الأدب الإسلامي

بقلم : الأستاذة فاطمة الوالي

إن القارئ والسامع عنصران أساسيان في عملية التلقي؛ لكن لكل منهما دلالاته الخاصة، و”مصطلح المتلقي أشدّ دلالة على الحال السماعية للشعر من مصطلحات أخرى كمصطلح القارئ، والسامع بوصفه مصطلحاً شاملاً تنضوي تحته أنماط التلقي الشفاهية أو السماعية فضلاً عن القرائية”(1)

لهذا يحظى المتلقي السامع بأهمية كبيرة في الأدب العربي لارتباط الشعر بالإنشاد حيث كان يسمع مباشرةً في بعض المواقف الاجتماعية وفي سوق عكاظ، وأكد هذا مجموعة من الدارسين كقول د. رشيد يحياوي “وقد لا نكون في حاجة لكي نؤكد أن الأداء الصوتي كان أسبق من الكتابي، بحكم تأخر الكتابة عن مرحلة نشوء اللغة، وهو أمر يستنتج كذلك من وضعية إرسال الشعر في العصر الجاهلي؛ حيث يثبت أغلب المؤرخين تخلف استعمال الكتابة في ذلك العصر وميل جمهور المتلقين إلى تقبل الشعر عن طريق الإلقاء المباشر وحمله عن طريق الرواية، وهي ظاهرة كانت لها مبررات اجتماعية تمثلت في المواقف الاجتماعية التي كان يوظف فيها الشعر كالمفاخرات والمنافرات والدعوة للصلح أو الحرب مما كان يتطلب الإلقاء المباشر للشعر، ومما كان يتطلب أيضاً الإجادة في الإلقاء، أي التحكم في مخارج الحروف وحسن توظيف الأصوات مع الخلو من العيوب الصوتية”(2).

ولم يكن المتلقي السامع مرتبطاً بالشعر فقط؛ بل ارتبط كذلك بالقرآن الكريم بعد مجيء الإسلام؛ لأنّ القرآن الكريم يسمع ويقرأ، وسماع القرآن واجب على كل مسلم ومسلمة.

وهذه ميزة للعرب عن باقي الأمم الأُخَر لهذا قال د.محمد مبارك “وللعرب ميزة في نظرية التلقي قد تجعل الآداب العربية افتراقاً عن بعض الآداب الأُخَر، وهذه الميزة مستمدة من عاملين أساسيين: الأول القرآن الكريم إذ أوجد نوعين من التلقي أحدهما مرتبط بالآخر، هما التلقي الشفاهي والقراءة؛ فالإنصات لتلاوة القرآن وهو تلقٍ شفاهي سيظل ما بقيت للزمان بقية؛ إذ لا يكتفي بقراءة القرآن فلا بد من السماع إذاً، والسماع تلقٍ شفاهي دون شك والآخر هو الشعر، والشعر العربي ينشد ويغنى أي بحاجة إلى متلقٍ شفاهي”(3).

ونظراً لارتباط المتلقي السامع بالشعر وبالقرآن الكريم حظي بأهمية كبرى في التراث العربي القديم؛ فالشعر العربي في حاجة إلى السماع أكثر من القراءة، لهذا يسعى الشاعر إلى أن يوفر في قصيدته ما يربطه بجمهوره، فاهتم بالأوزان الصوتية وبأنواع القوافي حتى يضمن أكبر قدر من الغنى الصوتي لارتباط الشعر بالغناء ولتأثير هذا الأخير على المتلقي “وهو تأثير نفسي فسيولوجي يسري فيه الصوت الحسن، وقيل الغناء غذاء الأرواح كما أن الطعام غذاء الأشباح، وهو يصغي الفهم ويرفق الذهن ويلين العريكة، ويثني الأعطاف ويشجع الجبان ويسخي البخيل”(4).

يزيد الإنشاد والغناء من قيمة الشعر الجمالية؛ بل أكثر من ذلك أن الشاعر نفسه كان يطرب إذا يُغنّى شعره، لهذا كانت الحاجة قوية إلى سماع الشعر والقرآن الكريم معاً.

عبّر عن هذا ابن قتيبة بقوله: “وكل علم محتاج إلى السماع، وأحوجه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر، لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة، والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه؛ فإنك لا تفصل في شعر الهذليين إذا أنت لم تسمعه بين “شابة” و”ساية” وهما موضعان، ولا تثق بمعرفتك في حزم نبايع، وعروان والكراث، وشسي عبقر وأسد حلية، وأسد ترج، ودفاق، وتضارع، وأشباه هذا؛ لأنه لا يلحق بالذكاء والفطنة كما يلحق مشتق الغريب”(5).

