الأداء التصويري وإيقاع الفواصل في القرآن الكريم (1/2)

الفكر الإسلامي

بقلم : محمد قطب عبد العال

إنّ التناسق في النصّ القرآني الكريم، يبلغ الدرجة العليا في إحداث جماليات التصوير الفني. والإيقاع الموسيقى أحد ملامح هذا التناسق وهو ناتج عن ملاءمة اللفظ مع النسق الخاص الذي ورد فيه، كما أنه يتنوع بتنوع الفواصل، القصير منها والطويل، المتماثل منها والمتخلف .

       والإيقاع في النص القرآني الكريم قد تحرر من كل قيد يقيد المعنى، أو يحد من النظام الصوتي، مما أدّى إلى حرية التعبير وامتلاك آفاق رحبة من التآلف والتلازم والانسجام .

       إنه إيقاع لغوي متفرد، لايماثله إيقاع أو يقترب منه، إنه ايقاع جماعي – إن صح التعبير – يقوم به الحرف الصوتي بدوره، والكلمة في نسقها بدورها، والجملة في سياق التركيب بدورها، والآية من خلال السورة والموقف بدورها.. والفاصلة من خلال التردد الصوتي والتكرار الإيقاعي بدورها.. إنه إيقاع منبعث من النص في تكوينه الصوتي واللفظي، يبرزه كل مكونات النص القرآني .

       فهذا الإيقاع “ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومرده إلى الحس الداخلي، والإدراك الموسيقي، الذي يفرق بين إيقاع موسيقى متناسق وإيقاع مضطرب(1).

       والفاصلة القرآنية ليست قيدًا صوتيًا، أو معنويًا.. كما نلمح ذلك في الشعر والنثر. فكثيرًا ما وجدنا التكلف واضحًا في الشعر لحرص الشاعر على القافية وتكلفه في إيرادها ولو كان ذلك على حساب المعنى وجمال التركيب. ويبدو ذلك أكثر وضوحًا لدى الكتّاب الذين يغرمون بالمحسنات اللفظية التي تصرفهم عن جمال المعنى وتبعدهم عن التناسق في التركيب .

       “والفاصلة القرآنية عنصر أساسي من عناصر اللغة الإيقاعية، والقرآن الكريم يمتاز بحسن الإيقاع، فتأتي الفاصلة في ختام الآيات حاملة تمام المعنى وتمام التوافق الصوتي في آن واحد”(2).

       * والفاصلة في القرآن هي ما تنتهي به الآية القرآنية. وهي جزء من الآية، وعنصر تعبيري متميز، ومثير قوي للإيقاع. وهي – كملمح أساسي من ملامح الإيقاع الموسيقى، والنظم الصوتي في القرآن – تنضوي على دلالتين هامتين. الدلالة الاولى: وهي دلالة صوتية تتمثل في الإيقاع والرنين الصوتي، المحكوم بنسق الآية والسياق العام .

       والدلالة الثانية: دلالة معنوية تحمل تمام الفكرة في الآية .

       وإننا لندرك تلك الدلالة من خلال الآية التالية والتي وردت فيها الفاصلة متلائمة تمامًا مع المعنى المراد.. إن المعنى الكامن في الفواصل بعد أساسي من أبعادها وغرض واضح من إيرادها المتكرر .

       قال تعالى : ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْلَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيْمُ﴾.

       السياق يوحي بالغفران. ولم تنته الآية بما يلائك الدلالة الظاهرة وذلك كأن تكون الفاصلة “الغفور الرحيم”. ولكنها جاءت كما وردت في الآية بيانًا أن من يستحق العذاب، فلا يغفر له إلا من كانت سلطته فوق السلطات وعزته فوق كل عزة، ومن كان كذلك وجب أن يكون متصفًا بالحكمة. وليس كل عزيز عادلاً، فمن الحكام من عزوا وفقدوا الحكمة. ومن ثم جاء ربط الحكمة بالعزة تعبيرًا مصورًا رائعًا، وبيانًا قاطعًا ذلك أنه (ما انتهت آية قرآنية إلا بفاصلة ملائمة كل الملاءمة لمعناها، مستقرة في قرارها، منطمئنة في مكانها، غير نافرة ولا قلقة”(3). إن ارتباط الفاصلة بالسياق أمر أساسي إذ يرتبط بالفكرة والهدف.. فهي لم تأت كحلية لفظية لا ارتباط لها بالمعنى أو اعتبار له.

