الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
يجب أن لايقوم بالوعظ من هو ليس من العلماء؛ لأن ذلك يُؤَدِّي إلى مَفَاسِد كثيرة. منها: أنّه مخالفةٌ لما جاء في الحديث الشريف. وذلك أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بأن يُؤْكَل كُلُّ أمر إلى من هو أهله، وقال:
“إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانْتَظِرِ الساعةَ”. (صحيح البخاري، كتاب العلم، الباب الثاني، رقم الحديث 59).
فكأنّ توكيل الأمر وإسنادَه إلى غير أهله بلغ من الفظاعة هذا المكانَ الذي حصولُه مُرَشِّح لقيام الساعة. وقد ثبت وتأكّد في مكانه أنّ الأمر الخياريّ الذي هو من أمارات الساعة ارتكابُه معصيةٌ كبيرةُ الشناعة، مما يُؤَكِّد أنّ غيرَ العَالِم ليس أهلاً للوعظ . إنَّ هذا المنصبَ إنّما هو مُخَصَّص للعُلَماء المُؤَهَّلِين، فينبغي أن لا يُسْمَح بذلك للجُهَّال .
ومنها – المفاسد – أنّ الجاهل لكونه لايعلم ، يحصل منه في قضيّة من القضايا خطأٌ لا يَنْتَبِه له، وإن كان بعضُ الجُهّال من الواعظين يحتاطون كثيرًا؛ ولكنه من الواضح أنّهم لن يحتاطوا إلاّ حسبَ مبلغهم من العلم، ولن يقدروا على الاحتياط فوق هذا المبلغ، وبما أنهم لايتمتّعون بالعلم الكافي فاحتمالُ الخطأ قائم.
مَفَاسِدُ الجُهّال من الواعظين
على أنّ هذا الواعظ الجاهل إذا يقوم بالوعظ، فإن الناس يروحون يستفتونه في كثير من المسائل باعتبارهم إيّاه عالمًا، ولايكون من كبر النفس أن يُصَرِّح بأنّه جاهل لايعلم من الدين ما يُؤَهِّله لهذا المنصب؛ لأن الناس لايكونون كبارَ النفوس في هذه الأيّام. فهو لايمتنع عن أن يُصْدِر فتوى ويُقَدِّم إجابةً على السؤال المؤجَّه إليه مبنيًّا على رأيه وتحرّيه، وستكون إجابتهُ خطأً في الأغلب، ولو أَبْهَم الجوابَ تجنيبًا نفسَه عن الإجابة الخاطئة، لكان هناك احتمال لتورط الجمهور في خطأ. فهناك من الجَهَلَة مَنْ يبلغ مِنَ الحزم أنه يجيبُ عن المسئلة التي يجهلها بشكل لايشفي السائل، ولايدلّ على جهله هو.
كان في “كنكوه” – بلدة في مديرية “سهارنبور” بولاية “يوبي” – جاهل يُفْتِي في المسائل، سَأَلَه الشيخُ رشيد أحمد الكنكوهي – عالم كبير ومحدّث وفقيه – عندما كان حديث السنّ: هل يجوز أم لا يجوز زواجُ امرأةٍ حامل لا بعلَ لها؟ فأجاب: زواجُها كإقامة حصار حولها. فهذا الجوابُ المبهم، لم يشف السائلَ؛ حيث لم يَعْرِف هل يجوز أم لايجوز زواجُها؟ ولم يَشِفَّ عن كونه جاهلاً. وأمثالُ هذه الإجابات المبهمة، لايتبيّنها الجمهور، وإنما يَتَعَرَّضُون للأخطاء.