فابن قتيبة يوضح للمتلقي الفرق بين سماع الشعر وقراءته، ويعطى مجموعة من الأمثلة تدل على ذلك موضحاً بواسطتها، أين تكمن أهمية سماع الشعر؟ وإذا كان قد عبّر في هذا النص صراحةً عن أهمية سماع الشعر؛ ففي نصوص أُخَر نستشف ذلك خلال حديثه عن بعض القضايا مثل قوله: “أراك في صدر البيت عجزه”، فهذا دليل على سماع البيت وليس قراءته وذهب إلى هذا د.محمد مبارك بقوله: “ونبه ابن قتيبة إلى صفات أُخَر في النص منها وضوحه وعدم انغلاقه.. واعتمد موحيات مكانية قريبة من أحاسيس المتلقي ليدركها بيسر، مثل الصدر والعجز الفاتحة والقافية ورونق الطبع ووشي الغريزة.. وتلك علامات تدلنا على التلقي الشفاهي الذي يقوم على اللمحة السريعة الدالة والقدرة على إثارة الانتباه والإعجاب، والتفاعل السريع مع مجرى النص”(6).

المتلقي السامع من خلال بناء القصيدة العربية:

       لم يتوقف ابن قتيبة عند حديثه عن المتلقي السامع عند هذا الحد؛ بل جعل من بناء القصيدة العربية بالشكل المعروف لجنب انتباه السامع وجعل سبب كل غرض مرتبطاً به يقول: وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد، إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، ثم وصل ذلك بالنسيب؛ فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه، لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب.. لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء؛ فليس يكاد (…) فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه.. والاستماع له (…) فلم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد”(7).

       فهو يشير إلى أن الشاعر استهل القصيدة بالنسيب لمراعاة الحالة النفسية للسامع؛ فهدفه هو إمالة القلوب نحوه ولفت انتباه المتلقي؛ لأن التشبيب قريب من النفوس فهذه الحالة الوجدانية الشعورية تجلب السامعين إلى الإصغاء، لأنهم يتمثلونها تمثلاً دقيقاً، وترغمهم على الإصغاء للشاعر ومشاركته آلامه وإحساسه، لأنه يعاني شدّة الشوق وألم الفراق، وهكذا لما يتأكد الشاعر بأنه جلب انتباه الجمهور ينتقل إلى الرحلة، وهي رحلة شاقة جداً يجمع لها كل ما يخطر بالذهن من مصاعب ومشاق ومعاناة؛ فينتقل بالسامع من حالة المشاركة الوجدانية إلى حالة العطف والإشفاق: “فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير”(8).

       وفي هذا المقطع بالذات يقصد الممدوح؛ لأن هدفه من ذلك أن يعرف ما عاناه الشاعر للوصول إليه من مشاق ومتاعب؛ حتى يصبح أسخى الممدوحين، ويغدق عليه العطايا، وفي النهاية ينتقل إلى الغرض الرئيس أي المدح؛ فبناء القصيدة بهذه الطريقة إنما تستدعيه الرغبة في جلب انتباه السامعين، ويلح ابن قتيبة على الشاعر أن يهتم بهذا النظام وأن يراعي حالة السامع؛ فلا يطيل فيمل ولا يجيز فيقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد، وهذا ما أشار إليه إحسان عباس بقوله “فابن قتيبة يؤمن أن بناء القصيدة على هذه المقدمات إنما كانت تستدعيه الرغبة في لفت الانتباه وإشراك السامعين في عاطفة الشاعر، وهي عاطفة تسهل المشارك فيها؛ لأنها قريبة إلى القلوب جميعاً، كما يرى إن مبنى القصيدة لا بد أن يظل متناسب الأجزاء معتدل الأقسام؛ فلا يطيل في قسم منها فيمل السامعين، ولا يقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد”(9).

       ما يمكن استخلاصه من النص هو أن ابن قتيبة اهتم بالثقافة السماعية، واعتبر الشعر بعد الدين أحوج العلوم إلى السماع.

