إشراقة

سعيدٌ من يتمتّع باللحظة الحاضرة؛ لأنه لايُفَكِّر في اللحظة القادمة، وإنما يُرَكِّز همَّه على اللحظة الحاضرة؛ فيتبنّاها ويعيشها، ويريد أن يعصرها كلَّها؛ فلا يشغل نفسَه بما يمكن أن يحدث في المُسْتَقْبَل القريب والبعيد، مثل الطفل الذي ينشغل كلِّيًّا بما يفعله حاضرًا من خلال انتباهه لمنظر أو مراقبته له أو ممارسته لأيّ نشاط يهواه طبعُه البريء. أمّا الذي يفكّر في أشياء عديدة في وقت واحد؛ فيعود مُوَزَّعَ الفكر، وتشغله الهمومُ، ويُدَمِّره القلقُ والاهتمامُ بالمُسْتَقْبَل، ويتعوّد تأجيلَ السعادة، مُتَخَيِّلاً: في المستقبل قد تتحسّن الأحوال، وتتطوّر المواقف .

       الذي يعيش اللحظةَ الحاضرة، ويحصر أمانيَه فيها، ويتخلّص من ضغط الآمال المُتَكَاثِرة والأهواء المُتَزَايـِدة، ويَدَعُ كلَّ شيء ليسير كيف يشاء في جهته الطبيعيّة، كالأشياء التي تنجرف وراءَ مياه السيل طبيعيًّا دونما تدخّل أو إرادة منها، يعيش هادئَ البال، لايُقْلِقه تفكيرٌ، ولايُشَوِّش عليه اللذّةَ همٌّ .

       أما الذي يُكْثِر على نفسه من الهموم، ويُرَبِّي الآمال، ويزرع الأمانيَ غيرَ المعدودة، يكون كطالب الثانوي يقول في نفسه: عندما أنتهي من الدراسة الثانويّة، فسأدخل الجامعةَ وعندها أَسْعَد، وحين يدخل الجامعةَ يقول: سأكون سعيدًا عندما أحصل على الشهادة الجامعيّة، وعند حصوله عليها يُؤَجِّل سعادتَه إلى حصوله على وظيفة مَرْضِيّة، وحين يَظْفَر بها ينتظر ليحظى براتب يُغَطِّي حاجاته، وحين يحدث ذلك كلُّه يُؤَجِّل سعادتَه إلى الزواج، وما إن يتمّ زواجه، حتى يتمنّى أن يمتلك منزلاً يخصّ أسرتَه. وهكذا لايتمتّع بالسعادة، لأنّه لايتمتّعها حاضرةً، وإنما ينتظرها مُؤَجَّلة .

       إنّ هذا الموقفَ يجعل المرأَ لايسعد أبدًا، وإنما يعيش الحياةَ كلَّها يبحث عن السعادة، ولا يجدها في أيّ من محطّاتها؛ لأنّه لايَسْعَد بها حين يجدها، وإنّما يُؤَجِّلها للمُسْتَقْبَل الّذي يُؤَجِّله هو الآخر لما بعدَ الحاضر الذي يَمْثُلُ لديه، فلا يَتَمَتَّع به ولا يَلَذَّه. يجب أن يتغيّر لدينا هذا التفكير للشعور بالسعادة. وهو أن نعيش الحاضرَ، ونقلّل من الآمال، ونكثر من الحركــة والأعمال، ولا ننجـرف دائمًا وراء التمنّى المتصل، بل نتوسَّد العملَ المُتَّصِلَ، والحركةَ الدؤوبةَ، والاجتهادَ الدائمَ، والثقةَ بالنفس، مع الإرادة الفولاذية، التي لاتُزَعْزِها العواصف، ولا تغيِّرها المُثَبِّطات مهما كانت هائلةً. وبذلك نطرد الخوفَ ولايتمكّن منّا القلقُ، ولا يشلّ حركتَنا. والمُهِمُّ أن نُسرع إلى ممارسة أي عمل؛ لأنه خيرُ دافع للملل والتفكير المُدَمِّر، والشعور بالشقاء.

