بين المُؤَهَّل الحقيقي والمُؤَهَّل غير الحقيقي

إشراقة

كسبُ الرجال، والتاثيرُ فيهم، وفرضُ الذات عليهم، وإشعارُهم بأهميّة الشخصية، وقيمةِ الأهليّة، وكثرةِ الغَنَاء، وإيهامُهم بأنّ صاحبَها – الشخصيّة – بحيثُ لامعدى عنه للمؤسسة أو الشركة، أوالفرد أو الجماعة، أو المدرسة أو الجامعة، أو الجمعيَّة أوالمنظمة في تحقيق الأعمال، وإنجاز المشاريع المُسْتَهْدَفَة .. فنٌّ يُتْقِنه كثيرٌ من الناس في المجتمع. وليس بالضرورة أن يكونوا مُؤَهَّلين قادرين على العطاء، حريصين على الأداء؛ ولكنهم بالتأكيد يكونون مُؤَهَّلِين تأهيلاً مُطْلَقًا لفرضِ الذات، وتأكيدِ أهمّيَّةِ النفس، وكونِهم ذوي غَنَاء ثرّ، وإفاديّة لانهاية لها .

       وعلى العكس منهم بعضُ الناس يكونون مُؤَهَّلِين لائقين مائة في المائة أو بنسبة أكبر من ذلك – إذا صَحَّ التعبيرُ – بالنسبة إلى كثير من الأعمال؛ ولكنهم يكونون بُلْهًا بَلاَدِمَ في فرض الذات، وكسبِ الرجال، والتأثيرِ فيهم، وجعلهم يُعْجَبُون بهم الإعجابَ اللائق، ويُحِلُّونَهم المحلَّ الذي يُنَاسِب مكانتَهم العلميَّة الغَنَائِيَّة .

       الفريقُ الأوَّلُ قد يُحْرِز النجاحَ الكبيرَ في ساحة العمل دون تحقيق شيء من الأعمال التي يُكَلَّف إِيَّاها؛ لأنه يُتْقِن ما يُكْسَب به النجاحُ، وهو القدرةُ الفائقةُ على التأثير في الرجال المَعْنِيِّين وعلى فرض الذات عليهم، وجَعْلِهم يتأكّدون أنه كبير النفع، كثير الغَنَاء، والمُعَوَّل عليه في تحقيق المطالب المُسْتَعْصِية؛ فلا بدّ من تكريمه، ومنحه كلَّ ما يرغب فيه، ويحرص عليه، ويتوخّاه من وراء الأعمال التي كُلِّفَ القيامَ بها. والعاملُ الكبير الذي يُعِينه على كسب الناس، هو أنّه مُؤَفَّرٌ عليه الوقتُ؛ لأنّه لم “يُضَيِّعْه” في أداء الأعمال المنوطة به والوظيفة المُسْنَدَة إليه.

       والفريقُ الثّاني قد يُخْفِق في كسب النجاح؛ لأنه يَفْقِد الأهليَّةَ المطلوبةَ لكسب الناس، والتأثير فيهم، وجعلهم يُعْجَبُون بقيمته وقامته فيما يتعلّق بالوظيفة التي نِيْطَتْ به؛ لأنّهم – الناس – في الأغلب لا يُعْجَبُون بمجرد الأداء والإفاديّة التي يرونها لدى الفرد الذي كَلَّفُوه عملاً من الأعمال، وإنّما يُعْجَبُون في الأغلب بالتملّق والتــزلّف، اللذيــن يُتْقِنُهما من يقـلّ أهليّــةً عمليــة ويتضاءل كَفَاءَةً أدائيـــة؛ ولكن يكثـــــر أهليّة للتأثير في غيره وكسبه لصالحه. والعاملُ الذي يجعله يتأخّر عن كسب الناس واستمالة المسؤولين، هو أنّه لايجد فرصةً ما لكونه يظلّ عاكفًا على عمله، ومنصرفاً إلى القيام بوظيفته؛ لأنه طُبـِعَ على الحرص على الأداء والإكثار من الإنتاج والعطاء؛ فهو يظلّ رهينَ العمل والتحرك، ويَشْعُر بخيانة الضمير إذا صدر منه أيُّ إهمال في الأداء لسبب من الأسباب المُضْطَرَّة .

