دراسات إسلامية

بقلم : أ. د/ عبد الحليم عويس (*)

ليعلم الداعية (وكلّ مسلم يمكن أن يكون داعيةً بشروط معيّنة ، وفي مستوى معين) ؛ أن الدعوة الإسلامية نجحت عن طريق الدعوة الفرديّة أو الجماعيّة بالحكمة والقدوة … أي بالداعية المخلص ، والتاجر الصادق الأمين ، وغيرهما ، وما كان دور الفتوحات الإسلامية إلاّ إزالة الحواجز وتأمين طرق البلاغ ، والحفاظ على كيان دولة الإسلام .

       فلم يكن – أبداً انتشار الإسلام بالفتوحات الإسلاميّة !!

       ومع تقديرنا العظيم لجهود سلفنا الصالح في العصرين : الراشديّ (11–41هـ) ، والأمويّ (41–132هـ) في مجال الفتوحات … إلا أننا نعلم علم اليقين أنهم ما قصدوا من وراء فتوحاتهم إدخال الناس في الإسلام مكرهين ، وما قصدوا أن تفرض هذه الفتوحات الإسلاميّة على الناس …

       – ولو كان الأمر كذلك لما بقى في الهند – حتى اليوم – (وقد حكمها المسلمون حكماً مطلقاً ثمانيةَ قرون – تقريباً) أغلبيّة هندوكيّة … بل إن الهند الآن كانت منذ شهور محكومة بحزب هندوسيّ متطرّف !!

       – وإنما كانت الفتوحات دفاعاً عن الإيمان نفسه … كانت طريقاً لمقاومة الصّورة التقليديّة الكاذبة المشوّهة التي يصرّ أعداء الدين والحق والخير والإيمان … أن يرسموها للإيمان .

       إنهم – دائماً – يخشون أن يعرض الناس الحق والخير والإيمان على حقيقته ؛ لأن مجرد هذه المعرفة الصحيحة ، مع ما توحيه – بالضرورة – من المقارنة مع الباطل والإلحاد – فكراً وحياةً وسلوكاً – ستنتهي بالنتيجة الحتميّة لصالح الإيمان!!

       – حقاً كان الأباطرة الهرقليّون في الإمبراطورية الرّومانية ودهاقنتهم ، وكان الأكاسرة في الإمبراطوريّة الرومانيّة الفارسيّة ، وسدنة النار أو الأوثان عندهم … كان هؤلاء وأولئك يحرصون الحرص كلّه على تنفير الرعية من الإسلام … وتصوير العرب الذين يحملون رايته على أنهم “إرهابيّون” و”وحوش”، دفعهم الجوع وجدْب الجزيرة العربية إلى الزحف على العالم !!

       – وكانت الدول الإسلاميّة – في المدينة المنورة – تعيش في رعب دائم … ومن هنا كانت لا تفتأ ترسل السّرايا والغزوات ، لتؤمن الحدود ولتفرض هيبتها ؛ لأنها كانت تعلم علم اليقين أن اليهود الذين يعيشون داخلها ، ومعهم جماعة المنافقين ، يعادونها ويتربّصون بها الدّوائر.

       وينتظرون الهجوم الخارجيّ ليضعوا أيديهم في يده ، شأن كل الأقليات الخائنة للأوطان والقيم والمبادئ … حتى مهما كانت طبيعة المهاجمين ، فاليهود لا يأبهون بالمبدأ ولا تجمعهم بأيّ أحد جسورٌ مشتركةٌ ، وَهمّهم الانتصار العاجل ؛ حتى ولو وضعوا أيديهم في يد الوثنيين ضدّ أهل كتاب من أمثالهم !!

       وعلى الحدود القريبة يقف أهل مكة وتوابعهم في الجزيرة يلاحقون مدينة الإسلام الناشئة ، ويدخلون معها المعارك ، بدءاً من بدر الكبرى ، وانتهاءً بغزوة الخندق ، ثم صلح الحديبيّة !!

