الفكر الإسلامي

بقلم : د . رشيد كهوس أبو اليسر

جامعة محمد الأول المغرب الأقصى

إن الضوابط الربانية للسنن الإلهية تحدد شكل مسار سنن الله القرآنية، وتبين كيف تسير هذه السنن عبر وسائل مضبوطة،  فلا يمكن – مثلاً – فهم سنن الله بعزلها عن ربانيتها، ولا يمكن فهمهما كذلك بدون وسطيتها…

       وبناءً على هذا فما خلق الله عز وجل إنما خلقه على سنن إلهية كاملة لا تبديل لها ولا تحويل. وهذه السنن الإلهية في فلكها تجري هذه الحياة وحركتها، فليس هناك شيء واحد في هذه الحياة يحدث اعتباطاً وعشوائيةً، وإنما يجري كل شيء فيها وفق  سنن الله تعالى التي لا تنخرم ولا تحيد، ولا تتخلف، ولا تحابي أحدًا من الخلق، ولا تستجيب لأهواء البشر وطموحاتهم الشخصية، ومآربهم الفانية.

       وعليه، فما دام هذا الكون بما فيه خاضعًا لسنة الله تعالى، وما دامت سنة الله هي قدره الذي على مقتضاه يدبر ملكه؛ فإنها تنضبط بضوابط ربانية تبين عدالتها وجريانها على جميع البشر، واستمرارها على مدى الأزمان.

       تلك الضوابط وإن تعددت وتنوعت فإنها تنبثق من ضابط الربانية وترجع إليه؛ ذلك أن القوانين البشرية التي يسطرها البشر لأنفسهم بعيدًا عن هدي الله عز وجل تحتاج دائماً إلى المراجعة والتطور وإعادة الصياغة والتحرر من قواعدها ومقوماتها، تتعرض هذه القوانين لكل هذا؛ لأنها من صنع البشر. أما قانون الله وناموسه الكوني فثابت لا يتغير وضوابطه لا تتعطل ولا تتحول؛ لأن واضعه هو خالق البشر الذي يعلم ما كان وما يكون وما لو كان كيف يكون.

       فهذا الكون بما فيه يخضع لنظام عادل وضوابط ربانية، فكل شيء يدور في فلكه ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾(1)، فلابد لكل شيء من فلك يدور فيه، ولا بد لهذا القانون من ضوابط وإلا انتهى الأمر إلى الفوضى وإلى الدمار.

       ومن ثم كانت سنن الله منضبطةً بضوابط ربانية لا يعتريها النقص ولا التغير ولا التطور فهي صالحة لكل زمان ومكان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

       فأول تلك الضوابط:

1-الربّانية:

       وهذا الضابط يميزها عن باقي التصورات الفلسفية والمعتقدات الوثنية التي ينشئها الفكر البشري وتصوراته الخيالية، يقول الله عز اسمه:﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(2).

       وكون سنن الله ربانية المصدر، يعني أنها مرتبطة بالله تعالى، منه تستمد وبنوره تستضيء، وهذا ما يفرغ عليها قدسية لا نظير لها؛ لأن هذه السنن صادرة من  صاحب الخلق والأمر في هذا الكون، ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(3)، ولم تصدر من البشر الذين يحكمهم القصور والعجز، والتأثر بمؤثرات الزمان والمكان ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾(4).

       ونفهم من هذا الضابط أن الله تعالى وتقدس هو المدبر  الحقيقي لهذا الوجود بمشيئته المطلقة، وتدبيره الحكيم.

2- الثبات:

       بما أن سنن الله ربانية المصدر، وليست نتاج فكر بشري يعتريه النقص، فإن من هذا الضابط تنبثق باقي الضوابط، فتكون سنن الله ثابتةً؛ لأنها تقتبس نورها من مشكاة ربّانية؛ وثبات سنة الله يعني استقرارها ودوامها؛ فلا تتبدل ولا تتحول، يقول الحق سبحانه وتعالى: ] سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً[(5)، ويقول الله عز اسمه: ] سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً[ (6).

