دراسات إسلامية
بقلم : د / مسرت جمال
الأستاذة المشاركة قسم اللغة العربية، جامعة بشاور
الفصل: من فصل، يفصِّل، تفصيلاً.حاجز بين الشيئين(1) فصل بينهما يفصل فصلاً فالفصل فصلت الشيء، فانفصل أي قطعه فانقطع.(2)
والوصل :من وصل يصل، صلة، وصلت الشيء وصلاً وصلة، والوصل ضد الهجران، الوصل خلاف الفصل، وصُل الشيء بالشيء، يَصِله وصلاً‘ وصِلَة وصَلَة(3) بالكسرة والضم الأخير عن ابن جني(4) قال: لا أدري أمطرّد هو أم غير مطرِّد، قيل: وأظنه مطرِّداً كأنهم يعملون الضمة مسفرة بأن المحذوف إنما هي الفاء التي هي الواو. قيل: الضمة في الصُّلة ضمة الواو المحذوفة من الوُصْلَة والحذف والنقل في الضمة شاذ بشذوذ حذف الواو في يَجدُ، ووصَّلَه تَوْصِيْلاً لأمه، هو ضد فضله.(5)
قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ.(6)
أي وصّلنا ذكر الأنبياء وأقاصيص من مضى بعضها ببعض لعلهم يعتبرون. الوصل عطف جملة على أخرى بالواو فقط من دون سائر حروف العطف الأخرى. هو عطف الجملة على الجملة بإحدى حروف العطف، هو الواو.(7)
1- وفد مصطلح “الفصل والوصل” إلى البلاغة قادماً من علم القراءات، وبعدما مرّ بفترة عدم استقرار على يد من سبق الجرجاني، استقر على يديه، ولكنه تشعب وتعدد على يد اللاحقين، وما تشعب منه يدور حول مضمون المصطلح الأصلي، مصطلح “الفصل والوصل” لذا لم نجد ضرورة للأخذ بما عداه.
2- الفصل: قطع معنى عن معنى بأداة لغرض بلاغي.
والوصل: ربط معنى بمعنى بأداة لغرض بلاغي.
3- أدوات الربط: كل أداة تصل بين المفردات أو الجمل ليستقيم المعنى، وتأتي في مقدمتها حروف العطف لأصالتها في المضمار.
4- أدوات القطع هي: واو الاستئناف، ثم، الفاء، أم المنقطعة، بل، الاستثناء المنقطع، ضمائر الفصل، الجملة المعترضة وليس طرح الواو فقط.
5- كان للعلماء فيما قبل الجرجاني جهود طيبة في الفصل والوصل ولكنهم جنحوا إلى رصد القاعدة والتعريف بأدواتها ولم يتوقفوا أمام فن الفصل والوصل يستخرجون منه طاقاته وقدراته على التعبير، وأيضاً لم يلتفتوا إليه من خلال القرآن الكريم كله ولم يحاولوا أن يضموه في نسق ليخصوه بالدرس الوافي.
6- تمثل جهود الجرجاني مرحلة إعادة تشكيل مواد الفصل والوصل وكذا إبراز مضمونها، وعلى يد الزمخشري ازدهرت دراسة الفصل والوصل؛ لأنها كانت تطبيقاً على القرآن الكريم من خلال آياته ثم خبا الشعاع وحل الظلام، وعلى يد دارسي البلاغة المحدثين يتجد الأمل بإذن الله.
من بلاغة أسلوب الفصل
فن الفصل والوصل في القرآن الكريم يكشف عما في هذه القواعد من قصور، فهي:
أولاً: قد خصت الفصل والوصل بالجمل، والقرآن الكريم قد فصل ووصل بين الجمل وبين المفردات أيضاً.
ثانياً: أنها قد حصرت الفصل في أداة واحدة وهي “طرح الواو” بينما فصل القرآن بـ “واو الاستئناف” و “الفاء” و “ثم” و “بل” و “أم المنقطعة” و “ضمائر الفصل” و “الجملة المعترضة” و “الاستثناء المنقطع” – كما حصرت الوصل في “الواو” فقط بينما وصل القرآن الكريم بجميع حروف العطف وجميع حروف الربط.
