كلمة العدد
داء اليأس والقنوط والإحباط النفسي، أو خلخلة النفسيّة، وإشعارها بالعجز المتناهي عن الصمود والثبات، وتهديد مصالح الأعداء : هو أكبر هدف ظلّ أعداء الإسلام يعملون على تحقيقه ، حتى يجعلوا الأمّة لقمة سائغة يمكن ابتلاعها بكل سهولة . وذلك لأنّ الأمة مهما أُصِيبَت بالانكسار على المستوى العسكري الماديّ، فإنّها تظل قادرة على مقاومة الأعداء ومواجهتهم وإعمال الكرّ والفرّ في مقاومتهم ، ما لم تُمْنَ بالإحباط النفسي واليأس الفكري والهزيمة المعنوية التي هي أشنع الهزائم التي يُصَاب بها فردٌ أو جماعة . إنّ هذه الهزيمة إذا أصابت نفس أمة ، أهلكتها ؛ لأنها تعود إذاً صالحة للتعرض لكل نوع من المهانة والذل .
ولذلك ظلّ الأعداء يستهدفون الأمةَ في كل عصر ومصر في معنويتها ، ويسعون لخلخلة النفسيّة الإسلاميّة وتعريضها للقنوط والإحباط . ولم يكتفوا بإنزال الهزيمة العسكرية والانكسار المادي على الأمة، وإنما ركّزوا عنايتَهم على إصابتها بالهزيمة الداخليّة التي تمسّ أعماقَ الضمير، و تجعله – الضمير – يشعر بالصدمة القاسية الأليمة ؛ فإن نجحوا في تحقيق الانتصار العسكري على المسلمين ، ولم ينجحوا في تحقيق الانتصار المعنوي، تأكّدوا أن انتصارهم قرين الانكسار ، وأنه انتصار مُوَقَّت سرعان ما يتحوّل انكسارًا . وهكذا كان ؛ فربما حدث أن مُنِيَت الأمة بالهزيمة العسكرية لنقص في الاستعداد والتعبئة، أو لحكمة علمها الله عزّ وجلّ ؛ ولكنها عما قليل عادت فأحسنت الكرَّ ، وكسبت المعركة في الجولة اللاحقة، وانتقمت من العدوّ بشكل جعله لا يفكر بعدُ في مقاومة المسلمين .
الحرب النفسيّة هي التخطيط الدقيق الذي يتبنّاه الأعداء في كل معركة يخوضونها مع أبناء الإسلام ؛ لأنهم يعلمون أن المسلمين ذات تركيبة خاصّة لا تقبل الانكسار المعنوي مهما مُنُوْا بالانكسار المادي . ولئن ظلت الحرب النفسيّة إحدى الركائز الرئيسة التي اعتمدها الأعداء في مقاومة المسلمين عبرَ التأريخ : تاريخ الصراع بين الإسلام والجاهلية، فإنّها تطوّرت الآن بتطوّر وسائل الدعاية والإعلام التي يتحكم فيها الأعداء – من سوء الحظّ – تحكّمًا مُطْلَقًا ، ويُتْقِنون استغلالَها في تعبئة الرأي العامّ في العالم كله ، من خلال اختلاق “الحقائق” و وضع “الوثائق” وتكرار الأكاذيب مرات تجعل العالم يتأكد من صحتها وكونها حقيقة ناصعة البياض .
وقد سئمت بعضُ وسائل الإعلام من تقليب الأكاذيب التي فرضتها القوى الصهيوصليبية عليها فيما يتعلق بالحرب الصليبية الصهيونية ضد أفغانستان ؛ حيث تفرّغ عدد لا يُحْصَى من الأجهزة الإعلامية الغربية للتغطية على الحقائق واختلاق “الحقائق” الأخرى مقابلَها ، حتى توهّم العالم أنّ الانتصارات كلها نصيب الكَفَرَة الفجرة أبناء التثليث والصهاينة والوثنيين ومن يواليهم من المنتمين إلى المسلمين الذين شَرَوْا الدنيا بالآخرة وأنّ الهزائم كلّها هي حظّ المسلمين الصادقين المرابطين على الثغر .
ومن هنا فإنّ الدولة الإرهابية رقم واحد على وجه الأرض وهي المسماة بـ “الولايات المتحدة الأمريكية” ظلّت تعتبر القوةَ المعنويةَ لدى الإسلاميين هي التحدي الأكبر والخطر الحقيقي الذي تتضاءل أمامه جميع التحديات والأخطار التي واجهت وتُوَاجـِها في الداخل والخارج ؛ فقد كان صدر في منتصف أغسطس 2002م تقرير في هذه الدولة الفاجرة الطاغية المستعلية المستكبرة بعنوان “تقرير ستراتفور” نصّ على أن التحدي الحقيقي الذي يُرْهِب الولايات المتحدة ليس تنظيم القاعدة؛ ولكنه حالة الاستياء الشديدة التي عمّت شتى شرائح المجتمعات العربية والإسلامية ، من السياسات والمواقف الأمريكية ، التي زادت من حدة الكره ، وأحيت كوامن التحدي .