       ولا يعني هذا الجمود في قالب حديدي وإنما يعني الحركة – التي تعتبر قاعدةً في التصميم الكوني والحياة البشرية – في مضمار هذا الضابط حتى لا تسود الفوضى والحيرة في الكون؛ بل تلك الحركة الكونية التي تدور في دائرة الثبات تضفي عليها طمأنينة لا نظير لها، وتضمن للحياة البشرية مزية التناسق مع النظام الكوني المتناسق والمتماسك، ويقيها شر الفوضى واتباع أهواء البشر التي لا يضبطها قانون سوى تحقيق مصالحها وطموحاتها الشخصية.

       والثبات عنصر فعال ذو أثر كبير في نيل الأوطار وبلوغ المرام. “ولا يبلغ الهدف السامي إلا الصابرون الذين أدركوا أنه لكل أجل كتاب، فلم يستعجلوا النتائج قبل أوانها، بل أدركوا الثمرة في إبانها، فكانوا منارا للهدى، ودليلاً على الله”(7).

       ولا شك أنه بثبات سنة الله واستمرارها ” تثبت النفس وتطمئن ويحيطها الاستقرار، الذي يكون توطئةً لمعرفة ما لكل امرئ وما عليه، فيعتبر المُبصر ويحذر المخطئ، ويتحسس كل إنسان أين تسير به قدماه فيُحْجِمُ أو يُقْدِمُ – مستندا إلى ظنه- لمصيره ومآله في دنياه وأخراه.

       والهدف الثاني من ثبات السنن الإلهية وعدم تغييرها هو سقوط القول بـ(الصدفة) أو (الطبيعة) فيما لا يستطيع العقل البشري الوقوف على علله وأسبابه؛ إذ لو لم تكن السنن الجارية قائمةً على الثبات لا تسع المجال للعبثية ولبسط القول بالصدفة في نظام حركة الكون والأحياء والأنفس.

       ومن ثم يدرك كل إنسان له مسحة من دين سماوي – خاصة الإسلام – أن لله سننًا في هذا الكون وفي حياة البشر غير قابلة للتغيير”(8).

       ولو لم تكن سنن الله عز وجل ثابتةً على الحال المذكور لما كان في هذا الكون توازن ولا استقرار ولا استحال استمرار الحياة، ولكانت الفوضى حينئذ هي السمة السائدة.. وهذا يتنافى مع الواقع المشهود، الذي تدلنا كل صغيرة وكبيرة فيه على آيات التوازن والاستقرار التي تقود إلى استمرار الحياة إلى أجلها المقدر لها كما قال تعالى: ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾(9).

       ونحمد الله الذي وقانا شر الفلسفات المادية –التي لا تثبت على حال – الجاهلة بحقائق هذا الكون، التي مزقت الفكر الغربي شر ممزق، وتركته يتيه السبيل في كهوف الجدليات المظلمة…

 3- الاطراد(10):

       المقصود باطراد سنة الله “تتابع حصولها، أو تكرار آثارها على الوتيرة نفسها كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها”(11)، يقول الله جل ذكره: ]فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً[ (12).

       وهكذا نجد أن اطراد سنة الله يعني أنها ليست عبثيةً ولا عشوائيةً قائمةً على أساس الصدفة، وإنما هي علاقة ذات طابع موضوعي، لا تتخلف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة.

       ولهذا قصّ علينا القرآن  الكريم قصص الغابرين وما حل بهم من جراء ما اقترفوه من مخالفات للأوامر الإلهية، لنأخذ الدروس والعبر، ونرجع إلى الصراط السوي، حتى لا يصيبنا ما أصابهم، ولولا اطراد سنة الله لما كانت هناك دعوة للسير في الأرض والوقوف على آثار السابقين وأخذ العبرة  والدروس مما أصابهم، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(13) ، ويقول جل وعلا: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾(14).

       يقول إمام المقاصد أبو إسحاق الشاطبي – رحمه الله- : “إنه لولا أن اطراد العادات(15) معلوم لما عرف الدين من أصله، فضلاً عن تعرف فروعه؛ لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله، فإذا وقع مقترنًا بالدعوة خارقًا للعادة، علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق”(16).