       قال تعالى: ﴿إذ الأغْلاَلُ فِيْ أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * في الحَمِيْمِ ثـُمَّ فِيْ النَّارِ يُسْجَرُوْنَ * ثـُمَّ قِيْلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُوْنَ * مِنْ دُوْنِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوْ مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكَافِرِيْنَ﴾(4)

       هذا لون من العذاب الذي يحيق بالكافرين يوم القيامة. فأيديهم تربط بالأغلال. والأغلال هي القيود التي تجمع في ربطها بين اليد والعنق. وتتدلى من هذه القيود السلاسل حيث يسحبون منها إلى ماءٍ حارٍ ثم يحرقون في النار.

       قال ابن كثير “إن السلاسل متصلة بالأغلال وهي بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم تارةً إلى الحميم وتارةً إلى الجحيم”. ويقال لهم تبكيتًا أين الأصنام التي عبدتموها من دون الله. فيجيبون أنها غابت عن العيون. وأنهم ما عبدوا شيئًا. لقد وقع العذاب لضلالهم .

       والمشهد من مشاهد يوم القيامة في التهديد المخيف. كما أن التشبيه وارد في النص حيث يُسْحَبون كما تسحب الأنعام.

       والفاصلة “يسحبون” من حيث المعنى مرتبطة بالسلاسل ومتصلة بقوله “فِيْ الْحَمِيْمِ” و”يُسْجَرُوْنَ” أفادت التوكيد بالعذاب في جهنم المحرقة؛ لأنه لو وقفت الآية عند قوله تعالى (ثـُمَّ فِيْ النَّارِ..) لبقي المعنى محتاجًا إلى ثبات واستمرار وحبس وقرار.. فجاءت الفاصلة لتوضح هذا المعنى. كما أن فاصلة (تُشْرِكُوْنَ) متصلة بقوله “مِنْ دُوْنِ اللهِ” لبيان الضلال عن الحق والابتعاد عن التوحيد. ومن ثم وجب الوقف على الفاصلة برغم الاتصال..

       ونلاحظ أيضًا الإيقاع الممتد والمستمر الملحوظ في حرف المد في استمراره وطوله ثم استقراره وتمكينه في حرف النون .

       والفاصلة القرآنية لها مكانها عبر السياق الذي تستقر فيه بلا نفور أو قلق بل تتلاءم وترتبط به ارتباطاً قويًا بحيث لو طُرحت لاختل المعنى واضطرب الفهم قال تعالى: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوْا خَيْرًا وَكَفىٰ اللهُ المُؤْمِنِيْنَ القِتَالَ، وَكَاْنَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيْزًا﴾(5).

       تتناول الآية موقف الأحزاب وقد خرجوا لغزو المدينة، حيث ردهم الله على أعقابهم خاسرين ولم يشف صدروهم بما تمنوا تحقيقه بل اكتسبوا الإثم والعذاب والاندحار.. ولقد كفى الله المؤمنين شر أعدائهم بإرسال الريح حتى ولوا الأدبار منهزمين، وكان الله قادرًا على الانتقام من أعدائه عزيزًا غالبًا لايقهر(6).

       وجاءت الفاصلة في قوله ﴿قَوِيًّا عَزِيْزًا﴾ لتحدث هذا المعنى المطلوب خاصةً وأن حرف الروى اختلف (الزاى) واتفقت الفاصلة في التنوين.. على الحرف الأخير المتنوع.. وهذا التنوين لون من ألوان الإيقاع المؤثر في النفس، والحامل قدرًا كثيرًا من الرنين الصوتي.

       ولو انتهت الآية – كما يرى الزركشي – عند قوله عز وجل ﴿وَكَفىٰ اللهَ الْمُؤْمِنِيْنَ القِتَالَ﴾ لتوهم بعض الضعفاء أن ذلك يعني موافقة الكفار في اعتقادهم أن الريح التي حدثت كانت سبب رجوعهم، ولم يبلغوا ما أرادوا، وأن ذلك أمر اتفاقي، فأخبر الله سبحانه وتعالىٰ في فاصلة الآية عن نفسه بالقوة والعزة، ليعلم المؤمنين ويزيدهم يقينًا وإيمانًا على أنه الغالب الممتنع وأن حزبه كذلك – فقال عز وجل ﴿وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيْزًا﴾.