ثالثاً: أنها سمت الفصل بين الخبرية والإنشائية كمال الانقطاع وجعلت الاتفاق بين ركني الجملة خبراً أو إنشاء مبرراً للوصل، بينما جوز سيبويه وبعض أئمة النحو عطف الخبرية على الإنشائية(8) وعدّد بعض العلماء اثني عشر موضعاً في القرآن الكريم عطفت فيها الخبرية على الإنشائية والعكس، من مثل قوله تعالى ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾(9) و ﴿وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾(10) و ﴿لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾(11) و ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾(12) وغيرها.(13)
رابعاً: أن ما أطلق عليه كمال الانقطاع مع إيهام الفصل خلاف المقصود،وضربوا له مثلاً (لا وعافاك الله) يعتبر دليلاً على عطف الإنشائية على الخبرية و (لا) بمعنى أنفِي ذلك فهي جملة خبرية، و (عافاك الله) جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى أنها (دعاء)، هذا، بالإضافة إلى أنها تصلح أن تؤدي المعنى بطرح الواو، فالمتكلم حين يقول للمخاطب (لا ) ثم يتوقف لحظة ثم يستأنف كلامه داعياً له بقوله (عافاك الله) يكون قد أدى المعنى بلا ليس.
خامساً: أن هذه القواعد لم تراع المعنى العام ولا السياق الجامع لمتجانس الذي اقتضى فصلاً هنا ووصلاً هناك. وانكمشت في أمثلة تعليمية. وشواهد محدودة، غاضةالطرف عن رحاب القرآن الفسيحة، وهو يخضع لوحدة موضوعية فنية، وصورة كلية أجزاؤها السور مجتمعة، ثم كل سورة على حدة بما حوت من آيات، وكل آية بما حوت من ألفاظ، بل وكل لفظة بما حوت من حروف.
وبعيداً عن تشعب هذه القوانين وتداخلها. نقول – إن المقياس الحقيقي لقبول الفصل أو الوصل. هو أ ن تؤدي العبارة – في إطار السياق العام – الغرض من صياغتها في إيصال المعنى إلى المخاطب في أوضح صورة وأحلاها، فإذا أدى الوصل بين مفردين أو جملتين إلى معنى غير المقصود، أو إلى المعنى المقصود بصورة رديئة أو لا يقبلها العقل وجب الفصل، وإذا كان الفصل سبباً في الإيهام بغير المقصود أو في فقدان المنطقية أو الرشاقة في الأسلوب وجب الوصل.
لذا لم يبعد من رأى أن البلاغة في معرفة الفصل من الوصل، فالبلاغة معرفة كيف نصوغ ما يدور في أنفسنا من معانٍ بألفاظ لا تحتمل اللبس موصوفة بالصفاء مضافاً إليها الجمال والخصوبة؛ لأنها وُصلت فيما بينها وكان يجب أن توصل، وفُصلت فيما بينها وكان يجب أن تفصل.
والناس في معرفة هذا وتذوقه … درجات.
والناس في معرفة هذا وتذوقه … درجات.(14)
أسرار الفصل والوصل
عاش فن الفصل والوصل في وجدان الناطق العربي، الذي احتاج أن يربط بين معنى ومعنى برابط، أو يقطع معنى عن معنى بقاطع، وهو في فصله ووصله يهدف إلى تحقيق غاية جمالية يسمو إليها، لأنه يحرص على أداء فكرته في وضوح لا لبس فيه لتصل إلى المخاطب في جمال وجلاء.
والنصوص تشهد أن الحس العربي والمصفّى كان يتوقع الوصل حين لا يجد وصلاً، ويبحث عن الفصل حين يفتقده، وكان يفاضل بين رابط ورابط حتى يستقيم الشكل مع المضمون، وقصة أبي بكر الذي رفض من الأعرابي قوله (لا عافاك الله) وطالبه بأن يقول (لا وعافاك الله) تدل على ذلك.(15)
والقرآن الكريم الذي خاطب هذه الطبيعة العربية كان يفصل بين المعاني ويربط بينها، وكان يلون العبارة مزاوجاً بين فصل ووصل ثقة بفهم المخاطب أو مراعاة منه لمقتضى الحال. ولم يتقيد في فصله بطرح الواو، بل استخدم معه أدوات أخرى، كما لم يقتصر في وصله على الواو أو على حروف العطف بل استخدم معها أدوات الربط الأخرى حسبما اقتضت الحاجة.