       فهي سنن واقعة آتية من الأزل، “فهي باقية وماضية إلى الأبد لا تهرم أبدا، ولا يصيبها الموت، كما تهرم القوانين المدنية وتموت، بل هي شابة وقوية دائما في كل زمان”(17).

       فسنة الله مطردة تشمل الماضي والحاضر والمستقبل، واطرادها لا يعني حتميتها. وهنا يمكن القول، بأنه بالرَّغم من ثبات سنة الله في الكون واطرادها، “فالمشيئة الإلهية طليقة لا يَرِدُ عليها قيد ما، مما يخطر على فكر البشر البعيد عن أصول التوحيد الإسلامي. وهو سبحانه وتعالى يبدع كل شيء ويخلقه بمجرد توجّه مشيئته إلى إبداعه وخلقه. فليس هناك قاعدة ملزمة ولا قالب مفروض مُلْزم للمشيئة الإلهية في الفعل، فهو عز وجل يفعل ما يشاء كيف يشاء حين يشاء، لا راد لأمره، ولا معقّب لحكمه”(18).

       والحاصل أن سنن الله لا تجري جريانا آليا حديديا حتميا مسلوب الإرادة والتعقل، بل جريانها وتحققها يكون بقضاء الله عزوجل وقدره وحكمته، يستوي في ذلك سنن الله الجارية(19) والخارقة(20). وإذا أراد الله تبارك وتعالى شيئًا؛ فإنه لا ينفذه بإبطال سننه المطردة وأقداره الماضية في خلقه، ولكن بالترجيح أو التوفيق بينها، كما قال جل ثناؤه: ﴿ ثـُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾(21) وهذا ما يخالف مبدأ الحتمية وينقض مزاعم القائلين بها.

       ونمثل لاطراد سنن الله بسنة الله في عقاب من تكبر على طاعته وطاعة رسله، يقول الحق جل وعلا:﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾(22) ؛ هكذا اقتضت سنة الله بأخذ من جحد الآخرة وكفر بالله وطغى في الأرض، وضحى بكل شيء في حب الدنيا؛ وأخذه سبحانه الأخذ الوبيل قد نشاهده في أخذ جيل أو أجيال، كما أخذ فرعون أخذًا وبيلاً وأغرقه في لجج البحار، كان عصيان فرعون استكبارًا على الله وحباً للدنيا الفانية، والتصاقًا بالعروش الزائلة! فكان لقمةً سائغةً لسنة الله المطردة.

       ولا نذهب بعيدا فقد أصاب أمتنا اليوم من ذلك العقاب الإلهي ما جعلها قصعة مأكولة، كما أخبر بذلك سيد الوجود صلى الله عليه وسلم الذي حذر أمته من ذلك العقاب الذي سيصيبها عندما تتنكب سنن الله، وتحيد عن منهاجها المستقيم، بحبها الدنيا – مناط البلاء- وكراهيتها للموت؛ فعَنْ سيدنا ثَوْبَانَ صلى الله عليه وسلم قَال :َ قَالَ سيدنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:﴿يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ﴾(23). مثَالٌ لاَ أبلغَ منه في تصوير تفكك الأمة، وانفرام عقدها، وخفة وزنها، وَهَوَان قيمتها، وانسياحها في مجاري التبعية الفكرية والسياسية، وتكالب أعدائها عليها من جراء ما كسبت أيديها.

       سيْل يجرف غثاءً. مثال ممن أوتي جوامع الكلم كاشفٌ عن مكامن الداء في نفوسنا التي أصبحت تبْنا مجروفا.

اُبتليت الأمة الإسلامية بالوهن، الذي ما يزال يدب في جسمها وكان سببًا في انتقاض عروة الحكم وتحول ذلك البناء الشامخ و الحصن المنيع من خلافة راشدة إلى ملك عاض ثم جبري، وهذا أصل البلاء، وما الأزمات التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم إلا أعراض لهذا المرض الدفين.

