دراسات إسلامية
بقلم : الشيخ سلمان بن فهد العودة / المملكة العربية السعودية
مفردة العيش ومشتقاتها مادة مُسْتَخْدَمة في اللغة العربية، ومستبطنة فيها بوضوح، غير أن المفهوم المعاصر لكلمة (التعايش) بات ذا صخب وبدل شديد؛ جعل بعضَ المهتمين الإسلاميين يحسون بأن هذه الكلمة حُقنت بمفاهيم ذات ذلالات سلبية شائعة، تجعل الشريعة كلأً مباحاً .
وهناك تخوفٌ من أن هذا المفهوم قد يكون خلقه تذويب لأسس الإسلام، وتقديم أنصاف العقائد وخليط من الإسلام، وهذه دعاية مسيئة بحق للوجه الإيجابي لهذا المفهوم، ودعاية مسيئة بحق الإسلام، إضافةً إلى أن نسبته إلى الفكر الغربي الذي أشاعته بهذا الاسم أوجد شيئًا من التخوف المشروع بأن ترويجه الغربي تم بإرادة متنفذة؛ لتغييب القيم الإسلامية، وإدماج المشرق مع الغرب وذوبان هويته، وعلى تقديرنا لهذا التحفظ غير أن انتشار المفهوم بهذا الاسم (التعايش) في أدبيات مختلفة لاينفي إطلاقًا أساس المعنى المحفوظ والمعترف به والمقدم في النصوص الإسلامية.
إنه لا ينبغي التحفظ من هذا المصطلح أو غيره لكونه محقوناً أو مشحونًا؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح – كما قيل – ، يفترض أن يكون التعامل معه بهدوء وواقعية؛ برده إن كان خطأً، وفرزه إن كان قابلاً، وهذا ما يدعونا إليه الدين الإسلامي وقواعده، ذلك أن الكلمة الحكمة ضَالَّة المؤمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَها فَهُوَ أَحَقُّ بهَا، رواه الترمذي، وقال: غريب .
إن المفهوم السلبي للتعايش بمعنى التنازل عن العقيدة أو تقديم نصف عقيدة أو بعض دين مرفوض تحت أي مسمى جاء به، ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتـٰـبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ البقرة: من الآية 85، بيد أن المفهوم الإيجابي له بالتوصل إلى مستويات أخلاقية في الحوار والاتفاق على أسس العيش والتصالح، وتقدير الاختلاف، والاعتراف به، والاعتراف بالتعددية؛ أمر جاءت به الشريعة الإسلامية، ومن الجدير بالتنبيه عليه أن القرآن الكريم جاء بمصطلحات ربما تكون أوسع معنىً، وأشمل تعاملاً من مصطلح التعايش، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْنـٰـكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ الحجرات: من الآية 13 ، فلفظ (التعارف) ليس مقصورًا على الاسم والقبيلة، إنما هو خطاب للبشرية بالمعنى الواسع في تبادل المعارف والعلوم والمحاسن والفضائل .
ويقول تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ المائدة: من الآية2، فالتعاون على الخير المصلحة مفهوم شرعي ناصع، متفق عليه، سواء مع الموافق أو المخالف؛ لأنه تعاون على معنى صحيح، وهو البر والتقوى، وليس الإثم والعدوان، وذلك المفهوم (التعاوني) و(التعارفي) في غاية التبشير للناس، وتقديم أفضل القيم التي ترفع بني الإنسان، وتقربهم من هداية الله بدينه العظيم (الإسلام).
ومن المقرر أن أوضاع البشرية وأحداثها وقانون الاختلاف هي بإذن الله القدري الكوني، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أشْرَكُوا [،] وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ هود: 118-119، وذلك الاعتراف بالاختلاف والتعدد يحمل في داخله معرفةً ضروريةً بوجود الشر والخطأ و.. الخ المجافية لقيم الفضيلة والأخلاق والتقوى، وليس معنى التعايش قبول هذه الأوضاع السيئة وتبريرها بطريقة منطقية، ولا إبطال قانون المقاومة، والدفع بالّتي هي أحسن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فهذه قيم شرعية ثابتة، لا مزايدة عليها.
إن معنى التعايش هو قبول التصالح الدنيوي والوجود والجوار في الاتفاق على جملة من الأخلاق الإنسانية التي تتيح فرصةً لتبادل الحوار والإقناع .