وهو في كل هذا يرمي إلى إبراز جمال المعنى لتحقيق كمال الفائدة، فحين يصف مشاهد الجنة أو النار، أو يصور الثواب أو العقاب أو يتحدث عن الأخبار أو الفُجّار أو غير ذلك من معان، لا يعرضها عرضاً مسطحاً إنما يتخذ الوسائل التي تُبرز كل طاقاتها من إثارة الخيال والعواطف والمنطق. ومن قدرة على الإحاطة والشمول، حتى إذا وصلت إلى المخاطب جعلته جزءاً متمماً لها بما أوحت إليه وبما أثرت فيه، وبما صورت له، وبما أمتعته وأفادته.
وهنا يبرز جمال المعنى المقصود حين يوجد مكتملاً ناضجاً موحياً ليحقق كمال الفائدة، وكمال الفائدة في ألاَّ يفتقد شيئاً من أوجه الجمال السابقة، وفي أن يظل نابضاً قادراً على الإفادة، مؤدياً إلى معانٍ ومعانٍ تتواجد بوجوده. وتنبعث من إيحائه، ثم تترابط – هذه المعاني الجزئية – لتصور المعنى الكلي، لتصور الحكمة المنشودة، أو الفكرة المقصودة أو الجوهر المطلوب.
والفصل والوصل وسيلة من وسائل إبراز الجمال مع غيره من الأساليب، وله أدوات، إن فصلاً وإن وصلاً، وطرق لأداء وظيفته، فقد يفصل القرآن الكريم بين معنيين أو يربط بينهما، متخذاً الإيضاح وسيلة لإبراز جمال المعنى فيعرضه جلياً لا شركة فيه ولا لبس ليكون خالصا بذاته أمام المخاطب ليتدبره حق التدبر، أو يتخذ الإيجاز وسيلة في عرضه كيلا يتشتت الذهن في استيعاب المعنى، أو يحاول تثبيته وتقريره لأهميته وخطره، أو يعرضه في نسَق ملفت مثير، أو يقطّع الموضوع إلى أجزاء موصلة أو يعرضه بأشكال متعددة أو يقف أمام الهيئة المنفصلة أو الهيئة المتصلة ليرصد حركتها ويصور أبعادها أو يناسب بين الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي أو غير ذلك.
والفصل والوصل في كل هذا يراعي دائماً إثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة أنفسهم بمختلف نزعاتها وميولها، وكذا عواطفهم وأذواقهم.