ولكن التقرير تَجَاهَلَ الأسبابَ الحقيقية التي أدّت ولا تزال وستظل إلى شدة الكره التي نشأت لدى المسلمين تجاه أمريكا . وهي تتمثل في مواقف الكيل بمكيالين : كيل للصهاينة وإسرائيل وأبناء الثالوث والوثنيين وجميع القوى المعادية للإسلام ؛ وكيل للفلسطينيين والعراقيين والأفغان والمسلمين في كل مكان .
إن أمريكا تدرك التحدي الحقيقي الذي يكاد يلتهم كيانَها ويعمّ وجودَها ؛ ولكنها تتعمد التغاضيَ عن الأسباب الحقيقية المؤدية إلى إحياء كوامن التحدي ، وتُفَسِّرها تفسيرًا غير الذي هو في الواقع . ومن هنا ترى العلاج في غير أصل الدواء ؛ فالتقرير المشار إليه كان قد بَرَّرَ الإصرارَ الأمريكي على ضرب العراق – على الرغم من معارضة معظم دول العالم حتى الحليفة لأمريكا – بأنّه – أي ضرب العراق – يهدف إلى زعزعة النفسية الإسلامية وإشعارها بالعجز الكامل عن إمكانية تهديد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط أو في غيره .
على حين إنّ أمريكا تستطيع أن تتجنب التحديَ الإسلاميَ في لحظة واحدة بتصحيح مسار مواقفها من الإسلام والمسلمين بتبنّي العدالة، والاحتراز من الازدواجية ، والإعراض عن الكيل بمكيالين في السياسة العالمية ؛ لكنها لا تحب أن تسير السيرةَ الصحيحيةَ وتتبنّى العدالة ، وإنما تصرّ على ممارسة الظلم ، ومقاومة الحق ، وعلى تبني الإرهاب باسم مكافحة “الإرهاب” ومحاربة الإسلام بعنوان محاربة “الإرهابيين” متعمدةً تسفيهَ المسلمين وتغبيةَ عقولهم .
ومع إصرارها على ممارسة الظلم في حق الإسلام والمسلمين ، تودّ أن تعتمد الحربَ النفسيّةَ التي تخوضها عنيفةً في مواجهة الإسلاميين : الإرهابيين ؛ ففي الاحتفالية الأولى لذكرى 11/ سبتمبر 2001م كان قد عمد الإعلام الأمريكي إلى إبراز التفوق الأمريكي على العالم ؛ حيث كان قد أكد وزير الحربية الأمريكية في حوار له مع قناة (C. B. S) الإخبارية أن الحرب النفسية جزء لا يتجزأ من أهداف الحملة الأمريكية على الإرهاب ، من أجل تأكيد الهيمنة الأمريكية .
فالإحباط النفسي هو الذي تتوخى أمريكا إحداثه لدى المسلمين في العالم كله ، بجانب تحقيق الانتصار عليهم ماديًّا وعسكريًّا و اقتصاديًّا ، أي إنّها لا تهدف إلى هزيمة المسلمين عسكريًّا واقتصاديًّا فقط ، وإنما تهدف إلى جانب ذلك إلى هزيمتهم المعنويّة ؛ حتى لا يخطر ببالهم في الحاضر أو المستقبل مواجهة الحضارة الأمريكية التي هي خير حضارة في العالم!!.
ولكن أمريكا عندما تتجاهل الأسبابَ الحقيقيةَ للكره الذي نشأ لدى المجتمع الإسلامي ضدّها ، وتصرّ على إصابة المسلمين بالإحباط النفسي والهزيمة الداخلية ، تجهل التركيبةَ الإيمانيةَ الأبيّةَ التي أرادها لهم الله عز و جلّ والتي لا تقبل الانكسارَ المعنويَّ الذي يود الأعداء إحداثـَه باستنفاد جميع طاقاتهم و محاولاتهم ؛ لأن المؤمن مادام مؤمنًا يظلّ الأمل والثقة بالله وبنصره عقيدةً راسخةً في قلبه لا تزعزعها الرياح العاتية المعادية .
“وَلاَ تَيْأَسُوْا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّه لاَ يَيْئَأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُوْن” (يوسف /87)
“وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَّحْمَةِ رَبِّه إِلاَّ الضَّالُّوْن” (الحجر / 56) .
ومن هنا لم يقدر الأعداء أن يسلبوا المؤمنَ هذه القوةَ المكنونةَ المذخورةَ التي تشب على محاولة الإخماد ، وتكثر على محاولة التقليل ، وتقوى على مسعى الإضعاف ، وتتجدد على تكاثر المحن ، وتترسخ على استمرار المكايد والدسائس ضدها .