       الفريق الأوّل بما أنّه مُقَصِّر في العمل، وعاجز عن الإنجاز والإنتاج؛ فالفرصةُ مُتَاحَة لديه؛ فهو يصرفها في كسب الرجال المَعْنِيِّين، وفرض ذاته عليهم، واضطرارهم إلى أن يؤمنوا بإفاديّته المُطْلَقَة، ويُحَقِّقُوا له كلَّ ما يستهدفه من الأغراض من وراء الوظيفة التي تَوَلاَّها؛ ولاسيّما لأنّه يملك اللسانَ الذِّرْب، والقدرةَ البالغة على الثرثرة التي يظنّ الناسُ عادةً أنّ صاحبَها كثير الغَنَاء وكبير الكَفَاءَة؛ لأنهم لايتلمّسون آثارَه في العمل والإنتاج، وإنّما يتأثّرون بطلاقة لسانه، وحلاوة حديثه، وقدرته على جعلهم يؤمنون بأنّه مُؤَهّل تأهيلاً مُطْلَقًا .

       وقد كتبتُ أكثر من مرّة في هذه الزاوية وغيرها: أنّ أعضاء المجتمع في الأغلب لايؤمنون بأهليّة مُؤَهَّل لمجرد أنه يحملها، وإنّما يؤمنون بها إذا امتلك المُؤَهَّل أهليّةَ إقناعهم بأهليّته. ولابأس إذا فَقَدَ أهليّةَ العمل إذا امتلك أهليّة الإقناع! إنّه من الرزيّة حقًّا أن يُعْجَب الناسُ بأهليّة من يملك مجرّدَ أهليّة إقناعهم بأهليّته، حتّى ولو فقد أهليّةَ العمل والإنتاج .

       إنّ المُؤَهَّلَ الذي يفقد قدرةَ إقناع النّاس بأنّه مُؤَهَّل، قد لا يُحَقِّق مكسبًا، ولا يجد مطلبًا، ولايُحْرِز إعجابًا، ولايُصَفِّق له المجتمع، ولا يُطَبِّل له الناس، ولايجد ممن حوله تشجيعًا، ولايحصد منهم ثناءً. أمّا الذي يملك قدرةَ إقناع الناس بكونه مُؤَهَّلاً – سواء أ كان مُؤَهَّلاً أو لم يكن – يُحَقِّق جميعَ مكاسبه التي يَتَوَخَّاها، ويُخَلِّف بعده ألسنةً تثني عليه، وتذكره في المجالس، وتُصَفِّق له حالَ حياته بكل ما فيه وما ليس فيه.

       الذي يجمع بين الأهليّة العمليّة وأهليّة إقناع الناس بكونه ذا أهليّة فهو أسعد النّاس في المجتمع، والذي يفقدهما معًا فهو أشقاهم فيه، والذي يملك فقط أهليّة إقناع الناس بأنّه ذو أهليّة ولا يملك أهليّة عملية في الواقع فهو أسوأ النّاس وأخبثهم؛ لأنه يكون أنانيًّا مُغْرِضًا مُعْجَبًا بنفسه، حريصًا على أغراضه، لايهمّه إلاّ مصالحه الخاصّة، ولا يبالي بشكل بشيء من المصالح العامّة، وهو حُوَّل قُلَّب فيما يتعلق بجلب منافعه ودفع المفاسد عنه، وتحقيق الأغراض بكل ما أُوْتِيَ من قدرة الخداع والمكر، والدهاء والتأثير، وفرض شخصيته على عقول الناس وقلوبهم، والتلاعب بألبابهم .