وليس الفصل والوصل بمستقل بأدواته وطرقه عن “القصر” أو “الحذف والذكر” أو “التقديم والتأخير” أو غيرها من فنون، وهي جميعاً تتآزر لإبراز جمال المعنى في أبهى صوره الفنية لتحقيق كمال الفائدة.(16)
1 – قد يكون الفصل أبلغ من الوصل
فالجمل التي تتوارد على سبيل البيان، لا حاجة فيها إلى ذكر لفظ يدل على الربط، لأنها ما دامت كذلك فهي شيء أو هي جمس واحد، فإذا دخلها حرف وصل كان غريباً وشاذاً، فآية الكرسي(17) قد ترتبت الجمل فيها من غير حرف عطف، لأن ما من جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبيّن، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب، بين العصا ولِحائها، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه، والثانية لكونه مالكاً لما يدبره، والثالثة للكبرياء شأنه والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى، والخامسة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره.(18)
2- التناسق الداخلي للجمل أقوى من وصلها برابط
ففي قوله تعالى ﴿الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(19) يقول الزمخشري: “والذي هو أرسخ عِرقاً في البلاغة أن يُضرب عن هذه الحال صفحاً، وأن يقال: إن قوله ﴿ألم﴾ جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و ﴿ذلك الكتاب﴾ جملة ثانية، و ﴿لا ريب فيه﴾ جملة ثالثة، و ﴿هدى للمتقين﴾ رابعة، و قد أصيب بترتيبها مِفصل البلاغة. وموجب حسن النظم حتى جيء بها متناسقةً هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة”.(20)
3- الفصل يزيد الأسلوب جزالة وفخامة
ويلحظ الزمخشري ذلك في قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ…﴾(21) يقول: فإن قلت: كيف ابتدئ قوله: ﴿الله يستهزئ بهم﴾ ولم يُعطف على الكلام قبله؟ هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء، ولا يؤبه له في مقابلته لما ينـزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل، وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله.(22)
4- ويُضفي عليه حسناً وقوة تأثر
ويضرب الزمخشري لذلك مثلاً قوله تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾(23) اللام: جواب قسم محذوف، وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية، وفي أسلوبها قول القائل:
وجارة جسّاس أبأنا بنــــابها
كليباً، غلت ناب كُليبٌ بواؤها(24)
وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى أن المعنى: ما أشد استكبارهم، وما أكبر عتوهم وما أغلى ناباً بواؤها كليب”.(25)
الوصل والنسق القرآني
يلتفت الزمخشري إلى ظاهرة أسلوبية دقيقة في نظم القرآن، يلتفت إلى الجملة التي تأتي في نسق مفصولة عما قبلها من جمل، وتأتي في نسق آخر، وقد وصلت بما قبلها، وذلك لأن المعنى قد لا يتسق إلا بالوصل أو لا يتسق إلا بالفصل، فما الفصل والوصل إلا وسيلة فنية لتحقيق أهداف المعنى المقصود.
في سورة الحج ترد جملة “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا”(26) ثم تمضي ثلاثون آية وتأتي نفس الجملة وهي مفصولة “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا”(27) ويتساءل الزمخشري: لِمَ جاءت نظيرة هذه الآية معطوفة بالواو وقد نزعت عن هذه؟ فيجيب: لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها(28) وأما هذه بواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً.(29)
ومثال آخر موصول بالفاء مرة ومفصول عنها أخرى
في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ..﴾(30) وفي نفس السورة جاءت “لهم أجرهم” بـ”الفاء” ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾(31).
يقول الزمخشري: الموصولة لم تُضمَّن معنى الشرط وضُمِّنته المفصولة – والفرق بينهما من جهة المعنى أن الفاء فيهما دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر، وطرحهاعارٍ عن تلك الدلالة.(32)
وقد تجيء الجملة موصولة برابط واحد في مكانين
مع تقديم وتأخير يقتضيه السياق:
وذلك في قوله تعالى في سورة يونس ﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ﴾(33) وفي سورة سبأ ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ﴾(34) وحق السماء أن تقدم على الارض – ولكنه تعالى – لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصل بذلك قوله ﴿لا يعزب عنه﴾ لازم ذلك أن قدم الأرض على السماء، على أن العطف بالواء حكمه حكم التثنية.(35)
وقد تجيء موصولة برابطين لاختلاف القصد في المرتين
وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(36) وقوله تعالى في سورة آل عمران ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(37) يقول الزمخشري: جعل النظر مسبباً عن السير في قوله (فانظروا) فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ثم انظروا ولا تسيروا سير الغافلين، وأما قوله (ثم انظروا) فمعناه: إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بـ (ثم) لتباعد ما بين الواجب والمباح.(38)
الوصل والقصص القرآني
ويقوم الوصل بدور هام في الربط بين كعناصر القصة، أو في الربط بينها ما يشبهها في المضمون أو الهدف، لتتحولا إلى قصة طويلة متعددة الأجزاء – ففي سورة البقرة عطف قصة المنافقين من أول قوله تعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾(39) إلى قوله ﴿يكاد البرق يخطف أبصارهم)(40) على قصة الذين كفروا، من قوله تعالىٰ ﴿إن الذين كفروا﴾(41).
