إشراقة
فَاجَاءَني رجلٌ كهلٌ في نحو الستين بعد صلاة العصر من يوم الأربعاء: 20/ شعبان 1430هـ الموافق 12/ أغسطس 2009م دونما أخذ موعد مسبق مني، مُسَلِّمًا عليّ وجالسًا إليَّ على كرسيّ بجنبي، ومُعَرِّفًا نفسَه إليَّ: أنا اسمي “جان محمد” – وفي الأوراق محمد جان – من قرية “سِرْسِي” (Sirsi) بمديرية “سيتامرهي” (Sitamarhi)– “مظفربور” (Muzaffarpur) سابقًا – تجاور بلدة “نانبور” (Nanpur). أصابني نوعٌ من الاستياء لدخوله عليّ دونما موعد، ولاسيّما لأني كنتُ مُتَحَدِّثًا إلى ضيف مكرم جاء يزورني على موعد منّي، وكان في حديث معي حول قضيّة كانت تهمّه؛ ولكنّه تَزَلَّفَ إليّ بلباقته في الحديث واللقاء، ومعتذرًا إليّ بأنه دخل عليّ دونما موعد؛ لأنه جاء يزور دارالعلوم/ ديوبند منذ يومين، واليوم مرتحل إلى مقرّه العملي؛ لأنه قد انتهت أيام الإجازة التي كان قد أخذها من إدارة كليته الكائنة بـ”تاتانكر – جمشيد بور” بولاية “جهاركند” التي انفصلت منذ أعوام من ولاية “بيهار” حيث يعمل أستاذًا للأدب الأردي. وأضاف: إنه عالم ديني تخرج في علوم الشريعة من مدرسة “مفتاح العلوم” بمدينة “مئوناث بهنجن” بولاية “أترابراديش” ثم التحق بالجامعة الهندوسيّة بمدينة “بنارس” – “وارانسي” حاليًّا – وحصل منها على شهادة الدكتوراه في معجم “ديوان” إقبال – الشاعر الإسلامي الكبير – ونيتُه مُتَّجِهَةٌ إلى إصداره عما قريب في أجزاء.
ونظرًا إلى لباقة الرجل في اختطاف الانتباه، وكسب الاهتمام، أنهيتُ حديثي مع الضيف عاجلاً، والتفتُّ إليه، وتَفَرَّغْتُ نفسيًّا لتبادل الحديث معه، وتَجَاذَبْنَا أطراف الحديث، وتَطَرَّقَ الحديثُ إلى أنه بعضَ الأحيان لاتحترم المدارسُ والجامعاتُ الإسلاميّة الأشخاصَ المُؤَهَّلِين والأساتذة والمنسوبين الأكفاء احترامَ المدارس والجامعات الرسميّة الحكوميّة لهم، ولاسيّما بالنسبة إلى تأمين المستقبل الاقتصادي المادّي؛ حيث قد يُمْضُوْنَ في الأولى أعمارَهم الثمينةَ؛ ولكنهم لدى طعنهم في السنّ أو إصابتهم بأعذار تُقْعِدُهم عن الخدمات المُسْنَدَة إليهم، تعودون وأيديهم صِفْرٌ لا درهمَ فيها ولادينارَ، كما أنهم خلال أداء الخدمات لاينالون إلاّ راتبًا ضئيلاً لايُسْمِن لايُغْنِي من جوع بالنسبة إلى حاجاتهم الكثيرة التي لابدّ من الوفاء بها كإنسان أرضيّ خُلِقَ من التراب ويعيش عليه، وليس هو كائنًا سماويًّا يعيش مع الملائكة الذين لايحتاجون إلى شيء.
وأضاف: إني أنال الآن 67 ألفًا من الروبيات شهريًّا، وأعلم أن أساتذتي في المدارس والجامعات الأهليّة لاينالون حتى اليوم ولا ثلثَ هذا المبلغ على أكثر تقدير، وسأُحَال يومًا إلى المعاش فستُقَدِّم الكلية إليّ إن شاء الله مليونين ونصف مليون أو ثلاثة ملايين من الروبيات دفعةً واحدة، إلى جانب ما ستُقَدِّم لي مدى الحياة شهريًّا من المبلغ الذي سيعادل نصفَ مُرَتَّبى الذي سيكون يوم تقاعدي عن الخدمة .