والمؤمن مُصلح آمرٌ بالمعروف والخير، ناهٍ عن المنكر والشر، حريص قدر المستطاع على دفع الباطل بالحق والجهل بالعلم.. عارف بمواقعه، معتدل في رؤيته للإصلاح، فالرؤية المثالية التي يحمل بعضنا الناس عليها هي بمثابة حملهم على جبل وغر، والناس فيهم الضعيف والكبير وذو الحاجة والمختلف والمتفق؛ ممن قد لا يتحملون ذلك.
ولمَّا حَاصَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الطَّائفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا قال: (إِنَّا قَافِلُون إنْ شَاءَ اللهُ). فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ – يعني الصحابة – وَقَالُوا نَذْهَبُ وَلاَ نَفْتَحُهُ!
فَقَالَ: (اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ)، فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ.
فَقَال: (إِنَّا قَافِلُون غَدَا إِنْ شَاءَ اللهُ).
فأعْجَبَهُمْ، فَضَحِكَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم.
ومن الافتئات على مقاصد الشريعة ودعوة الإسلام أن تصطفى مجموعة نفسها تحت أي مسمي، تحتكر الصواب، والرؤية الصائبة المطلقة، وتعتبر الخارج عن سلطتها مفتونًا حلال الدم أحيانًا، معلنةً عن بيعة ملزمةً عندها هي مفرق الحق من الباطل بين الناس، وهذا أنموذج هو في نفسه فتنة، ولا عهد لنا به في الشريعة الإسلامية التي حقنت دماء من لا يؤمنون بها أصلاً، من يهود ونصارى وغيرهم، بموجب عقد واتفاق على مر عصور التاريخ .
إن النموذج العظيم للتعايش هو أنموذج المدينة المنورة، عاصمة الإسلام، وحامية بيضته وحوزنه، ومنطلق دعوة آخر الأنبياء – صلى الله عليه وسلم – ففي مرحلتها الأخيرة وفترة التمكين شاء الله ألا تكون المدينة للصحابة والسابقين أولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل شاء أن يشاركهم فيها اليهود والوثنيون والمنافقون وضعفاء الإيمان، جنبًا إلى جنب، بل وشاء الله أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، كما في الصحيحين، في إشارة إلى أن هذا المعنى محكم ثابت، لا يمكن نسخه أو العبث فيه، إن التعايش هو نوع من التعاون والتعارف في المشترك الحضاري والإنساني، وتبادل الخبرات التي تعين الإنسان على الاعتراف بها، وذلك كله نوع من فتح المجال لنشر الإسلام ودعوته، وذلك كله لايعني الدعوة لأفكار المختلف أو شرعيته دينيا، بل القبول في التعايش الدنيوي لفتح الحوار دينيًا ودنيويًا .
والصحابة – رضي الله عنهم – أدركوا أنهم أصحاب ديانة تختلف جوهريًا عن الديانات الأخرى، فالفارق عميق وأصيل وراسخ في العقيدة والإيمان والكتـٰـب والعبادة.. لكن تمت معنى مشترك، ومصلحة دنيوية جامعة أحيانًا ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُوْنِ اللهِ فإِن تَوَلَّوْا فَقُوْلُوْا اشْهَدُواْ بأَنَّا مُسْلِمُوْنَ﴾.
والرسل هم أعظم الخلق إيمانًا، ومع ذلك عايشوا قومهم رغم الكفر المطلق والإيمان المطلق، فنوح – عليه السلام – مكث ألف سنة إلا خمسين عامًا في قومه، يقول الله جل وعلا: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ نوح: 5-10، فهو يدعوهم، ويجادلهم بالّتي هي أحسن، وبالحوار الهادئ الموضوعي الذي من خلاله يصل الحق إلى أصحاب العقول السليمة، وهذا جزء من التعايش .
إن التعايش لا يعني ترك رأيك الخاص الفردي، فضلاً عن عقيدتك ودينك، فالرأي الذاتي هو جزء من شخصية المرء، ولا يملك أحد أن يطالب الآخرين بتغييره أو مخالفته، إلا أنه يبقى في النهاية مجرد رأي شخصي، والمطلوب هو التخلي عن التعصب المحتقن، والانفعال الجاري في غير قناته، وإجلال الحوار والدعوة بالّتي هي أحسن محله؛ فالتعايش ترك التعصب للرأي والإكراه فيه، لا ترك الرأي نفسه أو المساومة عليه، وبين هذا وذاك بون عظيم .