       فالمتلقي السامع حاضر عند ابن قتيبة في تفسيره لبناء القصيدة العربية وحاضر عند الشاعر عند نظم قصيدته، إذاً فبناء القصيدة العربية على الطريقة المعروفة هو اهتمام بالمتلقي السامع، وذهب إلى هذا د. إحسان عباس بقوله: “ومن التفت إلى الشاعر واهتم به هذا الاهتمام بين الأركان الثلاثة” الشاعر – الشعر– الجمهور– كان لا بد أن يعرج على ما يحتاجه الشاعر من ثقافة، ولهذا نجد ابن قتيبة يخص الثقافة السماعية بالاهتمام”(10).

       يعتبر نص ابن قتيبة من أقدم النصوص التي حاولت تفسير بناء القصيدة العربية، لهذا فالدراسات التي جاءت بعده انطلقت منه، منها ما أيدته أو عارضته، أو أعطت تفسيراً مغايراً؛ بل هناك من هاجمه أو انطلق من تفسره هذا وأعطى تفسيراً لا نصيب له من الصحة، وهذا ما أشار إليه سعيد الأيوبي بقوله: إنه لم يتعرض أي نص للطعن والتأييد والتفسير كما حدث مع هذا – يقصد نص ابن قتيبة – فما أكثر ما ناقشه الباحثون فارتضاه قوم وأنكره آخرون، ويبدو أن ابن قتيبة لم يفهم أو قد أوّل ( تأويلاً خاطئاً)”(11).

       لهذا سأتطرق إلى بعض الآراء الواردة فيه وخصوصاً التي لها علاقة بالمتلقي السامع.

       افتتح ابن قتيبة نصه بقوله “وسمعت بعض أهل الأدب” فسلطة السماع فارضة نفسها، وهو يقرر ويعترف بأنه سمع، وبالتالي سيأتي كل عنصر مرتبط بالآخر؛ فالشاعر عليه ألاّ يطيل فيمل السامعين، وهذا ما ذهب إليه الدكتور نزار التجديتي بقوله: “ثمة عدد من السلطات الثقافية التي يحيل إليها الملفوظ، فهناك “أ” سلطة السماع، و”ب” سلطة المؤسسة “أهل الأدب” و “ج” سلطة الميت مقصد القصيد الأول أي مبتدئ ومد شن وواضع القصيد الأول. والملاحظ أنّ سلطة هذه العناصر التلفظية الثلاث تقوم – بالإضافة إلى بداهة وجود شرعية تمنحها إياها مسلمات الثقافة وأولويات العصر على شكل دائري: فالعنصر”أ” يقوم على العنصر “ج” والعنصر “ب” يستند إلى العنصر “أ” و “ج” وهكذا”(12).

       من هذا النص يتضح الاهتمام بالمتلقي السامع بالنسبة لابن قتيبة، كمتلقي أو كسامع إلى بعض أهل الأدب “وكمهتم بالمتلقي السامع وكدارس للقصيدة العربية. لهذا فهو في دراسة لها انطلق من واقع عصره؛ فبين للشاعر الطريقة المربحة والتي ستدر عليه أموالاً طائلةً، فاهتمامه بالمتلقي السامع وبالمدح لم يكن عشوائياً، لكي ينال الشاعر رضى السامع والممدوح، لا بد من إتباع الطريقة التي رسمها له؛ لأنها هي التي كانت سائدة في عصره وعبر أحد الدارسين عن هذا بقوله: “إن الثوب الذي فصله ابن قتيبة للشعراء لم يكن خلقًا من عدم؛ بل الثوب المناسب للعصر واللون والمطلوب من الشاعر، وإن كان هناك من الشعراء وجده غير متسع لمنكبيه بدافع من الغرور الذاتي أو بنوع من الإحساس بالمهانة(13).

       فالمدح حسب هذا الدارس هو الذي سيرفع من شأن الشاعر ويصبح من جلساء القصر، ويحصل على أموال طائلة وابن قتيبة كان واعيًا بذلك لهذا رسم للشاعر الطريقة المربحة.

