إلى رحمة الله
بعد صراع طويل مع المرض والعوارض الناتجة من الشيخوخة الزائدة، انتقل إلى رحمة الله تعالى، إمام وخطيب الجامع الملكيّ الكبير الشهير الكائن بدهلي سابقًا الشيخ السيد عبد الله البخاري في صباح يوم الأربعاء: 14/رجب 1430هـ الموافق 8/يوليو 2009م بـ”ALL INDIA INSTITUTE OF MEDICAL SCINCESM بدهلي الجديدة. وذلك عن عمر يناهز 90 عامًا بالقياس إلى التقويم الهجري و87 عامًا بالنسبة إلى التقويم الميلادي؛ فإنّا لِلّهِ وإنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. كان رحمه الله من مواليد 1340هـ الموافق 1922م.
كان الفقيد قد أُدْخِلَ هذا المستشفى الكبير المذكور بعدما ساءت حالتهُ الصحيَّةُ كثيرًا، يومَ الأحد: 13/ جمادى الثانية” 1430هـ الموافق 7/يونيو 2009م. وكان مصابًا بضغط الدم العالي وأمراض جهاز التنفّس، وأصابته من قبل نوباتٌ قلبيّة ممّا أنهك قواه التي كانت قد انهارت طبيعيًّا من ضعفه الناشئ عن طعنه في السنّ .
وقد وُرِّيَ جثمانُه بمقبرته العائليَّة في المساحة الخلفيَّة من الجامع بعد صلاة العشاء من الليلة المتخلّلة بين الأربعاء والخميس: 14-15/ رجب 1430هـ الموافق 8-9/يوليو 2009م بعدما صلّى عليه بالناس نجله الأكبر الشيخ السيد أحمد البخاري إمام وخطيب الجامع حاليًّا. خلّف رحمه الله وراءَه حرمَه وأربعة بنين وبنتين. والأبناءُ هم: الشيخ السيد أحمد البخاري – إمام وخطيب الجامع حاليًّا – والسيد يحيى البخاري والسيّد طارق البخاري، والسيّد حسن البخاري.
تولَّى الفقيدُ – رحمه الله – منصبَ الإمامة والخطابة بالجامع الملكيّ عبر نحو 27 عامًا متتاليًا، حيث تَقَلَّده يوم الأحد: 6/ رجب 1393هـ الموافق 8/ يوليو 1973م. وقد قلّده والده السيد حميد البخاريّ الذي كان الإمام والخطيب الملكي الحادي عشر؛ فكان الشيخ السيد عبد الله البخاري رحمه الله الإمامَ والخطِيبَ الملكيَّ الثاني عشر. وكان قد تخلّى عن منصبه رسميًّا يوم السبت 15/ رجب 1421هـ الموافق 14/أكتوبر 2000م بحضور الشيخ أحمد عبد الرحمن المرشد الممثل المُوْفَد من قبل الإمام والخطيب بالمسجد الحرام محمد بن عبد الله السبيل حفظه الله الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس شؤون الحرمين الشريفين، وبحضور عدد من العلماء وسفراء الدول العربية والإسلاميّة وممثلي الجماعات والجمعيّات الإسلاميّة. وبهذه المناسبة قَلَّد هو الإمامةَ والخطابةَ بالجامع نجلَه الشيخ السيد أحمد البخاريّ رحمه الله. وخلال شغله هذا المنصب الجليل زار عددًا من الدول العربيّة والإسلاميّة، ولقي كبارَ القادة والساسة والعلماء والمشايخ فيها.