إلى جانب ذلك قد نجد في وسط المدارس والجامعات الرسمية من روح المواساة مالم نجده في أوساط المدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة ومَثَّلَ ذلك قائلاً: إنّ في كليتي أستاذةً هندوسيّةً اسمها “شيلاسهائي” (Sheela Sahay) وَلَدَتْ بنتين وابنًا، وكلهم مُثَقَّفُون ثقافةً عاليةً، وتزوّجوا، ولهم أولاد، وهم سكنوا “دهلي” و”ممباي” والأستاذة تعيش مُفْرَدَةً في شقتها الفارهة في المدينة التي فيها الكلية؛ لأن زوجها قد مات عنها أيضًا، وهي مصابة بداء السكري الشديد الذي أثـّر في دمائه كثيرًا، فهي تحتاج إلى تصفية دمائها من السكري من حين لآخر، وتلك عمليّة مُعَقَّدَة مُؤْلِمَةٌ تجتازها هي في مواعيدها، وإن ماتت ماتت وحيدةً في شقتها، لايعلم بموتها أحد إلاّ بعد حين؛ لأنّ الحضارة الغربيّة من “فضلها” أنّها لَقَّنَتْ عبيدَها أن “يتقدموا” كثيرًا، حتى يصيروا “حيوانات مادّيّةً” تفقد كلَّ ما لدى الإنسان من المشاعر والعواطف؛ فالاولادُ اليوم يتعلمون ويتقدمون ويتحوّلون حيوانات فاقدةً للمشاعر الآدميّة، فيغفلون عن ما عليهم من الحقوق نحو والديهم! فيعيشون في واد والوالدان في واد.
ولكنّ الكليّة: إدارتَها لا تزال تُعَامِلُها معاملةَ المواساة المتناهية؛ فهي لاتحيط الجامعةَ في “رانتشي” (Ranchi) التي هي تابعة لها، بدائها العضال: داء السكري، الذي أنهك قواها وجعلها مجموعة من العظام؛ لأنها تعلم أنّ صلتَها بالكلية كأستاذة هي مصدر عيشها وعلاجها الوحيد؛ فلو انقطعت، انقطعت حياتُها.
وهنا عَلَّق الرجل قائلاً: إنّ هذه المواساة الإنسانيّة قد لانجدها في أوساط المدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة، لأننا نعلم أنه لو وُجِدَ في المدرسين والأساتذة فيها من يبلغ في المرض مرضَ الأستاذة في الكليّة المذكورة، لاستاءت أولاً الإدارةُ، واستاء قبلها جميعُ من فيها – المدارس والجامعات – من الأساتذة والمنسوبين، ولاحقوه جميعًا، ولم يرتاحوا حتى يتمّ فصلُه عنها، وإيقافُ راتبه: حياته للأبد .
خلالَ حديثه الذي طال لحدّما، ولكنه كان شهيًّا لكونه لبقًا في الحديث والتعامل مع المُخَاطَب، ظلتُ مشدودَ الانتباه إليه، ولاسيّما لأنّ ما قاله كان حقًّا لحدّ كبير؛ لأنّ الحقَّ كله لم يكن معه – الرجل–؛ حيث إن المدارس والجامعات الأهليّة الإسلاميّة تتكفل تخريج علماء ودعاة دين، ولم تَدَّعِ يومًا أنّها تهدف إلى معالجة المشكلة الاقتصادية لخريجيها أو العاملين فيها، وإنما كان عمدتُها دائمًا على التوكّل والقناعة والكفاف، وظلّت تُلَقِّن أساتذتها والمنتمين إليها والمتخرجين فيها هذا الدرسَ الذي ينبع من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورث دينارًا ولادرهمًا؛ وإنّما وَرَّث العلم .