قد يجوز أن يقول واعظٌ جاهلٌ: إنه سيُفْتِي مستقبلاً بالنظر في كتاب في المسائل بالأرديّة ؛ لأن المسائل قد دُوِّنَت في هذا العصر باللغة الأرديّة أيضًا. فأقول: إنّ بعضَ المسائل تتعلق ببابين مختلفين، أحدهما يقتضي الإطلاق، وثانيهما يقتضي التقييــد ، والقيــود والشـــروط قد تكون من الصعوبـــة والتعقيــد بمكان لاينتبه له العلماء العاديّون فضلاً عن الجُهَّال ، فالعلماءُ العاديّــون قد يُضَيِّقـون على الناس بعلمهم الناقص؛ فهناك علماء غيــرُ بصيـــرين يقــولـــون في مواعظهم: إنّ الله ضَمِنَ رزقَ العباد ، رغم ذلك عـــاد المسلمون لايثقـون ، يخافـــون: أنهم قد لاينالون رزقَهم. وذلك موضوع عامّ يتعرّضون له، وهم يحكمون بذلك على المسلمين بضعف الإيمان، ويقولون: لو أنّ أحدًا دعا مسلمًا إلى مأدبة، يثق به الثقة كلَّها، ولا يهمّه أمرُ الرزق في الوقت الذي دعاه فيـه إلى المأدبة، وإنما يأمن أن رزقــه مضمون؛ ولكنــه لايثق بوعد الله؛ ولكن هؤلاء العلماء غيــر المتعمقين يجب أن يعلموا أنّ ذلك ليس ضعفَ الإيمان، وإنما هو ضعف الطبيعة.
بين الضعف الإيماني والضعف الطبيعيّ
وهناك فرق بين الضعف في الإيمان والضعف في الطبيعة؛ فليس هناك مسلم لايثق بوعد الله. أمّا المثال الذي يُقَدَّم بهذه المناسبة للإيضاح، هو مثالٌ خاطئ؛ لأنّ قياس وعد الله بوعد الخلق لايصحّ؛ لأن الشخص الذي يعد بإقامة المأدبة يحيطه علمًا بالموعد، مما يجعل المدعو يتأكّد أنّ رزقه مكفول تمامًا لوقت كذا. ولو كان الوعد الإلهيّ هكذا مُفَصَّلاً مُقَيَّدًا بالوقت لكان المسلمون ليثقوا به أكثر من الثقة بوعد الخلق؛ ولكن الوعدَ الإلهيَّ لم يرد بأنّه سيهب الرزق للوقتين مثلاً، أو لم يقل للعباد خُذوا الرزقَ لهذا الوقت، ثم سنهبكم الرزق ولا يكون هناك إخلال بوصـول الرزق، وإنما وَعَدَ الله وعدًا مبهمًا بأنه سيرزق، ولم يخبر بالكمّ والكيف، فيجوز أن يصل الرّزق بعد الغد ولا يصل غدًا بعد اليــوم؛ فوعـدُ الله مبهم. أمّا الداعي إلى مأدبة، فحَدَّد وقتَها؛ فالتردّدُ الحاصلُ من العبد في شأن الرزق الإلهيّ ليس ناشئًا من ضعف الإيمان وإنما هو راجعٌ إلى ضعف الطبيعة . ولو كان الوعدُ من الداعي أيضًا مبهمًا مُغْفَلاً عن الوقت والكمّ، لكان باعثًا على التردّد بشكل أكثر من الوعد الإلهي؛ فما أظلمَ الواعظَ الذي اتَّهَم المسلمين بضعف الإيمان، على حين أنّ الضعفَ المشار إليه إنما هو ضعفٌ طبيعيٌّ، وليس الضعفَ الإيمانيَّ.