وكان الإمامُ الأوّلُ الملَكِيّ بالجامع من أجداده الشيخ السيّد عبد الغفور البخاري رحمه الله، الذي كان من سكان “بخارا” حيث عندما تمّ بناءُ الجامع (عام 1656م/ 1066هـ) بتكلفة مليون روبية من عملة ذالك العصر، وقد عمل على بنائه 5000 مهندس معماريّ وعامل طيلةَ ست سنوات، والجامع يسع ألفين وخمس مائة مصل) بدهلي بأمر الإمبراطور المغولي المسلم “شاه جهان” (1001-1077هـ = 1593-1666م) خامس أباطرة المغل في الهند، الذي حكم الهندَ في الفترة ما بين 1036-1068هـ = 1627- 1658م، أرسل إلى ملك “بخارا” أن يختار للقيام بالإمامة والخطابة في هذا الجامع من يكون سيدًا نجيبًا من قبل أبويه وأن يتمتع بالصلاح والتقوى بجانب التمكن من علوم الشريعة، فاختار ملك “بخارا” الشيخ السيّد عبد الغفور البخاريّ الذي وَجَّهه لذلك إلى الهند، فصلّى بالمسجد الجامع بالملك والوزراء والأمراء والشعب صلاةَ عيد الفطر يوم الإثنين غرة شوال 1066هـ الموافق 24/ يوليو 1656م، وأكرمه الملك بالجوائز الثمينة واحتفى به كثيرًا، وأطلق عليه اسمَ “الإمام الملكيّ” ثم توالت الإمامة والخطابة في بيته وكان منهم الأئمة والخطباء كما يلي: (2) الشيخ السيد عبد الشكور البخاري (3) الشيخ السيّد عبد الرحيم البخاري (4) الشيخ السيّد عبد الغفور البخاريّ (5) الشيخ السيّد عبد الرحمن البخاري (6) الشيخ السيّد عبد الكريم البخاريّ (7) الشيخ السيّد مير جيون البخاري (8) الشيخ السيّد مير أحمد البخاريّ (9) الشيخ السيّد محمد البخاري (10) الشيخ السيّد أحمد البخاري (11) الشيخ السيّد حميد البخاري (12) الشيخ السيّد عبد الله البخاريّ (13) الشيخ السيّد أحمد البخاريّ .
* * *
عُرِف فقيدُنا الشيخ السيّد عبد الله البخاري، بجراءته وصراحته في طرح قضايا الشعب المسلم لدى الحكومة وتركيزه المتصل على المطالبة بحقوقه التي يجري الإجحاف بها منذ استقلال البلاد؛ ومن ثمّ احتلّ أهميّة بالغة وتقديرًا جمًّا لديه على اختلاف المذاهب ووجهات النظر ومدارس الفكر. وقد تجلّت شعبيّتُه المطلقة يوم موته؛ إذ لم ينتشر نعيُه حتى خَيَّم الحزنُ على دهلي كلها ولاسيّما القطاعات التي يسكنها الشعب المسلم؛ حيث أغلق التجار محلاّتهم ودكاكينهم، وأعلنت المدارس ومعاهد التعليم العطلة العامّة، وتسارع القادة والساسة والمسؤولون عن الجمعيّات والمنظمات الإسلاميّة إلى المسجد الجامع، حيث قدّموا أحرّ التعازي إلى خلفه في الإمامة والخطابة والقيادة الشيخ السيّد أحمد البخاريّ.
كان كاتبُ هذه السطور عام 1970-1971م طالبًا في دهلي وعندها لم يكن الشيخ السيّد عبد الله البخاريّ إمامًا بالجامع بشكل رسميّ، وإنّما كان يؤمّ المصلّين أحيانًا، نيابةً عن والده السيّد حميد البخاريّ. في يونيو 1972م (جمادى الاول 1392هـ) عُيِّنْتُ أستاذًا بدارالعلوم ندوة العلماء بـ”لكهنؤ”. وما إن عُيِّن الفقيد إمامًا وخطيبًا بالجامع عام 1973م (1393هـ) حتى صار عاجلاً يُدَوِّي صوتُه خلال الكلمة العامّة التي كان يلقيها أسبوعيًّا في المسجد الجامع الشهير ذاك، قبل الخطبة الشرعية للجمعة. فكان يتناقلها ألسنةُ المصلين في أرجاء مدينة دهلي، وكانوا يتعزّزون بأقواله الجريئة التي كانت تلامس آذانَ رجال الحلّ والعقد الكبار في الحكومة ولاسيّما رئيسة وزراء الهند أيّامئذ المرأة الحديديّة “إنديرا غانذي” (م31/ أكتوبر 1984م = 4/صفر 1405هـ) ابنة رئيس الوزراء الهندي الأول بعد الاستقلال “جواهر لال نهرو” (1889-1964م). ومع الأيّام أصبح أقوى صوت في الدفاع عن الشعب المسلم والوقوف بجانبه لدى أي جرح كان يصيبه رسميًّا أو من قبل العناصر المشاغبه من الأكثرية الهندوسيّة؛ فتجاوزت شهرتُه دهلي مرحليًّا إلى خارجها، فإلى طول البلاد وعرضها، وصار لهذا الصوت ثقلٌ تزايد مع تزايد شعبيّته؛ فلم يعد إمامًا وخطيبًا ينحصر نداؤه داخل جدران الجامع الكبير وساحته الواسعة، لايَسْمَعه إلاّ المصلون ومن يُسْمِعُهم المصلون، وإنّما صار قائدًا بارزًا من قادة المسلمين ربّما يحتل في قلوب الشعب المسلم ولاسيّما رجال الشارع من المكانة ما لايحتله منهم من يمتازون بالعلم والفكر والحنكة السياسيّة والتجربة القاديّة الطويلة؛ لأنّه كان يمتاز من الجراءة المعنويّة بما كان يجعله لدى رجال الحكومة والساسة فارع القامة، كبير الهامة، مهيب الشخصيّة، مخوف الصوت، مسموع الكلمه، رغم كونه أقصر قامةً بين الكثير من القادة المسلمين بالنسبة إلى التعمق في العلم، والحزم السياسيّ، والبصيرة القياديّة.