ولكن كان الحقّ معه أيضًا؛ لأنّ العلماء والدعاة وأساتذة المدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة والعاملين فيها مديرين ومسؤولين، وموظفين ومنسوبين، هم من جنس البشر، والكائن الأرضيّ الذي يأكل ويشرب، ويحتاج إلى تغطية حاجات بشريّة كثيرة متنوعة، لاتتم إلاّ عن طريق المال والدنانير والدراهم؛ فلابدّ لهم منها لتلبية الحاجات، والعيش على الأرض، وأداء ما كُلِّفُوا إيّاه من الدور كإنسان أُخْرِج للناس يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فلو أنّ المدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة التي مواردُها الماليّة مكفولة وتتلقّى من المساعدات والتبرعات ما يجعلها تُلَبِّي جميع ما يمسّها من حاجات وتحتاج إليه من خطط ومشاريع، لو أنّها توسّعت في شأن رواتب أساتذتها ومنسوبيها وكفالة حوائجهم، لكان خيرًا بالنسبة إلى الأهداف النبيلة والغايات السامية التي تتبنّاها وتتصدى لتحقيقها؛ ولكنها هي الأخرى لاتزال تجعل أيديها مغلولة إلى أعناقها بالنسبة إلى أي زيادة تُذْكَر في رواتب الأساتذة والمنسوبين، على حين أنها تبسط كلّ البسط فيما يتعلق بوضع مشاريع بنائيّة عملاقة قدلاتحتاج إليها كثيرًا، وتنفق عليها من المبالغ الطائلة ما لو انفقت بعضَه على المشاريع التعليمية والتربويّة عن صدق نيّة وإخلاص، لأتى بربح كبير، ولآتي أكلَه اليانع الكبير فيما يتّصل بتخريج علماء ودعاة أكفاء ومؤهلين في جميع المجالات التي تحتاج إليهم الأمّة احتياج السمك إلى الماء .
الحقُّ أنّ المدارس والجامعات الإسلامية الأهليّة الكبرى التي مصادرُها الماليّة مضمونة لحد كبير، هي الأخرى مُقَصِّرة غايةَ التقصير، ولا تنوي أن تكون على مستوى الشعور بالمسؤوليّة، وأن تهتمّ بوضع خطّ فاصل بين الكماليّات والضروريات، وتُعْنَىٰ بالضروريّات، وتؤجّل الكماليات، وتُعْمِل النيّةَ الصالحةَ لحدّ مطلوب، وتجري الخيار بين ما هو الضروريّ وما هو غير الضروريّ، وتَعمل بالأوّليّات قبل الثانويّات .
إنّ ذلك هو الواجب الأوّل الذي ينبغي أن تتقيّد به المدارسُ والجامعاتُ الإسلاميةُ الأهليّةُ التي أُسِّسَت للمرابطة على الثغر الإسلاميّ الواسع في هذه الديار، فلابدّ أن تحتسب أنّها جنديّة مندوبة من قبل الله، وأن تظلّ مستيقظة حتى لا يصدر منها في غفلة ما يخلّ بأداء المسؤوليّة، وتحقيق الوظيفة المشرفة التي أُسْنِدَت إليها.
إنّي أعتقد أنّها كثيرًا ما تصاب بهذه الغفلة المخلّة بأداء المسؤولية؛ فلا تتمكن من القيام بوظيفتها على مايرام، وإن ظنّت أنّها تقوم بها على أحسن ما ينبغي. وذلك مزلق خطير: أن يشعر الإنسان أنه على حقّ، وهو على باطل، أو يحسب أنه يُحْسِن صُنْعًا وهو يسيئه، أو يظنّ أنه على كل الحقّ وهو في الواقع على بعض الحقّ الذي لايضمن النجاحَ.
الأعمال الإنسانيّة تحتاج إلى المُحَاسَبَة من حين لآخر، كالتاجر يحاسب أعمالَه التجاريّة ويتفقّدها في مواعيد محدودة، ليكسب مزيدًا من الأرباح مُتَجَنِّبًا الخسارات، والأخطاء التي تؤدّي إليها. والأعمالُ ذاتُ الخطوات الطويلة والمسارات البعيدة أحوج ما تكون إلى التفقّد والمحاسبة؛ لأن طولَ الطريق وكثرة المشي عليها ربّما يُحْدِثَان من الخَلَل ما لايشعر به الماشي إلاّ إذا استعرض رجليه أو المراكب التي يسير عليها.
إني أظنّ أن مدارسنا وجامعاتنا الإسلاميّة الأهليّة، كثيرًا ما تُتَابِع خطاها دون رؤية للأعطال التي أصابت مطاياها والأخلال التي حدثت في مُحَرِّكها المركزي، ظنًّا منها أنها – المطايا والمحرك – لا تقبل الأخلالَ والأعطالَ، كالأشياء الطبيعيّة التي صنعتها القدرة الإلهيّة، والتي تسير دونما خلل أو عطل، كالشمس والقمر والكواكب الأخرى التي تسير من ملايين السنة دونما تعب أو فساد.
