إشراقة
عندما يكون المرأُ غيرَ معروف يستند في التعريف بنفسه وتقييمها إلى مؤسسة أو منظمة أو جماعة تكون معروفةً أو شبهَ معروفة، فيُوَقِّع – مثلاً – في نهاية بحث أو مقال باسم “د. عبد العزيز أستاذٌ بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة الأزهر” أو يُصَدِّر كتابًا في موضوع بوضع اسمه على غلافه بأنّه “د. عبد الله رئيس قسم الهندسة بجامعة الملك سعود بالرياض” أو يُدْعَى لافتتاح حفلة شعبيّة أو رئاستها فيُنَادَىٰ باسمه بأنّه “فضيلة الشيخ فلان شيخ الحديث بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند بالهند” فيحتفي به الناس كثيرًا باعتباره يشغل هذا المنصبَ المُشَرِّف في مثل هذه الجامعة الإسلاميّة الأهليّة العريقة التي تحتلّ عن جدارة واستحقاق مكانةَ الجامعة الأمّ في شبه القارة الهنديّة، بغضّ النظر عن خموله وعدم اشتهار شخصيته العلميّة أو الدينية في المجتمع العامّ، كما يحتفون بشخصيتي الدكتورين المذكورين أعلاه بمجرد انتمائهما إلى تينك الجامعتين الكبيرتين المحترمتين لدى العالمين العربي والإسلاميّ، دونما التفات إلى القيمة الشخصيّة التي يتمتعان بها أو يُحْرَمَانِها لهذه الفترة من الزمان، التي كتبا فيها البحثَ أو وَضَعَا الكتاب.
ولكنّه – المرأَ – عندما يشتهر أمُرُه، ويُصْبِح هو معروفًا في المجتمع، لإنجاز حَقَّقَه، في مجال من مجالات الفكر أو الدعوة، أو العلم أو التربية، أو الإصلاح أوالاجتماع، أوالخدمة الإنسانية العامّة – التي تُسَمَّى بـ”القيادة” – أو في المجالاتِ كلّها.. يتحوّل الموقف وينعكس الأمر فتستند إليه المؤسسة أو المنظّمة أو الجماعة التي ظل ينتمي إليها؛ لأنّها عندئذ تحتاج إلى مساعدته المعنويّة، حتى تكتسب الاعتبارَ والمكانة اللذين لم تحظَ بهما بعدُ .
وذلك لأنّ المرأ عندما يكون قد عُنِيَ ببناء الذات، وتكوين الشخصيّة، واستيفاء عناصر العظمة، من خلال جهد وَاصَلَه ليلَ نهارَ عن تخطيط وفي إطار التركيز على إثارة كوامن المواهب التي عندما تهبّ بعد توافـر المناخ الصالح والبيئة اللائقة والعناية المُتَّصلَة بالسقي والريّ والتسميد الذي يجعلها تعطى “الحاصلات المرجوة”، وتصنع المعجزات .. يمسي – المرأُ – مهبطَ الأنظار، ومهوى الأفئدة، ومحطَّ الحبّ من جميع شرائح المجتمع، فيصير الناس رهنَ إشارته وطوعَ أمره، يُنَفِّذون ما يقول، ويُحَقِّقُون ما يشتهي، ويوفّـرون ما يصبو إليه، ويُعْجَبون بشخصه، ويحبّون كلَّ شيء ينتمي إليه من جماعة ودعوة، ومنظمة وحركة، ومؤسسة وجامعة، وجمعيّة ومدرسة. ويَتَبَنَّون كلَّ دعوة وفكر وعقيدة يحتضنها وتصدر عنه؛ لأنهم بعدما يؤمنون بإفاديّة شخصه، وفعاليّة مُؤَهِّلاَته، يؤمنون بخيريّة كلّ رأي يراه، وعقيدة يعتقدها، وموقف يتّخذه .