إن الفقيد ما كان يسعه أن يسكت على الظلم يصيب المسلمين، ولاسيّما ما كان يشعربه بنفسه، ويراه بأمّ عينيه، ويلمسه بيديه، فكان يتقلب على أحرّ من الجمر؛ فكان يصيح ويرعد ويزبد في خطاباته بالمسجد الجامع، وبالمناسبات الأخرى، كان يراها جديرة بأن يتحدّث فيها عن القضايا الإسلاميّة؛ لأنّه كان لايضع كثيرًا نصب عينيه مصالحه، ولايخاف بطش الحكومة، ولايبالي بجنودها وشرطتها؛ فربّما كان يتحدّاها، ويثير بأسلوبه الخطابي، وندائه الاستغاثي كبرياءَها، حتى إن بعض القادة الملاحظين دائما للمصالح، والمتحسّبين للجور قد يقع عليهم من قبل الحكومة، كانوا يعتبرون جرءاةَ الفقيد الزائدة تهوّرًا منه ناشئًا عن الغباء السياسيّ وقلّة الخبرة بالحياة وأساليب التعامل معها، وكنتُ بدوري أسمع ذلك عبر ألسنة الناس وتعليقات الصحف.
ولكني كنتُ أُدْرِك أنَّ الفقيدَ لم يكن غبيًّا أو أعمى عن البطش الحكوميّ أو عن إعمال الحزم وتَحَسُّس المُنَاسَبَة اللاّئقة لإطلاق “النياح” وإنّما كان سليمَ دواعي الصدر، يتّسم ببراءة الطفل، وسذاجة رجال الشارع، وبساطة من لا يُوْلَد مفطورًا على التعقيدات؛ فكان يرى نفسه قَلِقًا مُتَمَلْمِلاً لدى أيّ جور يتعرّض له المسلمون؛ وحتى غير المسلمين من المواطنين؛ حيث عَلِمَ أَنّ ذلك أصبح لهم – المسلمين – كالدواء والغذاء والهواء الذي كأنه لابدّ لهم منه، فهم يُعَامَلون بالظلم واللاّعدل في كلِّ مناحي الحياة، ولا يتغيّر الوضعُ مهما تغيَّرتِ وجوهُ الذين يُدِيرون الحكومةَ في هذه البلاد.
* * *
في 26/ يونيو 1975م (15/رجب 1395هـ) فَرَضَتْ رئيسةُ وزراء الهند السيّدة “إنديرا غاندي” حكمَ الطوارئ على البلاد، وزَجَّتْ بكبار الساسة والقادة إلى السجون، وأَصْدَرَتْ أوامرَ صارمةً بإجراء عمليّات تحديد النسل في الرجال والنساء من المواطنين بقوة الحديد، وأَذَلَّت أَعِزَّة الشعب الهنديّ، وأَعْمَلَتْ جميعَ أساليب البطش والقهر والظلم، وصَادَرَتْ مُمْتَلَكَات الشعب المسلم في المدن والقرى، ولاسيَّما في مدينة دهلي، وتَنَاوَلَت الشرطةُ المسلمينَ خصيصًا بالظلم الضارخ والاعتداء الفاحش وبالضرب المُبَرِّج، وكَسَرَتْ عِظَامهم، واعْتَقَلَتهم وقَذَفَتْهم في السجون ربما بعيدين عن أُسرَهم وعائلاتهم، وعمَّ البلادَ كلَّها الذعرُ والخوفُ، وكان أفرادُ الشعب في كثير من قرى ومُدُن أقطار الهند يبيتون ليلاً في المزارع والحقول اتِّقَاءً شرَّ قوات الشرطة.