       الغثائية إذن، مرض الطفوح والتفرق والتشرذم وخفة الوزن. وهي صفات ما يضيع ويذهب غيرَ معتَد به وهو ذلك الزبد الذي تحمله الوديان. لا قيمة له ولا أثر.وكُنْهُ الغثائية الظاهرة وسببها الوهْنُ الذي لا يفيد معه كثرة العدد. من مليار ونصف مليار مسلم.

       الوهن حب الدنيا وكراهية الموت.حب الدنيا أثرَةٌ قتلت العدل وطغت في الميزان، وسلطوية عاضة جبرية قتلت الشورى وكرست الظلم والاستبداد، ونقضت البناء النبوي الراشد، فكيان الأمة المعنوي منهار. وأنقاض الجثث الميتة الغثائية لا يمكن أن تحيى وتتحرك إن لم تعد إليها الروح بعودة الشورى والعدل. وهما ممتنعان ما لم نعالج العِلة الكامنَة في النخاع: الوهْن؛ أي حب الشهادة والاستشهاد وكراهية الدنيا، كراهية الرئاسة، والقصور، وأكل أموال الناس بالباطل…  

       لما زاغ المسلمون عن المنهاج النبوي والمحجة اللاحبة، حلت بدارهم الويلات، ودخل عليهم العدو من كل باب؛ من المشرق باحتلال فلسطين، وأفغانستان، والعراق… والمغرب باحتلال سبتة ومَلِيلَة وجبل طارق والجزر الجعفرية… كما احتلوا – بعد احتلال الأراضي– عقول أبناء الأمة في المشرق والمغرب، وزرع البذور الفاسدة من أبناء جلدتنا في جسم الأمة فكان هؤلاء الأبناء المغربون بعض ملاعق الأكل، و وكلاءُ إشهار يبشرون الخروفَ بأن المجدَ كلَّ المجد في أن يموت لتحيى حضارة الذئب! هكذا أصبحت هذه الفئة المغربة من أبناء الأمة تَسْتَلِذّ السُّمَّ الزُّعَافَ، سقوهُ في قَوارير الثقافة المتنوِّرة الفيلسوفة الغافلة عن الله والدار الآخرة التي من مبادئها حب الدنيا وكراهية الموت.

       لولا خَواء قُلوب هذه الأمة بما قذف الله عز وجل فيها من وهن لَما عصت ربها وعصت نبيها صلى الله عليه وسلم ولم تلزم غرزه، ولولا نزعه تعالى من صدور عدوها مهابتها، لَمَا تخاذَلت كل هذا التخاذلِ المتمثل في بسطِها خدودها ذِلّةً لِأعدائنا، واتباعها لكل ناعق، ولهثها وراء التلمذة للغرب لما انبهرت باختراعاته وعقلانيته وحضارته المادية اللائيكية، وانخداعها بالسراب.

       ومن داء الأمم: حب الدنيا وكراهية الموت سرى الداء في جميع المجالات (السياسية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية..) ولا يزال، ونتج عن ذلك تفرق الأمة إلى شيع وطوائف، وعملت العصبيات وحمية الجاهلية عملها، ونسي المسلمون وتناسوا تعاليم الإسلام التي تدعو  إلى الوحدة وترك الخلاف المذموم الذي يؤدي إلى التمزق والتشرذم.

       وبهذه التجزئة في أرض المسلمين وهذا التفرق المذهبي وهذه العصبيات المنتنة  وجد الاستدمار الغربي الحاقد منفذًا نفذ من خلاله إلى جسم الأمة، وبدأ بعد ذلك يعمل في تقويض أركانها وتوسيع الخلافات بين أبنائها ليحافظ بذلك على وجوده داخل المجتمع المسلم؛ بل الأشد من ذلك والأنكى   بعدما غرس أقدامه في أرض الإسلام واستحوذ على خيراتها وأهم طاقاتها؛ بدأ يرسل جحافله الملوثة وسمومه المسمومة إلى صدور المسلمين لزعزعة الإيمان في القلوب، وحول ذلك    الغزو بالجيوش الوحشية الجرارة إلى غزو من نوع آخر بإرسال الإرساليات إلى المجتمع المسلم، وزرع  بذرة المستشرقين والمنصرين والمغربين في وسط هذا المجتمع، فأينعت فسادا وإلحادا وتفسخا،… من أجل قتل الأخلاق الإسلامية والقيم الدينية، لتصبح الأمة الإسلامية أمةً غريبةً في أخلاقها بعيدةً عن دينها، لا تتحرك  إلا وفق مصالح القارونية  العالمية طاحنة الشعوب  المستضعفة في العالم.