       نعم لقد كان ابن قتيبة واعيًا بمتطلبات عصره، لكن لا يمكن اعتباره ماديًا صرفًا إلى درجة أنه اهتم ببناء القصيدة العربية من أجل أن يحصل الشاعر على المال؛ بل على العكس من ذلك لم أعثر في حياته الشخصية على حبه للمال لهذه الدرجة وإيمانه به، بقدر ما عثرت على حبه للعلم وللثقافة العربية، فابن قتيبة اهتم ببناء القصيدة العربية؛ لأنه دارس محب للأدب والعلم بالدرجة الأولى، لهذا لا يمكن النظر إلى نصه نظرةً ضيقةً ،وبالتالي اتهامه عدة اتهامات؛ بل يجب النظر إليه من كل جوانبه، وإلى جانب ما سبق أورد سعيد الأيوبي في كتابه عناصر الوحدة والربط في الشعر الجاهلي مجموعة من الآراء ناقشت نص ابن قتيبة و”سمعت بعض أهل الأدب”، واختلفت النقاشات والآراء فيه وأقتصر على إيراد بعضها وخصوصًا التي لها علاقة وطيدة بالمتلقي السامع، وفي مقدمتها رأي الدكتور عز الدين إسماعيل الذي ألح على قصور تفسير ابن قتيبة حين اعتبر النسيب أداةً فنية موجهةً للمتلقي، هدفها جلب انتباهه يقول: إلى ما في هذا التفسير من قصور مبعثه اعتبار النسيب أداةً فنّية موجهة إلى المتلقي على حين أن هذا النسيب يحسم ارتداد الشاعر إلى نفسه وخلوه إليها، وهو بذلك يعد الجزء الذاتي في القصيدة”(14).

       وإن كان النسيب يعد الجزء الذاتي في القصيدة لا يمنع من توجيهه إلى المتلقي ليشارك الشاعر حالته الوجدانية العاطفية؛ لأنه قريب من النفوس.

       أما. د. محمد فتوح فقد اعتبر رأي ابن قتيبة يتوفر على وعي نقدي مبكر بماهية المقدمات من حيث هي آصرة وجدانية بين المبدع والمتلقي ثم من حيث هي ضرب من التقاليد الفنية تتجلى من خلاله صيرورة كليهما إلى ميراث من الأعراف الشعرية المشتركة ، وثم ثم يمكن القول بأن مقدمة القصيدة رغم ما يبدو من ذاتية مصدرها في نفس المبدع هي في التحليل الأخير مشتركة وجماعته من حيث عموم الإحساس بها”(15).

       وأعطى د.يوسف اليوسف في كتابه “مقالات في الشعر الجاهلي” تفسيرًا مغايرًا؛ حيث اعتبر افتتاح الشاعر بالنسيب تعبير عن إحباطاته وعن ميولاته وغرائزه المكبوتة يقول “أما الركيزة النفسانية التي قدمها ابن قتيبة والتي ترمي إلى أن الشاعر الجاهلي كان يطلع بالنسيب ليمتلك انتباه السامع أو القارئ نظراً لاجتذاب الغزل للإنسان، فهي على الرغم من أنها تحمل شيئًا من الصحة بعيدةً كل البعد عن إصابة كبد الحقيقة، لقد اعتاد الشاعر الجاهلي أن يستهل قصيدته بالنسيب والطللية شكل من أشكال النسيب بالتأكيد في غالب الأحيان؛ لأن الجنسية هي أشد دوافعه حاجةً إلى التلبية والإنسان نزاع دوما إلى الحديث عن دوافعه المحبطة(16).

       فيوسف اليوسف يرى أن ابتداء الشاعر بالنسيب هو تعبير مباشر أو غير مباشر عن القهر الجنسي الذي يتعرض له؛ لكن هذا الرأي بعيد عن حقيقة وواقع الشعر الجاهلي لأن الشاعر الجاهلي عبر عن عواطفه الصادقة وليس عن رغباته المحبطة.

       أما الدكتور محمد مندور فاعتبر بناء القصيدة تقليداً من تقاليد الشعر الجاهلي يقول: “هذه النظرية التقريرية في تفسير تأليف القصيدة العربية فليس صحيحا أن الشاعر المادح هو الذي فكر أن يبدأ بالديار والحبيبة والسفر وما على ذلك ليمهد لمديحه، وإنما هي تقاليد الشعر الجاهلي التي استمرت مسيطرةً بعد أن دخل التكسب في الشعر(17).

       وإذا اعتبر الدكتور محمد مندور هذا البناء تقليداً متوارثاً فما هو السبب الذي جعله يكون تقليداً؟ ألا يمكن أن يكون اهتمام الشاعر بالمتلقي؟ فالدكتور محمد مندور اكتفى بالقول هو تقليد ولكنه لم يبحث عن سبب هذا التقليد.

       تعددت القراءات لنص ابن قتيبة وتوالت الدراسات وكل واحد تناوله انطلاقًا من أفق توقعه لهذا اندمجت بعض الآفات مع الناقد في حين تعارضت آفاق أُخَر.