       كما أن هذه الفاصلة بينت أن تلك الريح التي هبت ليست اتفاقًا بل هي من إرساله عز وجل على أعدائه كعادته، وأنه ينوع النصر للمؤمنين ليزيدهم إيمانًا بنصرهم(7).

       لقد أثبت النص القرآني هذه الحقيقة إذ أسند إلى الله كل ما تم من الأحداث والعواقب، وجاءت الفاصلة القرآنية لتقرير هذه الحقيقة وتثبيتها في القلوب .

       والمتذوق للغة، وصاحب الحس المرهف يدرك مكانة الفاصلة وموقعها وما تتركب من حيث دلالة المعنى ودلالة الايقاع معًا.

       رُوي أن أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ قوله تعالى ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ﴾. فقال الأعرابي بحسه اللغوي الصافي: إن الحكيم لا يذكر الغفران بعد الزلل لأنه إغراء عليه. وكأنه يريد أن يوحي ويؤكد على أن العبارة لا تتناسق مع المعنى المراد من الآية. وهذا يعني أن الفاصلة في هذا الموضع “رَحِيْمٌ” لاتتلاءم مع المعنى أو مع السياق؛ لأن تتابع السياق تحددها الالفاظ – “زلل – بينات – اعلموا”.. وهذا التتابع يضع سلسلةً من الأفعال والبينات الداعية إلى أن الحق يعني الالتزام بأمور الدين. والخروج عن التعاليم الإلهية خروج عن الأمر الإلهي بالإعلام والتبيين.. ومن ثم فإن الحكم الطبيعي للخارج عن النظام ليس الغفران وإنما الشدة وفرض العقال..

       ونعود إلى قصّة الأعرابي الذي لفت نظر القارئ إلى أن المعنى لا يستقيم.. لنعلم أن القارئ راجع قراءته فعلم خطأه وصحح الآية الكريمة.. حيث أكملها بقوله.. ﴿فَاعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ﴾.

       ومعنى ذلك أن الفاصلة تلتحم بالآية التحامًا تامًا؛ فتذكر بأن الله عزيز لديه القوة والقدرة وأن القوة ستطولهم وتنال منهم إن خالفوا التوجيه، وتوضح أنه حكيم فتوحي بأن ما اختاره الله للبشر هو الخير وأنهم خاسرون إن لم يتبعوا طريق الخير.. كما أن الفاصلة تؤكد معنى التهديد والتحذير..

       وفي هذا الصدد يرى “الرمانى”(8) أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها. “وفواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة، لأنها طريق الإفهام المعاني التي يُحتاج إليها في أحسن صورة يدل بها عليها”.

       والبلاغة من حيث هي من القول لاتفصل بين جوهر المعنى وبين أسلوب أدائه من حيث التآلف والرهافة والإيقاع “وهذا هو الحد الفاصل بين فنية البلاغة كما تجلوها الفواصل القرآنية بدلالاتها المعنوية المرهفة ونسقها الفريد في إيقاعها الباهر، وبين ما تقدمه الصفة البديعية من زخرف لفظي يكره الكلمات على أن يجيء في غير مواضعها البيانية”(9).

       .. والإيقاع والتلاؤم مع الموضوع ملمح جمالي في أداء الفاصلة لوظيفتها. إن نظم القرآن ونغمه ينبعث من الحروف والكلمات والأسلوب، فحروفه متآخية في كلمات ذات إيقاع موسيقى ونغم تهتز المشاعر منها اهتزازًا وتسكن النفوس مطمئنةً راضيةً، ويختلج الوجدان متأثرًا ومنفعلاً ويطرب القلب حين يدرك المعنى مصحوبًا بإيقاع مؤثر يرهف الحس ويرقق الوجدان.

       والتلاؤم ملمح جمالي في القرآن.. يرتبط بالإيقاع ارتباطاً وثيقًا ومن ثم يتحدد الأداء التعبيري بدورهما عبر السياق القرآني.. فالإيقاع الهادئ، له موضعه الملائم له، والإيقاع الهادر الصاخب له موضعه الملائم له، والإيقاع الساكن الرقيق له موضعه أيضًا.. ويتبدى التلاؤم في أن “الآية تتضافر ألفاظها في نغم هادئ إن كانت الآية في تبشير، أو داعية إلى التأمل والتفكير إن كانت في عظة، وتتلاءم نغماتها قويةً إذا كانت في إنذار أو وصف عذاب”(10).