       أما الحدود البعيدة فتقف الدولة الرومانية عليها تحرك توابعها من الغساسنة ، وتتربص بالدولة الإسلامية الناشئة ، التي أرسلت الرسل إلى الملوك تدعوهم إلى الدين الجديد ، وتقيم عليهم الحجة، وتحملهم المسؤولية الكاملة عن أنفسهم ومواطنهم …

       – وتقف الإمبراطوريّة الفارسيّة – كذلك – على جانب من الحدود تحرّك توابعها المناذرة للتربص بالدولة الناشئة والكيد لها …

       وهذه القوى أوجبت على الإسلام أن لا يغمض عينه عنها ، وفرضت عليه الاشتباك ، وهو في مهده في معارك معروف سلفاً أنها بين قوى غير متكافئة …

       وهكذا دفع المسلمون ثمناً غالياً في (مؤتة) ، واستشهد ثلاثة من خيرة صحابة رسول الله – عليه الصلاة والسلام – هم : (زيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، وجعفر بن أبي طالب … فضلاً عن مئات غيرهم!!

       فلم تكن الفتوحات – إذن – قراراً إسلاميّاً هجوميّاً ، وإنما كانت قراراً دفاعيّاً فرضته القوى الشريرة ، التي لا تؤمن أبداً بحق الآخرين في التعبير عن عقائدهم فكراً وسلوكاً …

       – ولو كان العالم مفتوحاً للحوار العادل الصادق في مناخ حرّ سليم ، لما كانت هناك حروب غالباً ؛ بل إننا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل من أهل مكة شروط مجحفة ظالمة ؟ بحثاً عن السلام ؛ لأنه يرى أن السلام الصحيح الحقيقي المكافئ هو فرصة الإسلام دائماً للانتشار والازدهار .

       وفعلاً كانت الفترة بين صلح الحديبيّة في السنة السادسة للهجرة ، وفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة من أزهر فترات الانتشار الإسلامي … ودخل الناس في دين الله أفواجاً .

       – فالدعوة كانت هي البداية ، وكانت هي الطريق ، وكانت هي الهدف الثابت والأبقى ، ويجب أن تبقى كذلك في فقه الدّعاة ، ولا سيّما في العصر الحديث ، عصر الإعلام والفضاء وشبكة المعلومات الدوليّة ، وتقارب المسافات ، بطريقةٍ لم تعرفها البشرية من قبل على هذا النحو!!

*  *  *

       لا يستطيع داعيةٌ أو غيره إنكارَ أننا في عصر العلوم والصراع الثقافي … وإنّه لمن الغفلة والعجز تجاوز هذه الأرضية ؛ بل إن على الداعية الوقوف في دعوته فوق أرضيتها عاملاً على أن يكون لهذه العلوم والثقافة توجيه روحيّ ورسالة أخلاقية ؛ فالمسلم داعية للعلم والثقافة شريطة أن يكون لهما وظيفة روحية وأخلاقية .

       * ولقد دعا العلامة (مالك بن نبي) إلى بناء ثقافي إسلامي للمسلم المعاصر يعتمد ابتداءً على التوجيه الروحي والأخلاقي للثقافة ، بهدف تكوين صلات اجتماعية منسجمة … ذات نظرة أخلاقية إسلامية للحياة والكون .

       – وهو يرى أن منظومة العالم الروحي التي تستطيع أن ترتقي بفعاليّة الفرد والمجتمع إلى مستوى العطاء النموذجي لابد أن ترتكز على عدة محاور أساسيّة هي :

       1– محور (الإخلاص) الذي يتكفّل بتجريد نيّة المسلم وقصده لله وحده .

       2– محور (المراقبة) التي تفرض الاستشعار بحضور الله الدائم في حياتنا .

       3– محور (المحاسبة للنفس) دفعاً لها إلى تصويب الخطأ .

       4– محور (التوبة) الذي يتكفّل بفتح الطريق أمام الفرد للعودة إلى توازنه النفسيّ والاجتماعيّ.

       5– محور (التوكّل) الذي يعني تفويض الأمر لله والثقة فيه وطلب العون منه .

       6– محور (الارتقاء بالسلوك الإنساني) كهدف محوريّ لحركة البناء الحضاريّ (عملياً وجمالياً) وطموحاً فردياً وانسجاماً اجتماعياً .

       – وللأسف فإن كثيراً من العاملين للإسلام انحرف ميزان العدل عندهم ؛ فوقعوا تارةً في إهدار الذات وإهانتها ، وتارةً في تضخيمها والتقليل من شأن إخوانهم وأساتذتهم ، أو من شأن الآخرين الذين يخالفونهم في بعض الآراء ، وبعضهم حريص على تأجيج صراعات عنصريّة مذهبيّة أو فكريّة أو فقهيّة أو وطنيّة …

       والمهمّ عنده تضخيم ذاته وتحقيق الاغترار بنفسه وبمن معه في فرقته أو جماعته !!