وطالت أيدى الشرطة الشيخَ السيّد عبد الله البخاريّ أيضًا، فاعتقلته في سجن “تيهار” المعروف بدهلي؛ حيث تناولته بالضرب المُؤْلِم بالعِصِيّ وأطراف البنادق، وأصابته بجروح غائرة، ومَزَّقَت ثيابَه؛ لأنّه كان يزأر زئير الأسد من على منبر الجامع الملكيّ الأثري الكبير ضدَّ هذه العدوانات الصارخة التي طالت الشعبَ على اختلاف الديانات والطوائف.
وهنا احتجَّ الشعبُ ضدَّ اعتقال الإمام القائد الجريء على اختلاف الديانات، وصَرَخَ مُعْظَمُ القادة والساسة، حتى الذين كانوا يَنْتَمُون إلى حزب “المؤتمر” الذي كانت تقوده السيدة “إنديرا” ولاسيّما مواطنو دهلي الذين تحوَّلوا لهيبًا من النار ضدَّ الحكومة المركزيَّة بدهلي، مما اضطرَّها أن تُطْلِق سراح الفقيد السيّد عبد الله البخاريّ رحمه الله، فازداد زئيرُه بعدما ذاق الويلات التي ظلّ يذوقها الشعبُ وغيرُه من القادة.
في عام 1977م (1397هـ) عندما أنهتْ “إنديرا غاندي” حكمَ الطوارئ على ضغط مُوَحَّد منقطع النظير من الشعب كلِّه الذي أَنَّ متحدًا أنينًا سَمِعَه العالمُ كلُّه، وأعْلَنَتْ عقدَ الانتخابات العامّة في البلاد، فاتّحد الشعبُ ضدَّها، حتى ثار ضدها من قدامى رجال حزبها رجلٌ كبيرٌ وقائدٌ شهيرٌ من “الطبقة المنبوذة” وهو “بابو جافجيفان راما” الذي عَقَدَ بقصره الرسميّ بدهلي الجديدة مؤتمرًا صحفيًّا مُوَسَّعًا حَضَرَه نخبةٌ من القادة بمن فيهم “هيم واتي ناندن بهوغنا” وعمةُ “إنديرا” السيدة “وجي لاكشمي الباندت” وأعلنوا في المؤتمر ثورتهم على حزب “المؤتمر” حزب “إنديرا”. واتخذ الشعب جبهة مُوَحَّدَة باسم “حزب الشعب” وقام الشيخ السيّد عبد الله البخاريّ الذي كان قد أصبح قائدًا يُشَارُ إليه بالبنان، ويحبّه الشعب على اختلاف الديانات والطوائف، بجولة مُوَسَّعَة في أرجاء البلاد، يؤيّد “حزب الشعب” ومُرَشَّحِيه، ويخاطب الحفلات الشعبيّة العامّة التي عَقَدَها الحزبُ في طول البلاد وعرضها، وكان قد نَظَمَ الحماسُ الزائدُ ضدَّ “إنديرا” الشعبَ كلَّه في سلك واحد، وكان مشهدًا من التضامن ما رأيتُه أنا في عمري من قبلُ ولا من بعدُ، وكنت عندئذ شابًّا يافعًا، أُشَاهِد ذلك كلَّه وأُسَرُّ في نفسي، وأقول: لوبَقِيَتْ روحُ التضامن هذه تفعل فعلَها في الشعب لما حَصَلَتْ اضطراباتٌ طائفيَّة، ولا صدامات دينيّة، ولا مفاسد اجتماعيَّة كثيرة في البلاد تُطِلُّ برأسها من حين لآخر.
