إشراقة
قد يُسْتَخْدَم أو يُوَظَّف الفرد أو الجماعة لصالح فرد أو جماعة دون أن يشعر الفردُ الذي يُسْتَخَدَم أو الجماعة التي تُوَظَّف بأنه يُسْتَخْدَم أو بأنّها تُسْتَخْدم؛ لأن الفردَ المُسْتَخْدِم والجماعة المُسْتَخْدِمَة يصدران في ذلك عن الحزم الفائق والحصافة الزائدة، فلا يَتَفَطَّن الفرد المُوَظَّف أو الجماعة المُوَظَّفَة أنهما يعملان لينفعا الغير، ويشقَيان ليَسْعَد هو – الغيرُ – فيظلاّن – الفردُ والجماعةُ – يتحرّكان بما لديهما من المواهب والمُؤَهِّلات ليُحَقِّقَا له كلَّ خير، ويُنْجِزَا له ما رَصَدَه من الأهداف.
وقد لا ينتبهان للحقيقة – أي أَنَّهما مُسَيَّران لصالح الغير – طَوَال حياتهما، وقد يتفطّنان لها – الحقيقة – في بعض مراحلها – الحياة – بعدما يكون الغيرُ قد حَقَّقَ كلَّ ما استهدف من وراء استخدامهما أو بعضَه أو طرفًا صالحًا منه. الطريفُ في الأمر أن المُسْتَخْدَم من الفرد والجماعة يعمل للغير – ظنًّا منه أنّه يعمل لنفسه أو يعمل للرسالة النبيلة التي يتبنّاها في حياته – بغاية من الإخلاص وبكل من الاجتهاد، ولايدّخر وسعًا في أنْ يُنْجِزَ الوظيفةَ المُوَكَّلَة إليه على أحسن ما يُرَام. فيقطف الغير من المنافع أكثر مما يكون قد تَصَوَّر؛ لأن المُوَظَّف من الفرد والجماعة يعصر في تحقيق الأعمال كل ما عنده من جهد وطاقة.
وقد يكون الغيرُ المُسْتَخْدِم للفرد أو الجماعة عدوًّا معارضًا للفرد والجماعة أو يكون مُغْرِضًا، فيجعلهما يعملان وهو يضع أعمالهما كلَّها في ميزانـه ويوهم الناس أنه هــو العامل لها؛ فالمُسْتَخْدَم يضرّ بنفسه نفسَه من حيث يحتسب أنه ينفعها؛ لأنه بقدرما ينفع الغيرَ يضرّ نفسَه، وبقدرما يُضْنِي نفسَه لإنجاز المهمة المُسْنَدَة إليه، يجني الخسارة لنفسه. وما أشقى المرأَ الذي يضرّ نفسَه ويظنّ أنّه ينفعها؟!.
المُسْتَخْدَم من قبل الغير على علم وإرادة منه، قد لايُضْطَرُّ للتأسف وعضّ بنان الندم، بمثل ما يضطر له المُسْتَخْدَم من قبل الغير بغير إرادة منه، بحيث يحسب أنّه يعمل لصالح نفسه أو دينه أو عقيدته أو أمته، ثم ينكشف له بعد مضيّ وقت أنه مُيَسَّر وليس مُخَيَّرًا، وأنّه جنديّ في جيش العدوّ الحَنِق، أو المُغْرِضِ الأنانيّ، وليس عاملاً وفيًّا لصالح غرضه هو.
مثلاً: الذين وُظِّفُوا من قبل المُسْتَعْمِرِين الإنجليز وعَمِلُوا مُسْتَأْجرَين لصالح الاستعمار الإنجليزيّ، وكانوا ينقلون إليه أسرارَ المكافحين الهنود وعلى رأسهم العلماء والصلحاء المسلمون، الذين كانوا يعملون لتحرير الهند من براثن الاستعمار الإنجليزي، ويخبرونه – الاستعمار – بمُخَطَّطَاتهم ومُنْطَلَقَات تحركاتهم؛ فكان العلماء يخسرون الجولةَ بعدما كانوا يكادون يكسبونها، كما خسرها صقر الإسلام في الديار الهنديّة المناضل الكبير ضدّ الاستعمار الإنجليزي الشيخ محمود حسن الديوبنديّ المعروف بـ”شيخ الهند” في الديار الهنديّة (1268–1339هـ= 1851–1920م) وكان على رأس الدفعة الأولى التي تخرجت من الجامعــة الإسلاميّــة الأم دارالعلوم/ ديـوبنــد، بعد تأسيسها.. خَسِرَها في حركتها المعروفة بـ”الرسال الحريريّة”. وكما خَسِرها كثير من الملوك والقادة المسلمين الذين حاربوا الإنجليز المغتصبين لوطنهم .