       المؤمن مُطَالَب بالتقليل من الآمال وتعظيم الأهداف، واحترام المبادئ، والاعتماد على الساعد، والثقة بالذات، والرغبة فيما يُرْضِي اللهَ ورسولَه، والتوكّل عليه تعالى دائمًا، والإيمان بأنه لن يُصِيبه إلاّ ما كَتَبَه اللهُ له، ولن يُخْطِئه إلاّ ما قدّر الله أن لايصيبه، والتسارع إلى العمل مهما كان ضئيلاً؛ لأن القليلَ من العمل لن يعدله الشيءُ الكيثرُ من الأمل، والحقيقةُ لاتتغيرُ في الحياة – إذا تغيّرت – إلاّ بالعمل، لابمجرَّد الأمل.

       شقيٌّ من ينتظر أن تُحَاز له الدنيا بحذافيرها، فتتحقق له السعادةُ كُلّها، ولايُدْرِك أن السعادة كامنة في كل شيء ماثل لديه، مسوق إليه، إذا غَيَّرَ تفكيرَه، وعلم أنها كامنة في اللحظة الحاضرة، لأنّها بوضعها الماثل هو المكتوب المتحقق من الله الذي يُقَدِّر الأشياء، ويُوجِدها على ما يشاء؛ فكلُّ شيء مُقَدَّر ومُحَقَّق ومُصَوَّر على وضعه الحالي الذي تراه بعينيك وتلمسه بيديك، هو من قِبَلِ الله الخالق البارئ المُصَوِّر الذي لايزدادًا علما وخبرة – سبحانَه ما أعظم شأنَه – بخلق الأشياء .

       الإنسان سعيدٌ في كل وقت وفي كل حال إذا عَلِمَ أنه يتمتّع بما قُدِّر له، وأنّه هو رصيدُه المقسوم في الحياة، ونصيبه المكتوب في هذا الكون الذي وُحِدَ فيه، وأنه ليس مُكَلَّفًا فوق وُسْعِه، ولايجاوز ما هو أمامَه إلى ما هو خَلفَه دون إرادةِ من أَوْجَدَ ما هو أمامَه؛ فليكتفِ بما هو أمامَه من الحاضر الموجود، وليتمتع به مُشْبِعًا نفسَه، ولايَدَع هذه اللحظةَ الجميلةَ الحاضرة تمرّ وتصبح لحظةً ماضيةً، دونما إدراك لما فيها من الجمال و رصيد السعادة والهدوء.

       لن يَسْعَد من ينتظر الغدَ، لأنه حلمٌ مجهولٌ، و وهم مُتَخَيَّل، ومفقودٌ قد يُوْجَد وقد لا يُوْحَد؛ لأنّه بدوره قد يُصْبح ماضيًا يُرْوَىٰ أو يُنْسَىٰ، وإنّما السعيدُ كلَّ السعادة من يُرَكِّزَ همَّه على الحاضر: اليوم: اللحظة الماثلة أمامَه، ويقول في نفسه: قد لا أعيش إلا إيّاها – اللحظة الحاضرة – فلأستغلّها كلَّها، ولا أَدَعْها تضيع سُدًى وتذهب هدرًا، فسأعمرها بكلّ خير أصنعه، وكلّ فضيلة أغرسها، وكلّ إنجاز أحقّقه، وكل جميل أثبته في دفتر حسناتي، وكلّ معروف أُسْدِيه إلى نفسي وإلى كلّ إنسان أُصَادِفه في مجتمعي.