إذا كان الكافر على كفره لا يضعف عن ملاحقة المؤمن ، ولا يفتر عن مقاومة أهل الحق ، ولا يقعد عن الاستجابة لدواعي البغي والعدوان وأوليائه الشيطان ؛ فلماذا يسوغ للمؤمن – ومعه قوة الحق وحافز الصدق واليقين – أن يقعد عن الصمود في وجه الباطل وعن الانتصار للحق وإدالة الإسلام من الجاهلية ، على حين إنه يرجو من الله ما لا يرجوه الكافر منه ولن يرجوه . وهذا ما يُهَوِّن على المؤمن كلَّ بلاء و محنة ، ويجعله يستهين بكل تعب وألم وعذاب . يقول تعالى:
“وَلاَ تَهِنُوْا فِيْ ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُوْنُوْا تَأْلَمُوْن فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُوْنَ كَمَا تَأْلَمُوْنَ وَتَرْجُوْنَ مِنَ اللّهِ ما لاَ يَرْجُوْنَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيْمًا حَكِيْمًا” (النساء / 104).
ومهما استنفد الكفار من الطاقات والمجهودات ، وأعملوا من الدسائس والمؤامرات ليُضْعِفوا المؤمنين ، ويهينوا أولياءَ الله المتّقين ، ويزعزعوا صفوفَهم، ويستأصلوا قوتَهم وشوكتَهم، فإنهم لن يجدوا عليهم سبيلاً ؛ لأن اللّه لم يرد لهم القوة الدائمة والمنعة القائمة ، وإنما أرادهما للمؤمنين ؛ حتى في حالة أشدّ المحن وأعنف وأقسى مواقف الانكسار الذي مُنِيَ به المؤمنون والنبي S بين ظهـرانيهم ، والصراع دائر بين الكفر والإيمان ، والمجتمع الإسلامي في طور النشأة والتكـوين ، والمسلمـونوة والمنعة ، وإنما أراهما الله للمؤمنين ؛ تحت الإعداد و التربية ، وجبرئيل عليه السلام يتردّد بين السماء والأرض ، والوحي لايزال مُنْزَلاً ، واتّصـال السماء بالأرض قائم ، في هذه الحالة : حالة الجرح الغائر الذي أصابهم في غزوة أحد ، لقّنهم الله تعالى ، أن لايهنوا ولا يحزنوا، ولا يشعروا باليأس والإحباط ، ولا يَدَعُوا القنوط يجد إلى قلوبهم سبيلاً ؛ لأنهم هم الأعلَون إذا ثبتوا على الإيمان ، وتمسكوا بأسبابه ، وتوكّلوا عليه تعالى:
“وَلاَ تَهِنُوْا ولا تَحْزَنُوْا وَ أَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ” (آل عمران / 139)
فإذا كانت القوى المعادية للإسلام عاملة دائمًا على إصابة المسلمين باليأس والهزيمة الداخلية والانكسار المعنوي ، فإنّ الله عزّ و جلّ يأبى إلاّ أن يملأ قلوبَهم بخزائن لا تنفد من القوة المعنوية ، والرجاء الكبير ، والأمل الكثير ، والثقة التي لا ينضب معينُها ، ولا ينفد مددُها ، ولا ينتهي رصيدُها .
في هذه المرحلة الحاسمة الفاصلة القاصمة من تارخ الأمة ، التي تألّب فيها عليها الأعداء من كل جانب ، واصطلحوا عليها رغم ما بينهم من خلاف وشقاق ، يجب أن يركّز العلماء والدعاة على تربية هذا الرجاء في قلوب أفراد الأمة . وتلك التربية تتطلب قدوات حيّة صالحة ونماذج ماشية على وجه الأرض .. قدوات أبية على المادة والمعدة ، ذائقة لحلاوة الثقة واليقين ، ثابتة على الحق ثبوت الجبال الراسيات ، قائمة على الدين وثوابته في أشدّ المحن وأسوأ الفتن ، وقابضة عليه في وقت عصيب يكون القابض عليه كالقابض على الجمر، متحليه بالإيمان الذي يصنع المعجزات ، وتظهر به خوارق العادات ، وتتحير أمام صنائعه العقول والأفهام .
إننا نتأكّد أن هذا الدين لا يزال حيًّا ناضرًا طازجًا بأمثال هؤلاء المؤمنين الذين يعضّون عليه بالنواجذ ، ويهبّون لنصرته والذبّ عن حياضه ، مهما انفضّ عن نصرته المُتَحَذْلِقون ، الذين يحسنون القولَ ويسيئون الفعلَ ، ويسبقون إلى القوَّالية ، ويتخاذلون ويتكاسلون لدى الفعَّاليَّة .
إنّ المحن والأزمات آتية في سبيل الحق ، ولن يصبر عليها ولن يتحمّلها إلا المؤمنون المستعينون بالله . وهم موجودون في كل زمان ومكان ، لن تخلو منهم الدنيا إلاّ إذا شاء الله أن تقع الساعة المقدرة في علمه المحكم وقدره المحتم . ولن تضرّ أمريكا ، ولن تُفْشِل الصهاينة وأبناءُ الثالوث وعبادُ اللات والعزى الإسلامَ والمسلمين بمحاولات الإحباط والتقنيط ، ما دام الله تعالى يريد أن يكون له جنوده الأوفياء ، وعباده الأولياء ، والمستميتون في سبيله ، والمسترخصون أنفسَهم في الدفاع عن الحق .
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذو القعدة 1430 هـ = نوفمبر 2009 م ، العدد : 11 ، السنة : 33