وكذلك الذين اسْتَخْدَمَتْهم أمريكا – ولا تزال – في حربها على ما تُسَمِّيه “الإرهاب” والذين انْضَوَوْا إلى لوائها إثرَ إطلاقها لكلمة “الذين ليسوا معنا فهم علينا لامَحَالَة” من القادة والساسة في بلادنا؛ فسَخَّروا لها بلادَهم وإمكاناتها وأرضها وبحرها وجوَّها، ومَنَحُوها “الوسائل اللوجستيّة” وبذلك فمَهَّدُوا الطريقَ واسعةً إلى تدمير بلادهم، وإهلاك شعبهم، وإضاعة إرثهم الثقافي الحضاريّ التأريخي العقديّ، وتغيير الأرضيّة الصلبة التي كانت تقوم عليها تعاليمهم الدينية..
هؤلاء وأولئك لم يكونوا ليتَأَسَّفوا؛ لأَنَّهم استَوْفَوْا أجورَهم – ولا يزالون – من سادتهم المُسْتَأْجِرِين لهم. ولم يكن ليهمَّهم الدينُ أو الوطنُ أو الشعبُ أو بنو جلدتهم أو أبناءُ ديانتهم، مهما مسّ ذلك كلَّه الخرابُ والدمار؛ لأنهم آثروا الحياةَ الدنيا على الآخرة، والنفعَ العاجل على الآجل، والدنيا صارت لهم موفورة، والنفع العاجل تيسّر لهم بحذافيره. وإنّما يتأسّف كثيرًا من يُسْتَخْدَم وهو لايشعر أنّه يُسْتَخْدَم وإنما يتأكّد أنه يقوم بوظيفة شريفة وعمل نبيل .
هناك مُغْرِضُون يتبنَّون مصالح؛ فيُوَسِّطُون غيرَهم لتحقيقها؛ لأنهم غيرقادرين بدورهم عليها؛ ولكنهم بارعون في توسيط غيرهم في تحقيق ما يريدون. وبعضُ ذلك حَدَثَ معي؛ حيث وُظِّفْتُ أنا أيضًا من قبل بعض الناس؛ ولكنّي ما انتبهتُ لذلك إلاّ عندما استوفَوا مني الغرضَ الذي عرضوه على الناس موهمين أنّهم هم الذين قاموا بتحقيقه.
منذ سنوات أشار عليَّ بعضُ من يُسَمَّى في الديار الهنديّة “مولانا” من العلماء المتخرجين في الجامعات الإسلامية الأهليّة التي تسير بتبرعات الشعب المسلم وحده أن أقوم بنقل بعض الكتب الأردية إلى العربيّة؛ لأنّها نافعة جدًّا؛ ولأنها تمسّ القضايا الساخنة التي تمسّ الشعبَ المسلم الهندي؛ ولأنّها تتحدث عن الموضاعات الإسلاميّة الهامّة التي لابدّ أن يطّلع عليها الإخوة العرب. قال ذلك بنبرة شفّت في الظّاهر عن الصدق والإخلاص، وألحّ عليّ بشكل تأكّدتُ أنه رجل يحب مصالح الأمة والدين. انتهيتُ من الترجمة، وصَدَرَتْ في حلقات في مجلة “الداعي” هذه، قبل أن تَصْدُرَ مطبوعةً بشكل كتاب في وقت لاحق، فاستغلّها الرجلُ، وصَنَعَ منها كتابًا ضخمًا، ضمّ إليه أبحاثًا أخرى من كتب بالعربية أخرى في الموضوع، وأصدرتْه جهةٌ موثوق بها. وتصفّحتُ الكتابَ؛ فوجدتُه يشتمل على معظم الموادّ التي ترجمتُها من الأردية إلى العربيّة، أو أودعتُها “الداعي” مما هو في العربيّة أصلاً، لكي أجعله مصونًا من الضياع؛ فقلتُ: في نفسي: “ذلك أسلوبٌ طريفٌ في الكتابة ربما هو “مُبْتَكر”: أن لايكتب الكاتبُ شيئًا من عنده، وإنما يجمع من هنا وهناك ويُؤَلِّف كتابًا. وذكرتُ ذلك لبعض الإخوة؛ فقالوا لي: إنّ الرجل لايعرف الكتابةَ بالعربيّة، ولايقدر أن يكتب نثرًا عربيًّا ولو في سطور؛ ولكنّه أصْدَرَ عددًا من الكتب بهذه الطريقة التي يَحْذَقُها، أي أنه يستقي المعلومات بنصوصها وعباراتها من شتى الكتب، ويجمعها كتابًا، ويَصْدُر الكتابُ، فيَعْجَب الناس من قدرته على النثر العربي الجميل، وقدرته على الدراسة والاستيعاب.