       أما أشدُّ الناس حرمانًا وأقلُّهم حظًّا فهو من يملك القدرةَ العمليّةَ الفائقةَ ولأهليَّةَ الأدائيَّةَ الممتازةَ؛ ولكنّه يفقد تمامًا قدرةَ إقناع الناس بأنّه مُؤَهَّل، وأنّه أقدر على العمل والإنتاج فعلاً، وأنه يُسَخِّر كل فرصه في العمل والأداء، حتى إنّه لايجد فرصةً حتى لتحقيق بعض حوائجه الشخصيّة المُلِحَّة من الاهتمام بالصحّة، ومراجعة الأطبّاء، والتردّد على العيادات، وشراء الأدوية التي وَصَفَها له بعضُ الأطبّاء، فضلاً عن أن يجد فرصةً للاختلاف إلى أخلاط الناس والتردّد على المسؤولين، والتأثير فيهم، والتملّق لهم، والإكثار من عقد العلاقات، وإقامة الصلات، واستثمارها لدى الحاجة لتحقيق غرض من الأغراض الذاتية ومكسب من المكاسب الماديّة؛ وبالتالي لايجد فرصةً لتشهير نفسه، والتحدّث عنها، والإشادة بشخصه، وتعداد فضائله، والانتماء إلى محاسن لاتوجد فيه؛ ولكن الفريق الأوّل يتحدث عن فضائل لاتوجد فيه مرّات لاتُحْصَىٰ، فيعود الناس يعتقدون أنه مجمع المحاسن كلّها ومصدر الفضائل جميعها؛ وأنه عجيب في عيون العجائب؛ وأنه فريد عصره، و وحيد دهره؛ وأنه نسيج وحده حقًّا؛ وأن الله قد أراد أن يكون هو الأوّل فلا يُرَىٰ له ثانٍ .

       وتشتدُّ عليه – من يملك الأهليّة العملية الممتازة ويفقد قدرة إقناع الناس بأنّه مُؤَهَّل لا نظير له – المصيبةُ عندما يجد بعضَ الناس ممن يفقدون الشعورَ – وهم  كُثْرٌ في المجتمع – وأهليَّةَ الفرز بين الحجر والحجر الثمين، يعتقدون أنّه لاغَنَاءَ فيه، ولا فائدة منه، وأنّه كعامّة الناس. إنّ مثله حظُّه في الدنيا قليل، ونصيبُه من الثناء والتشجيع، والتصفيق والتحبيذ ضئيل، ولا عمدةَ له إلاّ على جزاء الله الموفور، وأجره المذخور، إذا كان من الذين يتّصلون به تعالى برباط وثيق. وإلاّ فإنّه يكون ممّن خَسِرَ الدّنيا والآخرة. وذلك هو الخسرانُ المبين .

       المُؤَهَّل الحقيقيّ لايجد في وقته سعةً لأيّ من الأمور التي لا تعنيه؛ لأنّه يَتَعَوَّد الانصرافَ إلى العمل والإنتاج، ويُشْغَف حبًّا بوظيفته، ويعود حريصًا عليها وكَلِفًا بها وراغبًا في أدائها على أحسن ما يُرَام؛ فلا يجد لذّةً إلاّ في الشغل بها، والتفكير في شأنها، واتّخاذ كلّ تدبير للقيام بها بشكل أتمّ من كلّ الوجوه. والمُؤَهَّل غيرُ الحقيقيّ أي الذي لايكون مُؤَهَّلاً في الواقع، وإنّما يحمل القدرة على تشهير الذات، وفرض الشخصية، وبسط سيطرته على المجتمع، والتحدّث عن فضائله في كل مجلس، يجد الفرصَ مُيَسَّرَةً للاهتمام بالفضول، والتأكيد على محاسنه، وإقناع الناس بأنّه كبيرُ الكبراء، وأنه العصا السحريّة لكلّ الأعمال، والمفتاح الذكي لفتح كلّ الأقفال التي تستعصي على المهندسين البارعين والفَنِّيين المُتَفَنِّنِين.

       المُؤَهَّل الحقيقيّ لذّتُه مركوزة في العمل، وجنّته هي غرفة العمل، وألطفُ أجوائه جوُّ التشاغل بالأعمال، والإتقانُ أحلى آماله، وأداءُ مهامّه على أحسنِ وجهٍ أَرْوَحُ راحة يتمتّع بها في حياته الدنيا تحت أديم الساء وعلى ساحة الأرض.

