيش، أما معلم الصبيان فلم يجبر على المهنة. ولكن الوقوف بالقصة عند الحد الذي أوقفها عنده القاص، هو الذي جعلها تدون وتصل إلينا.
وقسط القاضي ابن شبرمة من الإِلجام بالحجة في جدل مع شهود، يتبين في القصة الآتية:
“أتى رجل ابن شبرمة بقوم يشهدون له على قراح فيه نخل، فشهدوا، وكانوا عدولاً، فسألهم:
كم في القراح من نخلة؟
قالوا: لانعلم.
فرد شهادتهم.
فقال له رجل منهم: أنت تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة، فأَعلِمنا: كم فيه من اسطوانة؟
فأجازهم”.(6)
هذا القول محكم في كل أركانه، فإذا صحت القصة، فقد فاجأ الشهود القاضي بحجة قوية لم تأت له على بال. ترى هل يذهب القاضي بعد الجلسة، فيعد الأعمدة، ليحج خصمًا في المستقبل!؟ وكان بإمكان القاضي أن يحجم بأنه لم يطلب منه شهادة على عدد اسطوانات المسجد، ولو طلب منه لكان قام بعدها منذ زمن.
وجالينوس، وهو الحكيم المجرب، يروي عن نفسه قصة يغلبه فيها فلاح بالحجة، وتحمل الحجة تبكيتًا على طلب جالينوس وهي كالتالي:
“ومن حكايات جالينوس عن نفسه قال:
مررت بشيخ يزرع شجرة، فقلت:
ياشيخ، ما تزرع؟
قال: شجرة ثمرتها لي ولك.
قلت: وما هي؟
قال: شجرة المشمش، ثمرتها لي، لأني آخذ ثمنها، ولك، لأنها تكثر المرضى، فتأخذ من أموالهم!”.(7)
لقد أجاد الفلاح الجواب، إن كان هناك فلاح قال ما قال، وقد تكون القصة رمزية من سخريات الأطباء الحكماء، الذين عرفوا بهذا النوع من النصائح الساخرة.
ويأتي الجواب ملجمًا من الأحنف بن قيس، وهذا لا يستغرب منه، وإن كان الشك يدخل على القصة، لأن دمامة الأحنف كانت مجالاً واسعًا للتعليق عليها، ووضع القصص عنها، ولكن قوتها قد تغلب هذا الجانب من الضعف، فتقبل القصة لما فيها من روح الأحنف، وما عرف عنه، والله أعلم:
“قال رجل للأحنف:
تسمع بالمعيدي لا أن تراه!
فقال: ما ذممت مني، يا ابن أخي؟
قال: الدمامة، وقصر القامة.
قال: لقد عبت عليّ ما لم أؤامر فيه”.(8)
ويبدو أن دمامة الأحنف، وقصر قامته تجعل النظر يتخطاه ممن لا يعرفه، وق قال عبد الملك بن عمير شيئًا يدل على ذلك، وهو:
“قدم علينا الأحنف بن قيس الكوفة مع المصعب ابن الزبير، فما رأيت خصلة تذم إلا وقد رأيتها في الأحنف. كان صعل الرأس (صغيره)، متراكب الأسنان، أشدق، مائل الذقن، نأتئ الوجه، غائر العين، خفيف العارض، أحنف الرجل؛ ولكنه إذا تكلم جلا عن نفسه”.(9)
وتأتي الحجة الناصعة من شاب بارٍّ بوالده في قول قاله في مجلس الخليفة أبي جعفر المنصور، ردّ به على من أراد أن يحدّ من برّه بوالده، فجاءه الردّ صاعقة محرقة، لم يملك المنصور معها أن ضحك، رغم وقار المجلس، ومكانة المهاجَم المغلوب، والقصة كالآتي:
“دخل شاب على المنصور، فسأله عن وفاة أبيه.
فقال: مات رحمه الله يوم كذا وكذا، وكان مرضه رضي الله عنه كذا وكذا، وترك عفا الله عنه من المال كذا وكذا.
فانتهره الربيع، وقال: أبين يدي أمير المؤمنين توالي الدعاء لأبيك؟
فقال الشاب: لا ألومك، إنك لم تعرف حلاوة الآباء.
فما عُلم أن المنصور ضحك مثل ضحكه يومئذ. وكان الربيع لقيطاً”.(10)
لقد جاء الرد مُدَمْدِمًا مزمجرًا مجلجلاً، لم يملك معه الخليفة الوقور المهيب، إلا أن ينفجر ضاحكاً، على هذا القول المفاجئ القوي، الذي لابد أنه أفقد الربيع توازنه، ولعل الله ألهم الشاب، إن صحت الرواية، هذا الجواب، جزاء على بره بوالده، بالحرص على الترحم عليه، والدعاء له.
والرد المفاجئ القوي الذي يدون، ويعتني به، ذلك الذي يكون قائمًا على عمود رصين، كأن يأتي الجواب من الأدنى إلى الأعلى، أو من الجاهل إلى العالم، أو من الابن لأبيه، وفي القصة التالية يتوافر هذا العنصر لأنه يأتي من أَمَةٍ لسيدها:
“قالت جارية بن السماك:
ما أحسن كلامك، إلا أنك تردده.
قال: أردده حتى يفهمه من لم يكن فهمه.