مسئلة شراء الذهب والفضّة
وكذلك أمرت الشريعةُ بعدم التفاضل في البيع والشراء لدى اتّحاد الجنسين، مثلاً شراء الفضة بالفضة، أو الذهب بالذهب، يجب أن يكون بالتساوي، ويحرم فيهما التفاضل؛ فالجاهلُ عندما يطّلع على المسألة يعرضها كما تبدو. وقد يجوز في وقت ما أن لا تعادلُ قيمةُ الذهب قيمةَ الروبيَّات بل تكون الفضةُ عشرة جرامات منها بـ 10 آنات من الروبيّة(1) فإذًا تُشْتَرَىٰ الفضّه أكثر قدرًا من زنة الروبية. والجاهلون من الوُعَّاظ لايعلمون إلاّ أنّ التفاضلَ لايجوز عند اتّحاد الجنسين؛ فهم إمّا لايشترون الفضةَ إلاّ مساويةً للروبية، وإذن يُسَفِّهُهُم الأهلون، أو يُرْغِمون الآخرين من المسلمين أن لايشتروا الفضة إلاّ مساويةً للروبيّة، وفي كلتا الحالتين يتّهمون الشريعة، ويقولون: ما أعجبَ المسألةَ: أنّ شيئًا مَا قد يمكن أن يُشْتَرَىٰ بالروبيّة أكثرَ منها، ورغمَ ذلك إن الشريعة تقول: أن لايُوْزَن إلاّ مساويًا للروبيّة؟!.
فهذه المَفْسَدة إنّما جاءت نابعةً من الجهل. إن العارف بالشريعة جيّدًا، عندما يبيّن هذه المسألةَ، يُصَرِّح بأنه عندما يمكن أن تُشْتَرَىٰ الفضةُ بروبيّة، أكثر قدرًا منها، فلا تشتروها بالروبيّة، بل اصرفوها – الروبيّة – بيساتٍ، واشتروها – الفضةَ – بها – البيسات – لأن البيسات مشتملة على الفضة وغير الفضّة من المعادن ، فالفضةُ تأتي مقابلَ الفضة الموجودة في البيسات، والقدرُ الزائد من الفضة يأتي مقابلَ معدنٍ آخر يوجد فيها – البيسات – واختلف جنسا البيسات والفضة، فجاز التفاضلُ.(2) فذلك كان مثالاً للتضييق الذي يُسَبِّبُه الجَهَلَةُ من الواعظين للجمهور.
مسألة الطلاق
والآن أعرض عليكم مسألة الطلاق، ومثالَ التقييد الذي أشرتُ إليه من قبلُ: هو ما يتعلق بباب الكنايات الذي عدّ فيه الفقهاء كلمة “اِخْتَارِي” من كنايات التطليق، وذكروها في “باب كنايات الطلاق” وصَرَّحوا أن حكمها أن الطلاق إنما يقع بها بشرط نيّة المُطَلِّق، وظاهرُ هذا الحكم يدلّ على أن الطلاق سيقع بمُجَرَّدِ نيّة المُطَلِّق، على حين إنّ كلمة “اختاري” وقوعُ الطلاق بها مشروطٌ بشرط آخر، مذكور في “باب التفويض” وهو: أنّ “اختاري” لا تُوْقِع الطلاقَ بمجرد نيّة المُطَلِّق المُتَلَفِّظ بها، وإنما تُوقِعُه إذا اختارت المرأةُ الطلاقَ في المجلس نفسه الذي جرى التلفّظُ بها فيه. وشرطُ اختيارها للطلاق لم يذكره الفقها في “باب الكنايات” وإنما ذكروه في “باب التفويض”؛ فلو بَيَّنَ أحدٌ حكم “اختاري” بمجرد نظرها في “باب الكنايات” لأخطأ بالتأكيد، وأفتى بوقوع الطلاق بمجرد نيّة الزوج لإيقاع الطلاق عليها بالكلمة، وقد علمتَ أن ذلك خَطَأٌ أَيُّ خَطَأ. وذلك ما قد أخطأ فيه حتى العلماءُ؛ فقد أشار العلاّمة الشاميُّ إلى خطأ فقيه؛ حيث كان قد أخطأ في الإفتاء في هذه المسألة.