إن من الملاحظ أن التعايش غدا بعيداً عن واقع بعض القطاعات الإسلامية ليس مع الديانات الأخرى؛ بل مع أبناء الملة الواحدة، بين المذاهب الفقهية، والجماعات الإسلامية، والدول، بل بين القبائل العربية أحيانًا، في حالة من العنف والعدوانية يطير معها شاهد اللب ويغيب، وهو يتساءل من أين جاءنا هذا المأزق؟!
إِلامَ الخُلِـفُ بَينَكُـمُ إِلا مـا
وَهَدْي الضَجَّةُ الكُبرى علامـا
وَفيمَ يكيـدُ بعضُكُمْ لِبَعـضٍ
وَتُبدونَ العَـداوَةَ وَالخصامـا
الكير يظنون، أن طرح موضوع التعايش لايكون إلا في حالات الضعف والتمزق والتشرذم فقط، والشواهد تنادي على أن التعايش يكون أرسخ أسسًا وأعمق جذورًا في زمن القوة والقدرة، فالقادر على صناعة التعايش والسلم هو القادر على صناعة حرب وقتال، ومن لايصنع حربًا لايصنع سلامًا، بينما يعاني مفهوم التعايش من الانهيار والانتهاك في أزمنة الضعف والشتات.
إن القوة في تحمل الناس بآرائهم وخلافاتهم، والسيطرة على دوافع النفس وشهواتها ونزغاتها، وكبح جماحها، وليس في فرض الرأي بالقوة يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – : (لَيْسَ الشَّدِيْدُ بالصُّرعَة، إِنَّما الشَّدِيْدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ).
وعندما فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – القدس امتنع أن يصلي داخل الكنيسة – وهو القوي المنتصر – وقال، وهو المحدث الملهم: أخشى أن يتّخذها المسلمون بعدي سنةً، فيصلون فيها، فيضايقون أهلها، ويقولون: هنا صلّى عمر، فصلى عمر رضي الله عنه خارجها، وأعطى المسيحيين الأمان على حياتهم، وحقن دماءهم .
وفي حين قتل الزعيم النصراني (ريتشارد) أكثر من ألفين وسبعمائة أسير مسلم في لحظة واحدة وصلبهم خارج أسوار مدينة “عكا” لتأخر ما اتفق عليه مع المسلمين، يقوم صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – بحقن دماء أهل القدس جميعًا مسيحيين ويهود – وهو القادر على النكاية – عاقدًا صلحه الشهير باسم (صلح الرملة) في 22 من شعبان 588هـ 2 من سبتمبر 1192م، في أعظم صور التعايش في زمنه .
إن التاريخ الإسلامي هو تاريخ القوة والانتصار، وهو نفسه تأريخ التعايش وضبط العهد والميثاق، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا أَوْفُوْا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة:(، يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله – في تفسيره عند هذه الآية: هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود: أي بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقصها.. وقال: وهذا شامل للعقود، التي بين العبد وربه من التزام عبوديته، والقيام بها أتم قيام، وعدم الإنقاص من حقوقها شيئًا، والتي بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم ووصلهم، وعدم قطيعتهم، والتي بينه وبين أصحابه (المتقين) من القيام بحقوق الصحبة في الغني والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق..
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَوْفُوْا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤْولاً﴾ (الإسراء: 34)، وفي الصحيح (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّة، وإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيْرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)، بل في البخاري ومسلم أن النَّيَ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِه جَنَازَةٌ؛ فَقَامَ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِي!. فَقَالَ: (أَلَيْسَتْ نَفْسًا).
وهذا ابن تيمية رحمه الله، يخاطب سرجوان ملك قبرص في رسالته المشهورة بقول: بلغني ما عند الملك من الديانة والفضل ومحبة العلم وطلب المذاكرة ورأيت الشيخ أبا العباس المقدسي شاكرًا من الملك: من رفقه ولطفه وإقباله عليه، وشاكرًا من القسيسين ونحوهم. ونحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة.
ولم يرض ابن تيمية بفكاك أسرى المسلمين وحدهم، بل طالب التتار بفكاك أسرى اليهود والنصارى قائلاً: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا فإنا نَفْتَكهُم ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة.. وكذلك السبي الذي بأيدينا من النصارى يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا بهم؛ كما أوصانا خاتم المرسلين .