وقامت حكومة “حزب الشعب” ولقيت “إنديرا” هزيمةً مُنْكَرَةً، وكان “مورارجي ديسائي” رئيس الوزراء. وعقد “حزب الشعب” احتفالاً مشهودًا تاريخيًّا بفوزه الكاسح في الانتخابات بساحة “راما ليلا” بدهلي حَضَرَه جلُّ القادة من شتّى الطوائف والديانات في البلاد، وأَلْقَوْا فيه خطابات مزيحة من عواطف الفرح والسرور وإطلاق وعود ومواثيق تُغَيِّر سياسةَ البلاد الجائرة التي اتَّخَذَتْها واتَّبَعَتْها “إنديرا غاندي” إبّان حكمها، ولاسيّما خلال السنوات الأخيرة التي ارتكبت فيها جرائمَ مَثَّلَتْها سَعْلاَةً من السَّعَالِي.
وعندما حَضَرَ المنصّةَ الشيخ السيّد عبد الله البخاريّ كان يخاطب الجماهير المُحْتَشِدة كالسيل العارم وزيرُ الخارجية في حكومة “حزب الشعب” السيد “أتال بيهاري فاجبائي” الذي نَزَلَ فورًا عن كرسيّ الخطاب قائلاً: الآن قد حَضَرَ الحفلَ السيّد عبد الله البخاريّ، فلا حاجة بكم إليّ، فاستمعوا له.
وفي هذا الخطاب الذي ألقاه الشيخ البخاريّ في هذا الاحتفال الشعبيّ التاريخي، قال مُوَجِّهًا عِنَانَ خطابه إلى السيّد “مورارجي ديسائي” الذي كان بدوره موجودًا على المنصّة: إني أعلنتُها ثورةً ضدَّ السيِّدة “إنديرا غاندي” التي قد رأيتم هزيمتَها النكراء؛ لأنها ارتكبت جرائمَ ضدَّ الشعب الذي ثار كلُّه ضدَّها، والآن فازت جبهةُ “حزب الشعب” بفضل تضامن الشعب وتأييدنا نحن المسلمين جميعًا كمثل الطوائف الأخرى في البلاد؛ فلئن أَعَدْتُم الجرائمَ والأخطاءَ التي صارت تتّسم بها “إنديرا غاندي” فإنّي لن أتردَّدَ في مخالفتكم وإبداء سخطنا عليكم. إننا نطالبكم بحقوقنا ولا نطلب منكم “السؤل” الذي يطلبه “الفقراء”. إننا كمواطنين مُسَاوَون في الحقوق والواجبات، وقد طَال علينا الظلمُ والكيلُ بمكيالين؛ ولكنّنا منذ اليوم لن نسكت على ظلم يقع علينا؛ لأنّنا قد ساهمنا سويًّا في الإطاحة بحكم “إنديرا غاندي” وإقامة هذه الحكومة التي تحتفل اليوم بقيامها بتعاون شامل وتضامن مثاليّ من طوائف الشعب كلّها.
إنّ صراحةَ الشيخ البخاريّ أذهلت عددًا من القادة الذين ظلّوا مشدودي النظر إليه طويلاً، والذين كانوا لايتوقّعون أنه سيصارح رئيسَ الوزراء في هذا الحفل المُوَسَّع المفتوح بهذا الأسبوب الواضح الذي لايتعامل معه القادة “العقلاء” في الأغلب، الذين يُؤْثِرون المصالحَ الخاصَّةَ على المصالح العامَّة، ويُحَاوِلُون أن لاتتضرَّر الأولى من أجل التركيز على الثانية.