إلى قوله تعالى ﴿ولهم عذاب عظيم﴾(42) لأن المنافقين جبناء يظهرون غير ما يبطنون فلا يناسبهم في المقام إلا أن يعطَفوا بقصتهم على قصة الكفار وتصير القصتان قصة طويلة لها جزآن.
من بلاغة أسلوب الوصل
أ- للواو موضع لا تصلح فيه الفاء
يقول سيبويه في وصل المفردات، لو قلت: مررت بزيد أخيك وصاحبك. كان حسناً، ولو قلت مررت بزيد أخيك فصاحبك، والصاحب زيد، لم يجز، وكذلك لو قلت: زيد أخوك فصاحبك ذاهب، لم يجز، ولو قلتها بالواو حسنت، كما أنشد كثير من العرب لأمية ابن أبي عائد:
ويــأوِي إلى نسـوة عُطـل
وشُعثٍ مراضيعَ مثلِ السّعالى(43)
ولو قلت: فشُعثٍ، قبُح.(44)
ويعلل “الأعلم” سبب الحسن مع وجود الواو، وسبب القبح مع دخول الفاء لقوله، “حمل شعث على عطّل لأنهما صفتان ثابتتان معاً في الموصوف. فعطفت إحداهما على الأخرى بالواو، لأن الواو معناها الاجتماع ولو عطفت بالفاء لم يجز لأن الفاء للتفرقة”(45).
ب- الجملة تأتي موصولة مرة
ومفصولة أخرى لغرض التفسير
وذلك في قوله تعالى في سورة إبراهيم ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾(46) فجملة “يذبحون” جاءت مرةً بالواو ومتصلةً بما قبلها، وأخرى بدون الواو ومنفصلةً عما قبلها(47) ويفسر الفراء ذلك بقوله “فمعنى الواو أنه يمسهم العذاب غير التذبيح، كأنه قال يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح، ومعنى طرح الواو، كأنه طرحٌ لصفات العذاب، وإذا كان الخبر من العذاب أو الثواب مجملاً في كلمة ثم فسّرتُه، فاجعله بغير الواو، وإذا كان أوله غير آخره فبالواو(48) ويضرب مثلاً آخر للمجمل قوله عز وجل ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾(49) فالآثام فيه نية العذاب قليلِه وكثيرِه، ثم فسره بغير الواو فقال ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(50) ولو كان غير مجمل لم يكن ما ليس به تفسيراً له، ألا ترى أنك تقول: عندي دابتان بغل وبرذون ولا يجوز عند دابتان وبغل وبرذون، وأنت تريد تفسير الدابتين بالبغل والبرذون، ففي هذا كفاية عما نترك من ذلك فقِسْ عليه.(51)
ج- جواز وصل الجملة الخبرية
بالجملة الإنشائية خلافاً للمشهور
ذكر السبكي أن الشيخ “أبا حيان” نقل عن سيبويه جواز عطف المختلفين بالاستفهام والخبر مثل: هذا زيد ومَن عمرو؟ وقد تكلموا على ذلك في قوله تعالى ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾(52) ويعقب السبكي “لا خلاف بين الفريقين لأنه عند من جوزه يجوز لغةً ولا يجوز بلاغةً”.(53)
ويعلق الدكتور عبد القادر حسين “ولا ندري لماذا لم يأخذ البلاغيون بجواز عطف الإنشاء على الخبر أو العكس، وإن وجدوا شيئاً من ذلك أوّلوه، وقدّروا عطف خبر على خبر أو إنشاء على إنشاء(54) ولماذا لم يكن شأن البلاغيين شأن النحاة في قبول هذا الرأي. ولو كان البلاغيون رفضوا هذا النوع لأنهم لم يجدوا غلا أمثلة من صنع النحاة لالتمسنا لهم العذب في هذا الرفض، ولكن القرآن شاهد بهذه الآية على وجود هذه الصورة، ولا نقتنع بقول السبكي: إن هذا يجوز لغة ولا يجوز بلاغةً … وقد ساورني الشك أول الأمر على اعتبار أن الواو في قوله تعال ﴿وإنّه لفسق﴾ ربما تكون للحال وليست للعطف فتخرج الآية عن صحة الاستدلال بها في عطف الخبر على الإنشاء … ففتشت في تفسير الطبري والكشاف والقرطبي والبيضاوي فما وجدت أحداً قد عرض لهذه الواو في كونها للعطف أو للحال”.(55)
* * *
المصادر والمراجع
(1) تاج العروس من جواهر القاموس، ج15، ص573
(2) لسان العرب، للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي البصري [المكتب دار الصادر، بيروت 1968م] 11/521
(3) لسان العرب، للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، 11/526
(4) عثمان بن جنّي الموصلي أبو الفتح، من أئمة الأدب والنحو، وله شعر، ولد بموصل وتوفي ببغداد. له تصانيف رسالة ” من نسب إلى أمه عن الشعراء ” سر الصناة وغيرها.