       ويعتبر سعيد الأيوبي من بين الدارسين الذي اندمج أفقه مع ابن قتيبة حيث اعتبر دراسته للقصيدة العربية دراسةً شاملةً لكل الأغراض فقال: وأحب أيضا أن أغتنم هذه الفرصة لأرد المياه إلى مجاريها، والحق إلى نصابه ليطرد إلى غايته وأؤكد أننا إذا نظرنا إلى النص في أصله كما أورده ابن قتيبة وكما أثبتاه قبل حين لا نجده يقرر أن ثمة قسماً من القصيدة هو مقدمة لقسم آخر، هو غرض القصيدة الرئيس، كما تذهب بعض الدراسات النقدية الحديثة”(18).

       فاندماج الآفاق هذا راجع إلى ثقافة الناقدين معًا وإلى اتفاق نظرتهم إلى الشعر الجاهلي. وكذلك د. محمد فتوح أيده وانطلق من أفق ابن قتيبة ليبين أن له وعياً مبكراً بماهية المقدمات، وهكذا اندمج أفق الناقدين معًا، ونظراً إلى مقدمة القصيدة كونها تمثل ذاتية الشاعر وجماعية المتلقي.

       أما يوسف اليوسف، فقد اعتبر اهتمام الشاعر بالمقدمة الطللية دليلاً على دوافع جنسية مكتوبة لا يتلاءم والتفسير الصحيح للمقدمة الطللية وكذلك لا يتلاءم ونظرة الناقد إلى بناء القصيدة العربية، ولهذا اعتبر نظرته أحادية الجانب.

       ترجم ابن قتيبة لعدد من الشعراء؛ فتحدث فيها عن مجموعة من القضايا، ليس هذا المجال للحديث عنها؛ لكن أين يظهر اهتمامه بالمتلقي السامع وهو يترجم للشعراء؟

       للشعر علاقة وطيدة بالغناء والشعر يغنى للسامع لأن الغناء يتوجه قطعاً إلى متلق سامع لا قارئ”(19) على حد تعبير د. محمد مبارك، فالمتلقي في ذلك العصر كان سامعاً أكثر منه قارئاً لهذا كان الشعر يغنى في المجالس فهو يؤثر في النفوس ويزيد من قيمة الشعر الجمالية، وخصوصاً إذا كان الصوت جميلاً.

       كان ابن قتيبة واعياً بأهمية الغناء في الشعر العربي وبتأثيره في المتلقي لهذا عند ترجمته للشعراء يذكر الأشعار التي كان يتغنى بها.

       يقول عند ترجمته لامرئ القيس: ومما يتغنى به في شعره: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل” يقصد المعلقة.

       وقوله: تقول وقد مال الغبيط بنا معًا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل(20).

       وقال أبو النجم يصف قينةً: تغني، فإن اليوم يوم من الصبا / ببعض الذي غنى امرؤ القيس أو عمرو فظلت تغنى بالغبيط وميلـه/ وترفع صوتاً في أواخره كسر(21).

       ومن الشعراء الذين كان ينشد شعرهم كذلك شعر النابغة، قال شعيب بن صخر: سمعت عيسى بن عمر ينشد عامر بن عبد الملك المسمعي، شعر النابغة. فقلت: “يا أبا عبد الله، هذا والله الشعر”(22).

       والدليل على اهتمامهم بسماع الشعر: قول الأصمعي: “كان النابغة يضرب له قبةً حمراء من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها”(23) ووظف الغناء كذلك في إصلاح إقواء النابغة فقد كان النابغة “يقوي في شعره فدخل يثرب فغنى بشعره، ففطن ولم يعد للإقواء(24).

       إذاً هناك علاقة وطيدة بين الشعر والغناء وله دور في “توجيه الشعر ليناسب التقاليد الأدبية المتعارف عليها، ولقد نص القدماء على هذه العلاقة المتداخلة بين الطرفين؛ فعلقوا الغناء على الشعر وجعلوه كالحلة بالنسبة إليه إن لم يلبسها “طويت” وحددوا البروز الأسلوبي الذي يُبنى عليه اللحن في الوزن وجعلوه قاعدةً له: فالأوزان قواعد الألحان والأشعار معايير الأوتار”(25).

       اهتم العرب بالشعر اهتماماً كبيراً سواء قبل الإسلام أو بعده، حيث كان الشعر ينشد في مربد البصرة ومسجد الكوفة ويحضره جمهور عريض من المتلقين أعطى ما سُمي بالنقائض التي كانت تدور بين جرير والأخطل والفرزدق.