على كلّ، فالمدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة، التي مواردها المالية محدودة جدًّا، وهي تشكو الضائقة الماليّة، وهي لاتكاد تلبّي حاجاتها اللازمة، من أداء الرواتب، وصرف المنح الدراسيّة، وإنجاز مبانٍ لابدّ منها لسكنى الطلاب ودراستهم، أو لديها موارد ماليّة تفي بحاجاتها الملحة، ولاتفيض عنها إلاّ قليلاً؛ فهذه وتلك معذورتان، لاتقدران على التوسّع في الرواتب والمِنَح فوق ما قَرَّرَتاه من القدر المحدود؛ ولكن المصيبة أن هناك جامعات ومدارس إسلاميّة أهليّة لديها دخل كبير، ومساعدات فائضة، وتتمتع بشعبيّة كبيرة لخدماتها الجليلة، وتاريخا المجيد، وإخلاص مشايخها في خدمة الدين والدعوة والتعليم الإسلاميّ؛ إلاّ أنّها لاتكاد تتخطّى “الخطَّ الأحمر” الذي خطّته بيدها فيما يتعلق بالزيادة المعقولة في الإنفاق على الطلاب والمدرسين، وإنما تزيد أحيانًا زيادة لاتساوي إلاّ قطرة من اليمّ .
* * *
أمّا ما كان الأخ الأستاذ تطرّق إليه ورَكَّز عليه من روح المواساة الإنسانيّة التي لمسها هو في كليته الرسمية العلمانية، ولم يلمسها في المدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة التي تعلّم فيها قبل أن يتعلّم في بعض الجامعات الرسميّة الحكوميّة، فأظنّ أنه ليس قاعدة مُطَّرِدة أو عادة عامّة، وإنّما هو شيء قد يوجد هناك ولايوجد هنا، وقد يوجد هنا ولايوجد هناك. ليس أنّ جميع المدارس والجامعات والكليات الرسميّة تسري فيها روحُ العطف والنبل الإنساني، وليس أن كل المدارس والجامعات الأهلية تخلو منها؛ بل إن الأخرى لكونها تصدر في جميع خطواتها عن الروح الدينية، إنّها في الأغلب يُتَصَوَّر أن تتمتع بالخلق الديني والسيرة الإسلاميّة أكثر من غيرها. وحقًّا سيكون من أعظم المصائب أن تتبنّاها الكليات والجامعات الرسميّة، وتتخلّف في شأنها المدارس والجامعات الإسلاميّة الأهلية التي إنما قامت لتنشر هذه الروحَ، التي رَكَّز عليها الإسلام أكثر من غيرها، كما قامت للمحافظة على الدين، والأخلاق، والأحكام الإسلامية والآداب الدينية.
وإنيّ جرّبتُ أنّ ضيق الدخل، وقلة الإمكانيات، وفقر الوسائل، قد يؤدّي إلى ضيق الأفق، والسوءة الخلقة، وفقد روح العطف والمواساة، فقد يجوز أن توجد المعاني الإنسانية أحيانًا في الوسط المدرسي الجامعي الرسمي أكثر من الوسط المدرسي الجامعي الأهلي المنتمي إلى الإسلام؛ لأنّ الأوّل يتمتع بوفرة الإمكانيات، وكثرة الوسائل، وزيادة الدخل، والثاني يشكو ذلك عادةً؛ لكن ذلك ليس موقفًا مطردًا.
ويجوز أن هذا الموقف الجميل هو الذي سَعِدَ به الأخُ البروفيسور الذي أشاد يروح المواساة التي عاشها في كليته، وجَرَّبها في أساتذتها والعاملين فيها من المنسوبين والموظفين، فصار مُدَافِعًا عنها، مُثْنِيًا عليها، وناقمًا على ما لمسه من التضايق في الوسط المدرسيّ الجامعي الأهلي لدى تعلّمه في بعض المدارس الأهليّة.
ولاشكّ أن الخير كالحكمة ضالّة المؤمن حيثما وجده فهو أحقّ به.
( تحريرًا في الساعة11:30 من صباح يوم الخميس: 29/ذوالحجة 1430هـ = 17/ديسمبر 2009م ) .
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر 2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34