من طبيعة الإنسان أنّه يُحِبّ الإفاديّة، ويُعْجَب بالخير أينما كان وكيف ما كان، فيخضع لرجل الإفادة وميوله ورغباته، وينحني لرجل الخير ويتفاعل مع مشاعره ونزعاته. ولايرى: هل الخيرُ حَظِيَ به هو شخصيًّا أم لا، وهل الفائدة اقتطفها من رجل الإفادة هو أم لا؟ كثيرًا ما يحدث أنه لا تناله ذرّةٌ من الخير العميم الذي غَمَرَ الناسَ حولَه صادرًا عن رجل الخير؛ ولكنه طُبِعَ على حبّ الخير مُطْلَقًا والإعجاب بالإفادة بكل أشكالها وفي جميع مظانّها. ولايقتصر حبُّه على شخصِ الرجل النافع والمرء الممارس للخير الفاعل للمعروف، وإنما يتجاوزهما إلى كل شيء يتّصل بهما، وينتمي إليهما ويصدر عنهما، ويرجع إليهما.
من ثم إذا أحبّ أحدٌ مُؤَهَّلاً معروفًا، أو كفؤًا مشهورًا، أو قائدًا لائقًا، أو عالمًا عبقريًّا، أو مُثَقَّفًا ذا نفعٍ ثرّ، أو صالحًا زاهدًا يسقي الناس بدينه وزهده، وورعه وصلاحه.. أحبَّ المنظمةَ التي يقودها، أو الجامعةَ التي يرأسُها، أو الجمعيّةَ التي يُشْرِف عليها، أو الدعوةَ التي يُنَادِي بها، أو الحركةَ التي يُؤَسِّسها، أو الأفكار التي يتبنّاها.
إنّ بناءَ الذات، وتربية الصفات، والاهتمام بالعناصر التي تزيد ثقلَ الشخصيّة، وتُكْسِبها مؤهلات تجعلها تقوم بدور فريد، وعمل جليل، يُخَلِّد اسمَ صاحبها، ويُثَبِّت ذكره على فم الزمان.. هو النفع الأصيل العاجل المُتَمَثِّل في جميع ما يكسبه المرأ في حياته من السمعة الطيّبة، والصيت الحسن، والذكر الجميل على ألسنة الأخيار. وأمّا ما سواه فهو فرع له ونتيجة عنه.
كثيرٌ من المنتمين إلى جمعيّة أو جامعة، أو حركة أو منظمة، يظلّون محتاجين على مدى حياتهم إلى الاستفادة من الانتماء إليها؛ لأنهم لايهتمّون بتربية الذات، وتكوين الصفات، وكسب المُؤَهِّلات التي كان من شأنها أن تغنيهم عن الاحتياج إلى الانتماء إليها، وتجعلهم مستقلّين عنها، قائمين بأنفسهم، بفضل العظمة التي انثالت عليهم، والمكانة المرموقة التي تساقطت في أردان فضلهم، لإنجاز غير عاديّ حَقَّقوه في مجال من مجالات العلم والدين، وخدمة الأمة والوطن والإنسانيّة.
مجردُ الانتماء إلى حركة شهيرة، أو دعوة معروفة، أو جامعة عريقة، أو جمعيّة طيّبة السمعة، أو منظمة حسنة الذكر، لايُكْسب صاحبَه العظمةَ والفضلَ الثابتين اللَّذِيْن يجعلانه يستقلّ بنَفسه عنها، حتى ينعكس الأمر فتصبح هي محتاجة إلى الانتماء إليه، والاستفادة منه في كثير من المواقف التي لاتنفع فيها إلاّ السمعة المطبقة والصيتُ الذائع.
الاجتهادُ البالغُ – الذي يعصردمَ الكبد القانيَ – هو الذي يُكَبِّر الصغيرَ، ويُعَرِّف الخاملَ، ويُبْرِز المغمورَ، ويُقَوِّي الضعيف، ويرفع الوضيعَ، ويُقَيِّم المتواضعَ العاديّ؛ فيرتفع عن جميع الأثمان، ويتسامى عن كل القيم الماديّة، فلا يقدر أكبر مليونير أن يدفع ما تتقاضاه عظمتُه من الثمن الغالي العالي.
والقعودُ عن هذا الاجتهاد، يُصَغِّر الكبيرَ، ويضع الرفيعَ، ويصبح قيدًا ثقيلاً في رجلي المرء، فلا يندفع إلى الأمام، ولايتصاعد إلى العلى، ولايكسب فضلاً، ولايتمتع بقيمة ترفع رأسَه في المجتمع، وتجعل شخصه عملاقًا بين الرجال.