قالت: فإلى أن يفهمه من لم يكن فهمه يمله من فهمه”.(11)
لقد أصابت أَمَة عندما أخطأ سيد، ووفقت امرأة لِمَا أخفق فيه رجل، والمستمع غير المتكلم، فالمتكلم لا يقول إلا ما يحلو له، أما المستمع فيستمع لما يختار المتكلم أن يتحدث عنه، وبالطريقة التي تحلو له. ولا يكون هناك توافق في القول والاستماع، ما لم يراع المتكلم المستمع، ويأخذ من تعابير وجهه ما إذا كان متمتعًا بالقول أو ممتعظاً. وقد أعطت هذه الأمة سيدها درسًا في حسن التحدث إلى الناس، وصحة مخاطبتهم.
ويأتي الجواب مضيئًا دامغًا، وجذابًا أيضًا، لأنه ينسب إلى غير واحد، وفي هذه المرة نسب إلى “مزبد”، والجواب جاء في القصة الآتية:
“قيل لمزبد، وهو يحمل شيئًا تحت إبطه:
يا مزبد، ما هذا الذي تحت حضنك؟
قال: يا أحمق، ولِمَ خبأته؟”.(12)
والذهب من معدنه لا يستغرب، والجواب المضيء من الأديب متوقع، لأنه يأتي نتيجة تفكير عميق، وإن جاء للمخاطب مفاجئًا، قد لا يكون توقعه، بدليل السؤال الذي سأله، والصيغة التي اختارها له. وللعجاج رد جميل هكذا قاله:
“قيل للعجاج: إنك لا تسحن الهجاء.
فقال: إن لنا أحلامًا تمنعنا من أن نَظْلم، وأحسابًا تمنعنا من أن نُظْلم، وهل رأيت بانيًا لا يحسن أن يهدم”.(13)
صدق العجاج، ولقد جاء بالرد الفصل، والكلمة القاطعة، وأحاط بالأمر من جميع جوانبه.
ويأتي جواب مقنع مفاجئ من منحاهُ ونهايته، ولا يخلو من طرافة غير متكلفة، والقصة تروى كالآتي:
“قال ابن جريج: رآني عمر، وأنا متقنع، فقال:
يا أبا خالد، إن لقمان كان يقول:
القناع بالليل ريبة، وبالنهار مذلة.
فقلت: إن لقمان لم يكن عليه دين!”.(14)
ومن الأجوبة المسكتة التي تأتي من الأدنى مزمجرةً إلى الأعلى، ومن محدود العلم إلى من يدعي التخصص فيه، والتعمق في بحاره، القصة الآتية:
“قال الخياط المتكلم: ما قطعني إلا غلام قال لي:
ما تقول في معاوية؟
قلت: إني أقف فيه.
قال: فما تقول في ابنه يزيد؟
قلت: ألعنه.
قال: فما تقول فيمن يخبه؟
قلت: ألعنه.
قال: أفترى معاوية كان لايحب ابنه؟”.(15)
هذه من الأمثلة التي تعطي فكرة عن مدى الجهد الذي يبذل، ليؤكد رأيًا سياسيًا، يختار له الأسلوب المقنع، ومن المؤكد أن من صاغ هذا القول ليس من حزب معاوية، فهل صائغه الخياط، وهو المتكلم أو أن صائغه متكلم آخر، رأى أن يعلقه على اسطوانة من اسطوانات المتكلمين المشهورين في ذلك الوقت!
إن هذه القصة وضعت بعناية، وفُكر فيها جيدًا، قبل أن تخرج بهذه الصورة المقنعة ظاهرًا؛ لأن المدخل إليها، أساسًا واهٍ، لم يعط حقه من النقاش، وإنما جاء الأمر ختلاً واحتيالاً. ومع هذا فالخياط مادام الأمر جدلاً، لم يثأر لفكره، ويبدأ أساسًا مخالفًا، ليرى كيف يتصرف سائل السؤال. ماذا لو قال: إن معاوية صحابي، وأحد كتاب الوحي لرسول الله ونحن أمرنا ألا ندخل فيما شجر بينهم، لأن أحدنا لا يأتي مد أحدهم ولا نصيفه!
ونختم الإِجابات المسكتة المفاجئة بقصة رمزية، مدلولها واضح، وهدفها بين، وقد هيء لها من المنطق ما هي جديرة به، من قوة الإِقناع، وصفاء الحجة:
“قال بعض الملوك لعابِدَين كانا في زمانه:
ما يمنعكما من إتياني، وأنتما عبدان لي؟
قالا: إن صدقتَ نفسَك، علمت أنا لسنا بعبدين لك.
قال: وكيف ذاك؟
قال: هل تعلم أنا نعمل شيئًا لغضب أو هوى؟
قال: لا.
قالا: فتعمل أنت شيئًا لغضب أو هوى؟
قال: نعم.
قالا: فقد ملكناهما، وملكاك، فأنت عبد لعبدينا”.(16)
* * *
الهوامش:
- عيون الأخبار: 1/300.
- نوادر القصص: 30.
- قارن هذا بقصة أولها مماثل لبعض ما جاء بهذا، يرويها الأصمعي عن شبيب بن شيبة. عون الأخبار: 2/394. البيان والتبيين: 4/98. عيون الأخبار: 2/395.
- نوادر القصص عند العرب:29.
- عيون الأخبار: 1/137.
- عيون الأخبار: 1/137.
- سرح العيون: 219.
- عيون الأخبار: 4/36.
- عيون الأخبار: 4/36.
- عيون الأخبار: 2/59.
- بهجة المجالس: 1/95.
- بهجة المجالس: 1/104.
- عيون الأخبار: 2/200.
- عيون الأخبار: 1/363.
- ربيع الأبرار: 1/680.
- الإشراف: 330.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الثانية 1431 هـ = مايو – يونيو 2010م ، العدد : 6 ، السنة : 34