الفرقُ بين المُطْلَق والمُقَيَّد
وكذلك قد يَحْصُل أنّ مسألةً ما تكون مُطْلَقَة في كتاب، ومُقَيَّدَة في كتاب، ولذلك يجب على المفتي أن لايُفْتِي في مسائل الفقه بمُجَرَّدِ النظر في كتاب، وأن يُفْتِي بعد دراسة عدد من الكتب. والحاصلُ أن فنّ الفقه دقيقٌ للغاية، ومن المُؤَكَّد أن يخطئ فيه الجَهَلَةُ من الوُعَّاظ. والأسلوبُ السهلُ لامتحانهم، أن يُجْلَس في مجلس وعظهم علماءُ في مكان مُخْتَفٍ عليهم ثلاث أو أربع مرات. وإنما قَيَّدْتُ إجلاسَهم بـ”ثلاث أو أربع مرات” لأنه يجوز أن لايصدر منهم خطأ في المرة الواحدة ؛ ولكنه يصعب عليهم أن لايُخطِئوا أبدًا، وبعد هذه المرات إذا سألتَهم – العلماء – عن مدى أخطائهم، لعلمتَ حقيقتَهم .
ولذلك أُوْصِي بأنّ هذه المهمة لاينبغي إسنادُها إلى الجُهَّال وغير المُؤَهَّلين. إنّي لا أدّعي أنّ العالم لايخطئ ولايمكن أن يصدر منهم خَطَأٌ. إنّه أيضًا بشرٌ؛ فصدورُ الخطأ منه ممكن ومُحْتَمَل؛ لكن خطأه سيكون قليلاً وضئيلاً، ولايكون شديدًا وكثيرًا، أي أنه مثلاً إذا ألقى المواعظَ مائةَ مرة، فربما لايخطئ إلاّ مرة ونادرًا. أما الجاهلُ فتكثر الأخطاءُ في مواعظه، ثم العالم قد ينتبه لخطئه في وقتٍ لاحقٍ، وقد يُصْلِحه في مجلس لاحق. أما الجاهلُ فلا ينتبه لأخطائه، وذلك يكون منه ضِغْثًا على إِبَّالَة .
أيّها السادة! إنكم ما جَرَّبتم ؛ ولكنّي قد جرّبتُ؛ ولذلك أقول: إن غير المُؤَهَّل يجب أن لايُسْمَح بالوعظ والخطابة، والله إنّ الجهل يُؤَدِّي إلى مفاسد كثيرة خطيرة .
إن شخصًا قد ضَحَّى في مدينة “كانبور” Kanpur بشاة لم يكن أيّ عضو من أعضائها بريئًا من العيوب، وقد قالوا له: لايجوز التضحية بها، فقال: إن زوجتي المحترمة قد أفتت بأن التضحية بها تجوز. وقد كانت زوجته قرأت ترجمةً أرديةً لكتاب “شرح الوقاية” فذهب إليها وقال لها: إنّ الناس يُخَطِّئُون فتواك، فَحَدَّدتِ الموضعَ المذكورة فيه هذه المسألةُ من ترجمة “شرح الوقاية” وأرسلتِ الكتابَ إلى الخارج حيث الناس، وقالت: اقرأوا هذا المَوْضِعَ، فقد جاء فيه: إذا كان ثلثُ العضو مقطوعًا، جازت التضحية، وهذه الشاة، أي عضو من أعضائها مقطوع أقلَّ من الثلث وليس مقطوعًا أكثر منه ، وإن كانت الأجزاء المقطوعة كثيرة بالجملة. فما أَكْبَرَ هذه الحماقةَ ! إن امرأةً صارت مفتية بمُجَرَّدِ قراءة ترجمةٍ أرديّةٍ لشرح الوقاية !!.
* * *
(1) كانت روبية واحدة 16 آنةً في العهد الإنجليزي وفيما قبل نحو 30 سنة منذ اليوم أيضًا؛ فكل آنة جزء سادس عشر من روبية واحدة، والآنةُ أربع بيسات، فالروبيةُ 64 بيسةً. أما الآن في عام 1431هـ = 2010م فالروبية 100 بيسةً (المترجم) .
(2) كانت الروبيّة في عهد الشيخ التهانوي رحمه الله عملةً فضيَّة، ولم تكن ورقيّة كما هي اليوم. أما البيسات – أجزاء الروبيّة – فكانت تكون مصنوعة من الفضّة ومن غير الفضة من المعادن (المترجم).
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الأول 1431 هـ = فبراير – مارس 2010م ، العدد : 3 ، السنة : 34