       المُؤَهَّل الحقيقيّ لايهتمّ بكسب الناس على غير طريقة شرعيّة؛ لأن إتقانَه للعمل هو الشافع الشرعيّ، والمُوَصِّي القويّ، والمُزَكِّي الذي تُقْبَل تزكيتُه في كل مناسبة؛ فلا يحتاج إلى فرض ذاته على المجتمع بالثرثرة، والطلاقة اللسانيّة، والقدرة الكلاميّة، والاستناد إلى المُؤَهِّلات الصِّنَاعِيَّة غير الحقيقيّة التي لا توجد فيه ولم توجد في آبائه وأجداده؛ لأن المُؤَهِّلات الحقيقية التي توجد فيه فعلاً، فيها مقنع وكفاية وبلاغ، وهي كالشمس طالعةً، تكون دليلاً على ذاتها، ولا تحتاج لثبوتها إلى دليل آخر.

       المُؤَهَّل غير الحقيقي الذي يقدر على فرض ذاته على المجتمع؛ إنما يعتمد في ذلك على أسباب غير حقيقيّة، وهي قد تنكشف للناس بعد حين، فيفتضح أمره، وينكشف الغبار عن حماره، ويعلم المجتمع بقيمته وقامته: بقيمته الضئيلة وقامته القصيرة؛ لأن التزييف مصيرُه الزوال وعدم البقاء، والغشُّ لا يدوم مستورًا، والخداعُ يشكف الله غطاءَه، فيعود صاحبُه ذليلاً مهينًا، بعدما يكون عزيزًا كريمًا لحين من الدهر بحيلة من دهائه، وقدرته على فرض الذات، وتلميع الشخصية، والتأكيد على عظمته الصناعيّة وأهليته الزائفة .

       والمُؤَهَّلُ الحقيقي مهما ظلّ مستورَ الحال، خاملَ الذكر، صامتَ المقال، لعدم قدرته على فرض الذات على المجتمع، وإقناع الناس بأهليّته، ومهما بقى مُهَدَّرةً قيمتُه لحين من الدهر، فإنه يومًا ما ينكشف لُجَيْنة الصافي، فيُهْرَعُ الناسُ إلى تكريمه، وتقدير قيمته، والاحتفاء بعظمته. ولكل أجل كتاب عند الله العليم الحكيم. وإنّ النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإنّ مع العسر يسرًا .

       المُؤَهَّل غير الحقيقيّ، الذي يكون: “مُؤَهَّلاً” فقط بقدرته الكلاميّة، وثرثرته اللسانيّة، وأهليّته لبسط سيطرته، وفرض ذاته، وإقناع الناس بأنّه هو العقل الأكبر، والحيلةُ الناجزة؛ وببراعته في خداع الناس، وسحرهم بمكره ودهائه، مهما بدا “كبيرًا” ولاح للناس “كريمًا” ذا قيمة وذا غَنَاء وكفاية؛ فإنّه كلُّ مُدَّخَراته هو قدرتُه على تخدير العقول، وإسكار الأدمغة، والتعامل بالعملات المُزَيَّفَة التي لا تُتَدَاوَل طويلاً، وإنما تَتِمّ مصادرتُها وضبطُها ولو بعد حين .

       مصيرُ المُؤَهَّل الحقيقي – عاجلاً أو آجلاً – مصير زاهر مشرق إذا صبر و وثق بالله، ومصيرُ المُؤَهَّل غير الحقيقي – عاجلاً أو آجلاً – مصيرٌ مُظْلِمٌ مشؤوم . وذلك ما تُؤَكِّده التجاربُ، وحالاتُ الزمان، وحوادثُ التاريخ، وإشاراتُ الحكمة البشريّة، ونصوصُ الشريعة الإسلاميّة .

       وذلك ما فيه العمدةُ للمُؤَهَّل الحقيقي غيرالقادر على فرض الذات، بفنّ المكر، وحيلة الدهاء.

أبو أسامة نور

( تحريرًا في الساعة 11 من ضحى يوم الإثنين: 8/شوال 1430هـ = 28/سبتمبر 2009م ) .

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذو القعدة 1430 هـ = نوفمبر 2009 م ، العدد : 11 ، السنة : 33

Related Posts