إن الهزيمة النفسية أحيانًا تجعل بعض الناس يشعرون أن هذا اللون من الحديث يفضي إلى تبرير الانهزام والرضا به، والبعض الآخر يطرحون صورةً مثاليةً لا واقع لها عن التعايش، وتحرير مدلول التعايش وفهمه كاف في رفع الالتباس .
إن نجاح التعايش مرهون بصوت العقلاء الذين يقومون لغة الحوار الهادئ، الهادف الذي يحقق المنشود، ويصل لهدفه بيسر وسهولة، كما أن إخفاقه مرهون بصوت الحمقى الذين لايعرفون إلا مصالحهم فقط، حين يعتمدون لغة القوة والعنف بشكل كبير في إداراتهم ومطابخ قراراتهم، ومن هنا شن صناع الحروب وعرابوها حربًا، ليس على العالم العربي والإسلامي فقط، بل على كل من ليس معهم أو مع إدارتهم؛ مما قطع كل طريق أمام الاعتدال والفهم الإنساني المشترك والمصالح الاقتصادية والأخلاقيـة الإنسانيــة، والتي هي محل اتفاق عند العقـلاء جميعًا؛ لكن القــادة العسكـــرييــن لا يفكرون إلا بطريقة عسكرية، مما جعل الحوار يصل إلى طريق مغلق مسدود.
إن الدين لم ينزل – كما يظنه البعض – لتاجيج الصراع بين الناس، بل لضبط العلاقة وتنظيمها وعمارة الأرض، يقول الله جل وعلا: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: من الآية 61)، ولهذا لما خلق الله آدم؛ خلقه من أجل عمارة الأرض، والسعي فيها، والضرب فيها؛ قالت الملائكة لربها تبارك وتعالى: ﴿اَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يَّفْسُدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ (البقرة: من الآية 30)؛ فعلموا أن الفساد في الأرض، وسفك الدماء مما يكرهه الله عز وجل، فندرك من هذا أن الله لم يخلق البشر ولم ينزل الكتب لأجل أن يحتربوا ويتنازعوا، إن مما يلزم مراعاته فقه تحقيق المصلحة ودرأ المفسدة، ذلك أن مصلحة التعايش ظاهرة وميسرة، ونفعها جلي .
وفي السيرة والفقه أبواب كثيرة، كلها ينبغي استعمالها، وتوظيفها حال احتياحها.
فهناك: أبواب للهدنة، وأبواب للصلح، وأبواب للموادعة، وأبواب للعهد، وأبواب لغير ذلك مما ينبغي على الإنسان أن يتأمل ما يكون مناسبًا منه للحال والمقام.
إن الناس جميعًا يحتاجون في كثير من الأحيان إلى أن يتعايشوا فيما بينهم بهدوء وموادعة ومتاركة، بعيدًا عن إدارة الحرب والصراع، والانشغال عن الأولويات بما هو دونها.
إن استمالة القلوب، واستقطاب العقول للتعرف على هذا الدين والدخول فيه لايمكن من دون استعمال الصبر، والرفق واللين والمداراة، واحتمال الأذى، ومقابلة الإساءة بالإحسان، كما أمر الله – تبارك وتعالى – في ذلك في غير ما موضع من كتابه، يقول سبحانه: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيّ حَمِيْمٌ﴾ (فصلت:34)، وبهذا استمال النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أعدائه، وعالج قسوتها وشماسها ونفارها، حتى لانت، واستقادت، وقبلت الحق.
إن الكلمة الطيبة الحانية، والابتسامة الصادقة الصافية، والإحسان إلى الآخرين بالقول والفعل؛ من أسباب زوالِ العداوة وتقارب القلوب، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِيْنَ صَبَرُوْا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظيم﴾ (فصلت:35).
إن التعايش هو حقن الدماء البريئة، وفتح مجال للحوار والجدال بالتي هي أحسن، وهو تقديم مشروع يحمي الكلمة الإسلامية، ويزودها بالعقل والحجة والمنطق التي يمتلئ بها كتاب الله وشرعه، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَاب تَعَالَوْا إِلَى كَلمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم﴾ (آل عمران: منَ الآية).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الأول 1431 هـ = فبراير – مارس 2010م ، العدد : 3 ، السنة : 34