       والمؤلم أن الاغترار بالنفس ، أو الدوران حول الذات لا يبدو في طلب الرياسة بالأساليب غير الكريمة وحسْب ، كلاّ؛ إنما قد يبدو في تنقص رجل معروف ، أو اعتناق رأي شاذ أو المكابرة في حوار ، أو ما شابه ذلك من مواقف لأناس يعملون في الميدان الدينيّ أو الميدان المدنيّ على السواء .

       – وقد ورد أنّ هؤلاء أول من تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة : “تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلْهَا لِلَّذِيْنَ لاَ يُرِيدُوْنَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ”(1) .

       إن هؤلاء المرضى بالشذوذ والحقد يكثرون من التلاوة وصور العبادة ، وينتهزون الفرص التي تتنفّس فيها طباعهم فيضربون ضربتهم ، وقد كانوا كثيراً في جيش علي بن أبي طالب ؛ ولكنهم شغلوا علياً عن هدفه حتى انهزم ، وكانت صيحتهم لا حكم إلا لله ! وكان تعليق علي : (كلمة حق أريد بها باطل) !!

       – إن المتديّنين من هذا الصنف الغاش بلاء على الدين ، وعقبة أمام امتداده .

       – وكان ابن عمر يراهم شِرَارَ الخلق ، وقال: “إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفّار فجعلوها على المؤمنين”!

       إن إيمانهم لا يجاوز حناجرَهم ، أي لا يعلق بخلقهم وعملهم شيء من لبّ الدين إنما هي صور عبادة ، وصوت قراءة ، إلى جانب فظاظة في الأخلاق ، وقساوة في الأفئدة وقباحة في الأعمال !!

       وتلك كلّها خلال تنافي الإيمان ؛ فالإيمان إنكار الذات ، وحبّ للغير ، وستر على المخطئ، وسعي لإقالته من عثرته ، وسرور غامر بتوبته .

       الإيمان توقير للكبار ورحمة بالصغار وتكريم للعلماء .

       الإيمان سعادة بالرخاء يشيع بين الناس ، وألم للكوارث التي يقطب لها الجبين ، ولو كان هذا أو ذاك خبراً ينقل لا علاقة لشخصك به(1).

       وهذا الإيمان الودود هو ما يجب أن يعلمه الداعي المسلم للبشرية … حتى يكون على خطا رسول الله – عليه الصلاة والسلام – .

*  *  *

       لقد آن فض الاشتباك بين من يصلحون العقيدة ، ومن يصلحون النفس والقلب ، ومن يصلحون العقل ، ومن يصلحون الظاهر أو الباطن ؛ فكل هذه الجوانب كلٌ لا يتجزأ ، وبعضها يرشح على بعضه ، سلباً وإيجاباً … وإذا ما أعدنا الأمور إلى ميزانها الصحيح (كتاب الله وسنة رسوله وسيرته العملية عليه الصلاة والسلام) فإننا سنجد كل هذه الجوانب حيّةً فاعلةً متكاملةً لا يمكن أن تنفصل عن بعضها …

       وعندما تكون هناك (روح) و (أخلاق) تسود كلَّ المدارس العاملة للدعوة يسود الحبّ والوئام – والأخوة الإسلامية – الجميع ، ويتكاملون ولا يتصارعون … والداعية الحق من يقود الناس إلى هذا الطريق !!

       الجدال … والمقارنات بين الإسلام والمسيحية في المرحلة المبكرة :

       – منذ بداية ظهور الإسلام سنة 610م (13ق هـ) وهو يتعرض لحقد الحاقدين من أصحاب الوثنيات الوضعية والديانات الكتابية السابقة … وقد يكون هذا الأسلوب مقبولاً في حدود معنيّة ؛ فليس من السّهل ترك الإنسان لدينه وعاداته .

*  *  *


(*) أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية و رئيس تحرير مجلة “التبيان” المصر

(1) القصص : 83.

(1) المرجع السابق : 177، 178.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1430 هـ = يوليو 2009 م ، العدد : 7 ، السنة : 33

Related Posts