       السعادةُ والشقاءُ حقيقتان نِسبيّتان تنبعان من داخل الذات، ولا تُفْرَضَانِ عليها من الخارج. المرأُ سعيدٌ إذا شعر بأن كلَّ ما لديه حالاً هو النعمة الوافرة الكاثرة، الكافية الوافية، المقسومة له، المسوقة إليه، فليهنأ به – بما لديه – وليلتذّ به، ويسعد به، وليدرك قيمتَه ومعانيَه. والمرأ يشقى إذا شعر بأن مالديه، ليس بشيء، وإنما الذي هو كلُّ شيء هو الشيء المفقود المأمول المجهول المُنْتَظَر الغائب الذي يتخيّله في ذهنه، ويرغب فيه في نفسه، ويتوق إليه في إطار تصوّره. يتقالّ الحاضرَ الحاصلَ، ويحترم ويُعَظِّم الغائبَ الموهومَ الذي قد يحصل إذا شاء الله ولا يحصل إذا لم يشأه .

       الاكتفاءُ بالحاضر الموجود الممنوح، يُقْنِع النفسَ، فيُسْعِدها ويُوَفِّر لها أرصدةً لاتفنى من السرور والابتهاج، ويفتح لها بابًا واسعًا من الهناء والسعادة، لن يُغْلَق في حياته أبدًا بشكل من الأشكال. أمّا التفكير دائمًا في المستقبل فيُفْقِد المرأَ التمتعَ بالحاضر، ويحرمه إدراكَ الخير الحاضر، ويُسَلِّط عليه الهاجسَ القادمَ الدائم، والهمَّ اللازمَ القائمَ، والاهتمام بالآتي الغائب، وشبَحِه المخوف وهجومِه المُفَاجِئ، ويقطع صلتَه بما فيه من الحال الهنيء الغنيّ بآلات السعادة، وأدوات القناعة، ودواعي النشاط والعمل.

       المبالغةُ في الاهتمام بالمستقبل محاولةٌ لاستباق الأحداث، وجني الثمرة قبل نضجها، بل قطفها قبل كون الشجرة صالحةً للإثمار، إنها حرث لغير زرع، وبناء على الماء، وتجديفٌ للسفينة على اليبس، واستجرارٌ للغيب دونما فائدة. إنّ ذلك تفاعلٌ مع الأوهام، وتلاعبٌ بالأحلام، واكتنازٌ للرِّياح، واعتمادٌ على الأساطير، وطريقٌ لايسلكه إلا العابثون، وهزلٌ أَجْوَفُ لاجِدٌّ مِلْؤُه كلُّ النفع .

       وقد ركّر الكتابُ والسنّة على قصر الأمل، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: “إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك” (رواه البخاري، رقم الحديث 200، والترمذي، رقم الحديث 2334).

       الشقاءُ مُوَكَّلٌ بالاهتمام الزائد بما يأتي، دون عمارة الحاضر بما يجب من العمل والاجتهاد والخير الذي يُثمر حالاً ومستقبلاً. اغتنامُ الحاضر واستثمارُه جيِّدًا وبناؤه شامخًا هو الحظّ العاجل، والنصيب الوافر الذي يحظى به كلُّ من يُوَفَّق لإدراك قيمته واستشعار أهميته .

       الحاضر حقيقة فاغتنمه، والمستقبل وهم فاجتنبه، ولاتمدّ آمالَك أكثرَ من أعمالك، فتسيطر هي – الآمال – عليك وعليها – الأعمال – فتخسر الحقيقةَ، وتُمسك بالوهم، فتكون لا رصيدَ لك من السعادة .

       السعادةُ لكل من يحتضنها، والشقاءُ لكل من يتصوّره ويتبنّاه؛ فكن من السُعَدَاء ولا تكن من الأشقياء؛ لأنّ المَعْنَيَيْن من صنع يد الإنسان. إذا كان تفكيره إيجابيًّا؛ فهو سعيدٌ، وإذا كان تفكيره سلبيًّا فهو شقيٌّ، وليسا مفروضين عليه من قبل غيره .

أبو أسامة نور

( تحريرًا في الساعة 12 من صباح يوم الأحد: 6/ ربيع الأول 1431هـ الموافق 21/ فبراير 2010م ) .

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس – مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34

Related Posts