       .. في آيات الضحى نلمح هذا الهدوء وتلك السكينة، البادية في نغمات الرحمة الواسعة، والمنبعثة من التلاؤم والتآلف وإيقاع الفواصل:

       قال تعالى: ﴿وَالضُّحـٰـى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجـٰـى* وَمَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلـٰـى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُوْلىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيْكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ﴾(11).

       وسورة الضحى خاصة بالنبي S وفيها تسلية وإيناس وتطمين. وتنبثق منها نسائم الرحمة، ويشع من الإيقاع الهادئ الناعم لمسات الحنان والرحمة الإلهية. وجاء القسم بالضحى الرائق الصافي كما جاء بالليل في رقته وسكونه وصفوه بما يشعر بالتواصل بين الكون والذات فتنتفي الوحشة ويتأكد الأنس والمؤانسة. وتؤكد الآيات على رعاية الله لمحمد S وادخاره الخير له وغلبته على أعدائه .

       إن الفواصل في الآيات فيها تمهل واستقرار، ويغلب عليها التساوي في الوزن والتوازن في الإيقاع. والملاحظ على الفواصل أن كاف الخطاب قد حذفت إذ من مراعاة السياق تواصل الخطاب، فقوله تعالى ﴿مَا وَدَّعَكَ﴾ خطاب موجه إلى الرسول، ولم نلحظ الكاف في “ماقلاك” مثلاً.. وكذلك في آوى وهدى وأغنى.. في السورة ككل .

       وجاء حذف الكاف لدلالتين متمازجتين كل التمازج.. وكان الحذف متلائمًا مع المعنى المراد.

       فالدلالة الأولى: دلالة صوتية تحفل بالرنين الهادئ الآخذ بالنفس، وهذا ناتج عن رعاية الفواصل في إيقاعها المتواصل، بحيث يتوالى حرف المد بفيضه الشعوري وتعاليه النفسي .

       والدلالة الثانية: دلالة معنوية نفسية تتنامى مع السياق الذي “تقتضيه حساسيةً مرهفةً بالغة الدقة واللطف، هي تحاشى خطابه تعالى رسوله المصطفى في موقف الإيناس بصريح القول: وما قلاك. لما في القلي من حس الطرد والإبعاد وشدة البغض. أما التوديع فلا شيء فيه من ذلك، بل لعل الحس اللغوي فيه يؤذن بأنه لايكون وداع إلا بين الأحباب”(12).

       … وكذلك الهدوء الباعث على التأمل في الكون، وهو نوع فكري تأملي، ينبثق منه إيقاع هادئ ونغم له رنينه الساكن، وذلك من أجل لفت الذهن، وإثارة مدارك الفكر، وتوجيه العقل نحو مشاهد الكون لإدراك العظمة الإلهية وراءه، وتأكيد الوحدانية واحتواء الوجدان بفيض من المشاعر الروحية .

       قال تعالى: ﴿أَفَلا يَنْظَرُوْنَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾(13).

       تدعو الآيات الكريمة البشر إلى أن ينظروا إلى بديع خلقه، وتأخذ الآيات بعقل الإنسان ليتأمل هذه النعم الباهرة التي حددتها الآيات. وهي السماء والأرض والجبال والجمال. ومع ما في هذه الموجودات من صفة مادية مشتركة وهي البروز والضخامة. كما أنها أشياء داخله في مجال إدراكه البصري والعقلي. والتوجيه يدعو إلى تأمل الإبل كيف خلقها الله على هذا النحو الذي يلائم الوظيفة والمكان من حيث التناسب والحركة والتناسق العام.. كما يدعو التوجيه إلى التفكر في السماء بما فيها من منافع وجمال، تتصل بالنهار الواضح، والليل الساجى والنجوم المتلألئة، فضلاً عن تنظيم حركة الحياة وفقاً لحركة السماء. ويدعو التوجيه إلى إنعام النظر والفكر في الجبال الشامخات فهي الملاذ، وهي الصاحب، وهي المشهد الموحى بالجلال والعظمة. وكذلك الدعوة إلى تأمل الأرض وقد مهدها الله للحياة والعمل.