وما يصحّ فيما يتعلّق بالانتماء إلى جماعة شهيرة، أو جمعية عريقة، أو جامعة ذات سمعة راسخة، أو حركة ذات خير كبير.. يصحّ فيما يتعلّق بالانتماء إلى أسرة ذات حسب ونسب، وبيت من بيوتات العلم والدين والعلم، أو شخصيّة شامخة في المآثر والإنجازات التي ترفع قيمةَ الآدميِّ، وقد تجعله يُصَافّ الملائكةَ الأبرياءَ.
مجرّدُ الانتماءِ ليس بشيء إذا كان دونما رصيد ذاتيّ من الجِدِّ الْفَاعِل، والسعي المُنْتِج، والاجتهاد الذي يجعل اليابسَ مُخْضَرًّا، والعودَ المقطوعَ مُثْمِرًا. كثيرٌ من الشباب يؤمنون ويعملون فقط بـ”العِظَامِيَّة” ويحسبون أنهم “كِبَارٌ” لأنهم ينتمون إلى منظمة فلانية، أو ينحدرون من أسرة فلانية، أو يتفرّعون من سلالة شريفة فلانيّة، دونما رصيد يحملونه من علم حَصَّلُوه أو فضل كسبوه، أو أهليّة جَنَوْها بعرق الجبين، وذوبان القلب، وانصهار الكبد. وعندما يُجَرِّبُون هذا “اليانصيب” أو هذا الرصيدَ الفارغ الأجوف من أي قيمة.. عندما يجربونه في “بورصة” الحياة، يعلمون أنهم راكبو حمارٍ وليسوا براكبي فَرَسٍ، ويُدْرِكُون أنّ مُحَرَّدَ “عملة” الأحلام لاتمشي في سوق الحياة النافقِ، ولاتُشْتَرىٰ بها العظمةُ الحقيقيّة أو المكانةُ المحترمة، لأنّها عُمْلَةٌ مُزَيَّفَة تمامًا، قد يتمّ اعتقالُ من يُضْبَط معها أو الزجُّ به إلى السجن و وضعُه في زنزانة مظلمة!.
الاجتهاد المثمر، والسعي المنتج مع الانتماء إلى مصدرٍ من مصادر العزّ والكرامة والاحترام، هو الذي ينفع ويدوم، ويتّصل ويُنْتِج، ويُعْطِي حاصلاتٍ تغني من جوع؛ بل تُسْمِن من تَعَاطَاه يقدر أكثر من الوجبة الواجبة.
الانتماءُ ينفع، ولكنّ نفعَه مشروط بأن يكون المُنْتَمِي ذاجدّ واجتهاد، ومُؤَهِّل لائق، يجعله شامًّا بين أعضاء المجتمع، فيلتفت إليه الأنظارُ، وتشرئبّ إليه الأعناق، ويغبط به الكثيرُ من ذوي الطموح.
بناءُ الذات، وصقلُ المواهب، والاتّكاءُ على النفس التي انْصَهَرَتْ في بُوْتَقَةِ الاجتهاد، هو الأصلُ الأصيلُ، والأساسُ المكينُ، والأرضيَّةُ الصُّلْبَةُ، التي إذا وَقَفَ عليها المرأُ، لاتَمِيد به الأرضُ في زلازل الحوادث، وكوارث العواصف. أمّا مجرّدُ الانتماء الخالي عن ذلك، فهو سراب خادع، وحساب بدون رصيد، ينهار صاحبُه بأدنى هزّة من حوادث الدهر، التي تتواصل في دروب الحياة.
الحقُّ أنّ بناءَ الذات هو الأصلُ في كلّ شيء يصنعه الإنسان في حياته، ولا يحتاج معه إلى الانتماء إلى منظمة أو مؤسسة؛ فإن حصل معه – بناءِ الذات – انتماءٌ إليها، فهو نفعٌ مزيدٌ وصَنْجَةٌ إِضَافِيَّة في أصل الثقل.
أبو أسامة نور
( تحريرًا في الساعة 11 من صباح السبت : 17/ ربيع الثاني 1431هـ = 3/ أبريل 2010م ) .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الثانية 1431 هـ = مايو – يونيو 2010م ، العدد : 6 ، السنة : 34