       وفي مطلع هذا القرن “21” جاءت جيوش التتار الجدد يجوسون خلال الديار من الغرب الحاقد،  يأتون على الأخضر واليابس،… يعيثون في الأرض الفساد، يهلكون الحرث والنسل، بدءًا من “أفغانستان” مرورًا “بالعراق” وقدوما إلى البلدان المسلمة الأخرى” سوريا، إيران،…” وما فلسطين البلاء بالتي تنسى،… هكذا دب الأمريكان والأنجليز تحت قيادة الصهيونية العالمية إلى العالم الإسلامي وإلى المسلمين، وحل ” الخطر الأخضر”  محل ” الخطر الأحمر”، جزاء وفاقا:﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾(24).

       وها هي أمتنا المستضعفة اليوم قَصعةً مأكولة، رُغم أن الأصل في أمة الخيرية أن تَعِزّ ولا تذِلّ، وأن تعمل صالحاً ولا يُفْعَل بها، وأن تكون متبوعة لا تابعة… لكنها لما خالفت سنن الله أصابها ما أصابها، ولما توفرت أسباب سنة الله في عقاب من تكبر عن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تتابع حصولها، وتكررت آثارها.

*  *  *

الهوامش :

(1)  سورة الفرقان: من الآية 2.

(2)  سورة الشورى: 52.

(3)  سورة الأعراف: من الآية 54.

(4)  سورة الملك: 14.

(5)  سورة الإسراء: 77.

(6)  سورة الفتح:23.

(7)  التجديد في دراسة الحديث النبوي على نور السنن الإلهية، الأستاذ محمد بن معمر جابري ص111.

(8)  السنن الإلهية، مجدي عاشور، ص100.

(9)  سورة القمر: من الآية3.

(10) الاطراد: اطرد الأمر تبع بعضه بعضًا وجرى واطرد الحد تتابعت أفراده وجرت مجرى واحدًا كجري الأنهار.

       والاطراد يضم مجموعة من المعاني؛ لأنه يضم أجزاء الممدود ويجمعها، ويتبع المحدود بحيث يوجد حيث وجد ويستقيم بذلك ويستمر عليه”. كتاب الكليات، لأبي البقاء الكفومي، فصل الألف والطاء، ص199. المعين في تفسير كلام الأصوليين، عبد الله ربيع عبد اله محمد، ص52.

(11) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، د.أحمد كنعان، ص76.

(12) سورة فاطر: من الآية43.

(13) سورة آل عمران:137.

(14) سورة الحشر: من الآية2.

(15) يقصد الإمام الشاطبي بالعادات: السنن.

(16) الموافقات في أصول الشريعة، 2/568.

(17) الكلمات، الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، ص473.

(18) السنن الإلهية، مجدي عاشور، ص105.

(19) معنى كونها سنن الله جارية أنها يمكن أن تتحقق –بقدر من الله عز وجل- كلما توفرت شروطها ومقوماتها، وتتم المواجهة بمقتضاها.

(20) السنن الخارقة: أي بالنسبة للبشر يعتبرونها خوارق، أما عند الله تعالى فليس عنده شيء اسمه خوارق، فكل شيء يتحرك بإرادته ومشيئته وحكمته العادلة وإن بدا لنا أمرًا خارقًا للعادة.

(21) سورة طـه: من الآية40.

(22) سورة المزمل: 15-19.

(23) سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب تداعي الأمم على الإسلام، ح4297.

(24) سورة الشورى: 30.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذو القعدة 1430 هـ = نوفمبر 2009 م ، العدد : 11 ، السنة : 33

Related Posts