وفعلاً قد تَنَكَّرت هذه الحكومةُ الجديدةُ التي عَلَّق عليها الشعبُ عمومًا والمسلمون خصوصًا كثيرًا من الآمال لمواعيدها؛ فصرخ الشيخ البخاري ضدّها كما كان يصرخ ضدّ “إنديرا غاندي” حتى شَافَهَ بعضَ القادة المسؤولين في الحكومة بمُرِّ القول، مُصَارِحًا: أن مُدَّة حكمكم لن تطول؛ لأنه ليست لكم جذور راسخة في تربة السياسة الوطنيّة، كما كانت للسيدة “إنديرا غاندي” فإذا كانت قد سقطت رغم ذلك فما بالكم تفعلون ما تشاؤون دون استناد إلى مبدء من العدل، أو سند من الدستور، أو أساس من الشرعيَّة. ولعبت منظمة “آر إيس إيس” المتطرفة دورًا فعّالاً في إسقاط هذه الحكومة؛ لأنها كانت تراها عقبة في طريق تنفيذ مخططاتها السرّيّة الخطيرة، كما تأكّلت هي من داخلها لمفاسد عُجِنَتْ بها طينتُها؛ فتمَّ إعلانُ عقد الانتخابات العامَّة قبل أن يَتِمَّ ميعادُها لمدة خمسة أعوام في 1980م، وهنا لجأت السيدةُ “إنديرا غاندي” إلى الشيخ البخاري، وطَرَقَتْ بابَه أكثر من مرة؛ كما التقت مُعْظَمَ القادة الوطنيين ونخبةَ العلماء ورجالَ الصحافة والعلم والأدب في البلاد، واعتذرت عمّا فَعَلَتْه خلالَ حكمها الماضي، وأنّها لن تعود لمثله أبدًا، إذا تَرَبَّعَتْ على عرش الحكومة.
وأذكر أنّها كانت قد صارت مجموعةً من العظام من شدّة الحزن والأسى الذي لحقها من فقدها لحكمها الذي تَوَارَثـَتْه عن أبيها، وحكمت البلادَ كمَلِكَة من الملكات ذات الصلاحيّات اللامحدودة لاكمندوبة مُنْتَخَبَة من الشعب تُمَثِّله. وكنتُ أيَّامئذٍ في حضرة سماحة الشيخ السيّد أبي الحسن على الحسني الندويّ رحمه الله (1333-1420هـ = 1914-1999م) بمضيفه بوطنه: قرية “تكيّة كلان” المجاورة لمدينة “رائي بريلي” التي كانت السيدة “غاندي” تخوض الانتخابات دائمًا من دائرتها الانتخابيّة، ففَاجَأَتْه يومًا – وهي مجموعة من العظام – بمَقْدَمِها إليه والتقائها إيَّاه ماثلةً أمامه على حصير وبساط مُتَوَاضِع كان يجلس عليه دائمًا، وطَلَبَتْ إليه أن يدعولها بالفوز في هذه الانتخابات، فقال لها: لابدّ لك أن تَتَّبعي منهج أبيك وجدّك: “البندت جواهرلال نهرو”، و”البندت موتي لال نهرو” (م:6/فبراير1931م) وأن تسيري سيرتهما، فلا تنهزمين أبدًا، وأن تعتذري إلى الشعب كلّه عما فعلتِه معه، وأن تَنْوِي في السرِّ وتَصْدُقي مع الله أن لاترتكبي ما ارتكبتِه. وأَصَّرتْ على أن يدعولها، فأعاد مرارًا: أنا أدعو لكل إنسان حَسَنِ السيرة والسلوك.
إن الشيخ البخاريّ أيّد “إنديرا غاندي” في هذه الانتخابات بعدما أعطتْه وعودًا عن طريق السيّد “عبد الرحمن أنتولي” الذي كان رجلَ ثقة لديها دائمًا، أنّها ستُنَفِّذُ الخطط الأربع التي اتفقت عليها معه.
وقد نجحت “إنديرا” في الانتخابات، وتَوَلَّتْ منصب رئيسة الوزراء من جديد، و وَفَتْ ببعض الوعود، وتَنَكَّرتْ للبعض، وعادت من وسط الطريق، وقَرَّرَتْ أن تُرْضِيَ الأغلبيةَ الهندوسيَّة التي تُشَكِّل 80٪ بين سكان البلاد، بدل أن تُرْضِيَ الأقليَّة المسلمةَ التي تُمَثِّل 17٪ من السكان.
فاتَّخَذَتْ قضيّة “المسجد البابري” ألعوبةً، وجَعَلَتْها مَطَيَّةً لإرضاء الأغلبيــة الهندوسية، فأشارتْ على قادتها الدينيين والسياسيّين أن تُنَظِّمُوا مسيرات في طول البلاد وعرضها، فتَفَجَّرتْ اضطرابات طائفيّة، وحُصِدتْ أرواح المسلمين ونُهِبَتْ مُمْتَلَكَاتُهم، وصُنِعَ معهم ما يُصْنَع في جميع الاضطرابات من القتل والتدمير والتعذيب الجسدي والنفسي. وارْتَكَبَتْ حماقةً أخرى غير هيِّنة عندما هَجَمَتْ بقوّاتها المُسَلَّحَة على المعبد الذهبي للسيخ في مدينة “أمريتسار” لمكافحة ثورتهم التي قاموا بها لإقامة دولتهم داخل الهند باسم “خالصتان” فسخط السيخ شعبًا وقيادةً وقَرَّرَ بعضٌ منهم أن ينتقموا من “إنديرا” عاجلاً أو آجلاً، فقتله يوم 31/ أكتوبر 1984م أحدُ حُرَّاسها الذي كان سيخيًّا.