       كما كانت سكينة بنت الحسين رضي الله عنها تجالس الشعراء وينشدونها أشعارهم فتحكم بينهم، ويمكن أن يُطلق على مجمعها ما يسمى اليوم “بالصالونات الأدبية” وقد روي أنه اجتمع في مجلسها ذات مرة راوية جرير وراوية جميل وراوية نصيب وراوية الأحوص؛ فأخذ كل واحد يفخر بصاحبه، فاحتكموا إلى سكينة، فقالت لراوية جرير، أليس صاحبك الذي يقول: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام واهي ساعة أحلى من الطروق؟ قبح الله صاحبك وقبح شعره؟ ثم قالت لراوية جميل أليس صاحبك الذي يقول: فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ولكن طلابيها لما فات من عقلي فما أرى بصاحبك من هوى، وإنما يطلب عقله قبح الله صاحبك وقبح شعره، ثم قالت لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:

       أهيم بدعد ما حييت فإن أمت فوا حزناً من ذا يهيم بها بعدي فما أرى همه إلاّ فيمن يعشقها بعده، قبحه الله وقبح شعره.

       ثم قالت لراوية الأحوص: صاحبك الذي يقول: من عاشقين تراسلا وتواعدا ليلاً إذا نجم الثريا حلقــًا باتًّا بأنعم ليلة وألذهـــا حتى إذا وضح الصباح تفرقا قبح الله صاحبك وقبح شعره، ألا قال: “تعانقا” ولم تقدم أحداً منهم في ذلك اليوم(26).

       فهذه الأمثلة تدل على سماع الشعر وسط المجالس أو في الأسواق مما يدل على الاهتمام بالمتلقي السامع، وعلى ارتباط الشعر بالطابع الشفاهي؛ لأن طبيعة الشعر قائمة على الإنشاد وهو يقتضي سامعاً لا قارئاً، فضلاً عن بناء القصيدة العربية الذي اختزله ابن قتيبة في المدح، والممدوح هو متلقٍ شفوي أغلب الأحيان إضافةً إلى استعمال الشعر في الدفاع عن القبيلة أو التشجيع في الحروب والتحقير من بعض الناس، كل هذه المواقف تتطلب متلقياً يستقبل الشعر مما يدل على حضور سلطة السماع في أثناء إنشاد الشعر.

       اهتم النقد العربي بالمتلقي السامع اهتماماً كبيراً واعتبر الريادة له في نجاح العمل الأدبي أو فشله، لهذا جاء حضوره قوياً عند المبدع.

*  *  *

الهوامش:

نظرية التلقي أصول وتطبيقات، بشرى موسى المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2001. ص:59

شعرية النوع الأدبي في قراءة النقد العربي رشيد يحياوي إفريقيا الشرق، ص:133.

استقبال النص عند العرب، محمد مبارك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1999. ص:285.

شعرية النوع الأدبي في قراءة النقد العربي،ص:134

الشعر والشعراء، ابن قتيبة، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار الحديث القاهرة الطبعة الثالثة 2001. ج/1:.82-83.

استقبال النص عند العرب :112.

الشعر والشعراء، 1/74.

نفسه:75.

تاريخ النقد الأدبي عند العرب، إحسان عباس، دارالثقافة، بيروت لبنان ص:112.

نفسه :113.

عناصر الوحدة والربط في الشعر الجاهلي، سعيد الأيوبي، مكتبة المعارف بدون تاريخ. ص:323.

دراسات سيميائية أدبية لسانية،العدد7 السنة 1992. ص:51

نفسه.

عناصر الوحدة والربط في الشعر الجاهلي :324.

نفسه:324-325.

مقالات في الشعر الجاهلي ،يوسف اليوسف الطبعة الثالثة1983. ص:124

النقد المنهجي عند العرب،محمد مندور، دار نهضة مصر. ص:32.

عناصر الوحدة والربط في الشعر الجاهلي. ص:325.

استقبال النص عند العرب.ص:119.

الشعر والشعراء.ج/113.

نفس المصدر والصفحة.

نفسه.1/157.

نفسه.1/168.

نفس المصدر والصفحة

شعرية النوع الأدبي. ص:138.

ابن قتيبة العالم الأديب الناقد، عبد الحميد سند الجندي المؤسسة المصرية العامة بدون تاريخ. ص:320.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33

Related Posts