(5) تاج العروس عن جواهر القاموس، محب الدين فيض السيد محمد الحسين الزبيدي، 15/776
(6) القصص 51
(7) علم المعاني لعبد العزيز عتيق، ص160
(8) السبكي – عروس الأفراح وانظر محمد عبد الخالق عضيمة – دراسات في أسلوب القرآن – 3/557 ط1، سنة 1972م – السعادة
(9) الأنعام: 121
(10) الأعراف: 77-78
(11) النساء: 14
(12) مريم: 46
(13) النور: 57، النمل: 9-10، الحجرات: 12، نوح: 24، الكوثر: 1-2، البقرة: 25، الصف: 13، مريم: 75-76، دراسات لأسلوب القرآن: 3/557 وما بعدها.
(14) الفصل والوصل في القرآن الكريم، ص172-174
(15) الفصل والوصل في القرآن الكريم، ص193
(16) نفس المصدر: ص194-195
(17) البقرة: 255
(18) الكشاف: 1/386
(19) البقرة: 1-2
(20) الكشاف: 1/121
(21) البقرة: 15-16
(22) الكشاف: 1/187
(23) الفرقان: 21
(24) جساس: قائل كليب، وجرته بسوس: امرأة يقال إنها خالته، وقتل للبسوس الناقة التي بها هاجت الحرب بين بكر وتغلب، رماها كليب فقتلها – أبأنا: أي قابلنا، من البواء وهو التساوي في القصاص، الناب: الناقة – ومعناها: ما أغلى ناباً يولوها كليب. شرح شواهد الكشاف – ذيل الجزء الرابع ص 561 ط البابي الحلبي – القاهرة 1968م
(25) الكشاف: 3/88
(26) الحج: 34
(27) الحج: 67
(28) يقصد قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ …﴾ من، 30 – 33
(29) يقصد قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ. لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا…﴾ الحج: 65، والكشاف: 3/21
(30) البقرة: 262
(31) البقرة: 274
(32) الكشاف: 1/394
(33) يونس: 61
(34) سبأ: 3
(35) الكشاف: 2/243
(36) الأنعام: 11
(37) آل عمران: 137
(38) الكشاف: 2/7
(39) البقرة: 8
(40) البقرة: 20
(41) البقرة: 6
(42) البقرة: 7، والكشاف: 1/165
(43) ديوان الهذليين: 2/184
(44) الكتاب: 1/399
(45) نفسه: 1/199، ط الأميرية 1318هـ.
(46) إبراهيم: 6
(47) البقرة: 49 – ” وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ…”
(48) الفراء: معاني القرآن: 2/68-69
(49) الفرقان: 68
(50) الفرقان: 69
(51) معاني القرآن: 2/69
(52) الأنعام: 121
(53) السبكي – عروس الأفراح – 3/27
(54) رجع د. عبد القادر إلى “السيالكوتي” على المطول 20، 21 ط استانبول
(55) د. عبد القادر حسين – أثر النحاة في البحث البلاغي – 97-98، ط دار نهضة مصر للطبع والنشر.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الثانية 1431 هـ = مايو – يونيو 2010م ، العدد : 6 ، السنة : 34