فغَضِبَ الهندوسُ عمومًا وثاروا سخطاً على السيخ في كل مكان. فقتلوا منهم كثيرًا، ونهبوا ممتلكاتهم، وأحرقوا منازلهم.
ومن أجل العطف العامّ الذي نشأ في قلب الشعب الهندي تجاه “إنديرا” المقتولة في داخل بيتها، فاز ابنُها “راجيف غاندي” (م:21/مايو 1991م) بأغلبيّة ساحقة في الانتخابات المنعقدة إثر قتلها. وخلال حكمه أثار كثيرًا من القضايا للصيد في الماء العَكِر، منها قضيّة “شاه بانو” التي امتصّت كثيرًا من قوى المسلمين الفكريّة لكسبها لصالحهم، ثم أُثِيْرَتْ قضيةُ المسجد البابري، حتى فُتِحَ القفل الرسميُّ المُوْصَد به بابُه منذ زمان على كلتا الطائفتين: المسلمين والهندوس، لصالح الهندوس وحدهم ليمارسوا في داخله عباداتهم وطقوسهم.
وقد ظَلَّ الشيخ البخاري صوتًا ممتازًا بين أصوات القادة المسلمين ضدَّ هذه الاعتداءات التي ارتُكِبَتْ عن تَعَمُّد من الحكومة. وللاحتجاج ضد فتح قفل المسجد البابري عُقِدَت يوم 1 من فبراير 1986م مسيرة إسلاميّة مُكَثَّفَة في “بوت كلب” بدهلي حَضَرَها نصف مليون مسلم، وقادها مع السيد شهاب الدين الشيخ البخاريّ وعدد من زعماء المسلمين.
وظلَّ الشيخ البخاريّ يحتجّ ضدّ هذه العدوانات حتى لقي “راجيف غاندي” هزيمة في انتخابات 1989م، وتولى منصب رئيس الوزراء السيد “فيشواناث براتاب سينغ” الذي استمع لكثير من التوصيات والتوجيهات التي قدّمها إليه الشيخ، وحَقَّقَ بعضَ المطالب الهامّة التي أفادت الشعب المسلم، واتخذ بعض الإجراءات التي كان لها الأثر بعيد المدى في المسيرة الإداريَّة والتشريعيّة في البلاد.
منذ نحو عَشر سنوات كان الشيخ قد انعزل عن النَّاس، وأصيب بأمراض عديدة؛ ولكنّه رغم ذلك ظل يهتمّ بمصالح الشعب عندما يسمع أنه يتعرّض لغمطِ حقّ، أو لظلم.
وبفضل جراءته، وعدم مخافته لومةَ لائم، كان يتمتّع بشعبيَّة كبيرة؛ من هنا حَزِنَ كلُّ من سمع بموته، ولاسيما سكانُ دهلي الذين أغلقوا جميعَ النشاطات، وانصرفوا إلى تلاوة القرآن والإكثار من الذكر، وإهداء الثواب له، والمشاركة في غسل جثته وتجهيزها وتكفينها ودفنها، كما عَزَّى أسرتَه القادةُ والزعماءُ والوجهاءُ على اختلاف الديانات مما يدلُّ أنه كان يحبّه الجميعُ؛ لكونه كان لايَتَعَصَّب لوجهةِ نظر. وكان أوّلَ قائد مسلم شاهدتُ أنه قد عَزَّى أسرتَه بعد وفاته وشاطرها حزنَها القادةُ والوجهاءُ المسلمون على اختلاف المذاهب ومدارس الفكر.
رحمه الله، وأدخله فسيح جنّاته، وألهم أهله وذويه، ومعارفه ومحبيه، الصبر والسلوان.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33