       ولاشك أن الإيقاع الناتج عن الفواصل المتحدة في الحرف الأخير وهو التاء في ألفاظ (خُلقت، رُفعت، نُصبت، سُطحت) ساعد في إجاشة القلب وتحريك الوجدان، وساهم في تكوين الحركة الجمالية المشتركة أمام جمال التناسق التصويري لمفردات الكون. كما أن حركة الفاصلة حركة بناء للمجهول، تستدعي كوامن العقل لسبر أغوارها والوقوف على فاعلها، وفك مجهوليتها، ليصل تلقائيًا إلى أن وراء ذلك كله إله واحد لاشريك له. ولقد ساعد الإيقاع الداخلي الناتج عن تكرار اسم الاستفهام “كيف” الباعث على التساؤل عن الكيفية والحالية، وهو استفهام إعجازي ؛ لأن العقل البشري لن يستطيع أن يعلم كيفية الخلق ؛ ولكنه يدرك أن الله هو الخالق المتفرد بالوحدانية.

       والفواصل متساوية في الوزن تقريباً، والآيات ذات إيقاع موسيقى متحد تبعًا لذلك.. والإيقاع هادئ متزن ساكن يتلاءم مع الدعوة إلى التأمل والتدبر.

       … ويتناسق الإيقاع متلائمًا مع الموضوع من حيث القوة والجرس الصوتي المدوى “المنبثق من الألفاظ بحروفها، والجمل بتراكيبها، والخواتم بشدة جرسها وقرع الأسماع بها”(14).

       ويصبح الإيقاع هادرًا، صاخبًا، قويًا، له رنينه الحاد، وتساعد الفاصلة على نقل ذلك كله إلى الوجدان.

       قال تعالى: ﴿اَلقَارِعَةُ * مَاْ القَاْرِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَاْ القَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَاْلفَرَاشِ الْمَبثُوْثِ * وَتَكُوْنُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوْشِ﴾(15).

       إن المشهد هنا يتسم بالهول العنيف تحدده الكلمة الأولى “القارعة” التي تبدو من خلال السياق كقذيفة تلقى بجرسها الصوتي الرهبة والخوف في النفوس. وتستمر الفاصلة في إحداث هذا الرنين الصاخب الموحش عن طريق التكرار والتوازن، في هذا الجو تتغاير المرئيات وتتبدل فيصبح الناس من الخفة والرعب معًا كالفراشات. وتتحول الجبال إلى رمال مسحوقة كالصوف المنفوش ولعل حرف الشين بهسيسه الصوتي يوحى بهذا الانسحاق والتفتت هذا التلاؤم بين الإيقاع والموضوع فيه تعبير يتراوح بين القصر والطول.. وكذلك تدرج المدّ الصوتي ..

       “فمن تناسق العرض أن تسمى القيامة بالقارعة، ليتسق الظل الذي يلقيه اللفظ والجرس الذي تشترك فيه حروفه كلها، مع منظر الناس كالفراش المبثوث والجبال كالعهن المنفوش”(16).

الهوامش :

  • التصوير الفني في القرآن سيد قطب ص 104 .
  • مكانة الفواصل من الاعجاز – الدارة ربيع الآخر 1410هـ .
  • التعبير الفني في القرآن بكرى شيخ أمين ص 202.
  • سورة غافرة الآية 71-74.
  • سورة الأحزاب آية 25.
  • انظر صفوة التفاسير ج2.
  • مجلة الدارة وانظر البرهان في علوم القرآن للزركشي.
  • علي بين عيسى الرماني مؤلف كتاب: النكت في إعجاز القرآن.
  • الاعجاز البياني للقرآن د. بنت الشاطئ ص 258.
  • القرآن المعجزة الكبرى محمد أبوزهرة ص 287.
  • سورة الضحى الآيات 1-5.
  • الاعجاز البياني للقرآن ص 250.
  • سورة الغاشية الآيات 17-20.
  • القرآن المعجزة الكبرى ص 288.
  • سورة القارعة الآيات 1-5 .
  • مشاهد القيامة ص 76.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذو القعدة 1430 هـ = نوفمبر 2009 م ، العدد : 11 ، السنة : 33

Related Posts