وإنّنا نشاهد في حياتنا الدراسيّة كثيرًا أنّ الدارسين والطلاب الذين ليس لهم تجربة كتابيّة ولاتأليفيّة، ولاقدرة على الدراسة واستقاء المعلومات بشكل صائب، يُؤَلِّفون كتبًا وهم في طور الدراسة. وذلك أنّهم يجمعون شروح الدروس التي يلقيها الأساتذة عليهم في الفصول الدراسيّة، بعدما يُجْرُوْن عليها تعديلات، فيُصدِرونها كتبًا، وينسبونها إلى أنفسهم، دون أن يشيروا بشكل إلى الأساتذة الذين جمعوا محاضراتهم كتبًا، ولايشكرونهم على جهودهم التدريسيّة بأسلوب، ولايُطْلِعُونهم على ذلك، وإنما يحاولون أن تظلّ أعمالُهم هذه مُخْتَفِيَةً عنهم. وكثر ذلك في هذه الأيّام واطَّرَد؛ لأنّ الجيلَ الجديد فَقَدَ كلَّ معنى للمروءة والكرم، وتَرَبَّى على الأنانيّة والمصلحية؛ فلايعرف لأحد بالجميل، كما لايعرف للوالدين مِنَّتَهما على ولادته، وإنما يقول: إنه نتج عن اتّصالهما الجسماني المبنيّ على إشباع الرغبة الجنسيّة، وكأن الحضارة الغربيّة فَعَلَتْ فِعْلَها كليًّا في تجريد الإنسان من كلّ معاني الإنسانيّة.
وكم من رجال مُؤَهَّلِين، سُخِّرُوا، من غير أن يَشْعُرُوا، لإحداث ثورات، وإسقاط حكومات، وتغيير أنظمة إدرايّة، أو مناهج قياديّة، وأَدَّوْا لذلك دورًا أساسيًّا أثبتَ إخلاصَهم وتفانيَهم في جانب، وقدرتَهم على القيام بِمُهمَّات كبيرة جليلة في جانب آخر؛ ولكنّهم لم يُدْرِكُوا خلالَ عملهم أنّهم مُوَظَّفُون من جهة أو فرد، لأنّ المُوَظِّف – على صيغة اسم الفاعل – أكَّدَ لهم أنّهم يقومون بأعمال صالحة تنفع العباد والبلاد، وتخدم مصلحة بني قومهم، وأنهم مشكورون على ألسنة الخلق، ومُقَدَّرُون لدى من يعرف قيمة أعمالهم وقامةَ تحرّكاتهم؛ ولكنهم، بعد ما تَمَّ إنجازُ المهمات وتحقيق الأغراض، أُفْرِدُوا إفرادَ البعير المجرب أو وُضِعَتْ نهايةٌ لحياتهم، أو بَقُوا أحياءَ دون أن تُعْرَفَ لهم قيمة.
في عصرنا هذا كثر استخدامُ الأعداء الماكرين للمُؤَّهلِين من الأفراد في أغراض شتى. وأصبح ذلك هو التكتيكُ الذي يُعْمِله الأعداء كثيرًا في الإضرار بالمصلحة العامّة للأمّة؛ حيث يستأجرون العقولَ المفكرة والأدمغةَ الكبيرة، والقيادات المُؤَهَّلة، والأقلامَ البارعة، والإعلامَ الفاعل، والصحافةَ المُؤَثِّرة، ويستخدمونها – دون أن تشعر – لتوجيه ضربة موجعة أوقاصمة – إن لم أقل: قاضية – إلى مصلحة من مصالح الإسلام والمسلمين. وربما تبقى الأمة سنوات طويلة تتعجب من إخفاقها في كسب المعركة الفاصلة من المعارك القائمة بينها وبين الأعداء، رغم مواصلة أبنائها لتقديم كل جهد وتضحية وفداء، ثم تتبيّن، بعد مضّى كبير وقت وفوت فُرَص، أنّ بعضَ القادة الذين كانت الأمّة تُعَوِّل عليهم، كانوا “مُسْتَأْجَرِين” من قبل الأعداء “بأجور كبيرة لائقة” جَرَّأَتْهم على الإضرار بالأمة، وجَعْلِهم إيّاها تخسر المعركةَ القائمةَ، وتنهزم في الجبهة الأساسيّة بينها وبين الأعداء.
في المعركة المصيريّة بيننا نحن العرب والمسلمين في فلسطين وبين أعداء الله ورسوله اليهود، كثيرًا ما ينكشف الغبارُ عن حمار كثير من القادة أنّهم “مستأجرون” من الصهاينة ومن الأمريكان، وأنّهم لايــودّون ما تودّه الأمــة من انتصار في هذه القضيـــة، رغم تضحيات الفلسطينين بأنـواعها التي لاتُحْصَى، ورغم نضال الشباب الإسلاميّ، ومقاومـــة الفتيــة الذين آمنوا بربّهم، ورغم مساعــدة الشعوب المسلمة التي هي على قلب رجل واحد، في اعتبار القضيّة الفلسطينية القضيةَ العقــديّةَ الإسلاميةَ الأولى، لاقضيّةَ التراب والطين فقط، كما يظنّها معظمُ القادة والساسة في بلادنا العريضة.
ولولا هؤلاء “المستأجَرون” الذين يُشَكِّلون “الطابور الخامس” لسهلت معالجــةُ هذه القضية على ما نرومه نحن المسلمين، ولما صعبت علينا ولما تلاعب بها الصهاينة حسب هواهم، ولما عاش الفلسطينيون هذه المعاناةَ الطويلةَ المريرةَ التي تدمي القلب وتذيب الكبد.
( تحريرًا في الساعة 12 من يوم الثلاثاء: 6/رجب1430هـ = 30/يونيو2009م ) .
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33