دراسات إسلامية

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

من الظواهر التي أصبحتْ ملفتةً للنظر ويجب الإشارة إليها، هي أننا نجد ممن امتهنوا مهنًا كالطبّ والهندسة أو الزراعة وغيرها من الوظائف الهامّة، وكانوا من المتفوقين المرموقين فيها، ما لبثوا أن أداروا ظهورهم لهذه المهن، وودَعُوها غيرَ آسفين، بحجة التفرغ للدعوة، ترك كلٌّ منهم جامعتَه ومعهدَه ومخبرَه ليتحوّل إلى واعظٍ أو مرشدٍ ومفسرٍ وفقيهٍ، وقد لاقى الكثير منهم نجاحًا في الدعوة مثلما كان نجاحهم سابقًا، مع أن عملهم في تخصصاتهم من فروض الكفاية التي تأثم الأمة جميعًا إذا فرَّطتْ فيها، وكانوا يستطيعون أن يجعلوا من عملهم عبادةً وجهادًا يُثابون عليه جزيلَ الثواب إذا صحّت فيه النيّة والتزمت حدود الله، فقد بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه كانوا يعلمون في مهن شتّى، ولم يطلب من أحدهم أن يدعَ مهنتَه ليتفرغ للدعوة، وبقي كلٌّ منهم في عمله وحرفته سواء قبل الهجرة أو بعدها، ولقد أنكر الإمام أبو حامد الغزالي على أهل زمانه توجه جمهور متعلّميهم إلى الفقه ونحوه، على حين لايوجد في بلد من بلدان المسلمين إلا طبيب يهوديّ أو نصرانيّ يوكل إليه علاجُ المسلمين والمسلمات وتوضَع بين يديه الأرواح والعورات.

       ولهذا ولذاك أسبابٌ أهمُّها على الإطلاق، هو فصل العلم والعمل عن الدين، وقبل المضي في الإفاضة فيه، سنذكر لمحةً تاريخيةً عن بداية الفصل بين العلم والدين، حيث تعود هذه المشكلةُ والتي نسير على خطها اليوم إلى مرحلةٍ حاسمةٍ في التاريخ الثقافي الغربي، وهي مرحلةُ التحوّل الفكريّ والثقافي وقيام المذاهب الوضعية وسقوط المذاهب الفلسفية والميتافيزيقية واللاهوتية، وقد اعتبر ارتباط العلم بالأخلاق والقيم من مخلفات القرون الوسطى، والذي نسجّله ابتداءً أن مشكلة التعارض المفترض بين مجال القيم ومجال العلم، مشكلةٌ مفتعلةٌ أفرزتْها ظروف شاذّة، تمثّلت في الصراع القاسي الذي عرفتْه الساحةُ الأوربية بين قطب “موغل” في المثالية الدينية المشوّهة والمثالية العقلية المتطرّفة وبين قطب “موغل” في الحس لايعترف بوجود حقيقة علمية خارج دائرة الحس، وينادي علماء الغرب بأنه على الباحث أن يتخلّى عن كل القيم والأفكار التي يعتنقها، وكل التزام قيميٍّ يُعتبر خروجًا عن المنهج العلمي، ومن المؤسف أن هذه القناعة المنهجية التي نادى بها علماءُ الاجتماع في الغرب، وجدت طريقَها إلى عالمنا الإسلامي، وتسرّبت إلى القائمين بالتدريس، وذلك من موقع التقليد والتبعية لما هو سائد في الغرب. وقد اُبْتُلِيَت الأمةُ الإسلامية بذهاب رجالها إلى جامعات “أوربا” و”أمريكا” للحصول على الدرجات العلميّة في العقيدة والمواد الشرعيّة؛ بل وعلوم اللغة ممن لا يدينون بها، حتى أن أربعةً من مشايخ الأزهر يحصلون على شهاداتهم العلميّة من جامعة “السوربون” بفرنسا، بالإضافة إلى العديد من قيادات الفكر وأصحاب الرأي في العالم الإسلامي المعاصر، خاصةً المتحكّمون منهم في العملية التربوية حيث تربوا وترعرعوا في محاضن الغرب أو الشرق العلميّة، وأصبحوا لايرون إمكانيةً للخروج من أزمتنا إلا بالانصهار في بوتقة الشرق أو الغرب، وعلى الرغم من ذلك فإن الباحث الغربي ظلّ في كل ما يكتب معبّرًا عن القيم الغربية وملتزمًا بها، ومن العبث أن نقول إن أبحاثهم كانت محايدةً وتتجرد من مقاييسهم ومعايريهم الأخلاقية، وأكبر دليل على إخضاع العلوم للقيم الأخلاقية والنظريات الفلسفية، كُتُبُ الشرق والغرب التي تتحدث عن العلوم، إما من وجهة نظر اشتراكيّة أو شيوعيّة أو رأسماليّة؛ ففي الغرب تظهر الماديّة في شتى العلوم؛ فهم يفسرون الأخلاق تفسيرًا مادّيًا، وينشرون الفلسفة النفعية، وأن رجال السياسة لابد أن يتخلّقوا بأخلاق الثعالب، ولا يحتشموا من الكذب والخيانة ونقض العهد، وظهر “ماركس” ليصنع النظرية الاقتصادية المادية والفكر الاشتراكي الشيوعي، و”فرويد” يصيغ النفس المادية برغباتها وأحلامها، و”دراوين” ليضع نظرية التطوّر وأصل المخلوقات بعيدًا عن الدين، وأصبح ذلك كله علومًا تُدَرَّسُ في الجامعات، ولم يعد الأمرُ يقتصر على تجاهل القيم الأخلاقية واستبعادها من مجال الدراسة؛ بل إنّ هذا الفصل بين القيم والعلم أدّى إلى تبرير الفشل الحاليّ لمجتمعاتنا الإسلامية بسبب القيم السائدة فيها؛ ولكننا إذا نظرنا للموضوع من زاوية أخرى نجد أنّ انكماش الحضارة العربية الإسلامية في العصر الحديث، هو الذي أفسح المجال للمدّ الأوربي المتزايد، ومن هنا ظهرتْ على الساحة الأدبية مثلاً مصطلحاتٌ تعبّر عن هذا الموضوع القائم مثل الأدب الإنجليزي والأدب الفرنسيّ والأدب الوجودي والأدب الماركسي، وفي هـذا الوقت أخــذ الأدب الإسلامي كمصطلحٍ يختفي عن الساحة، ولم يعد محلَّ تساؤلٍ فحسب؛ بل أصبح يُقابل بالنفور والرفض ووصفه بالرجعية والتخلّف، وحين بدأت جامعاتُنا تدرس العصور الأدبية لجأت إلى مصلطح الأدب العربي بدلاً من الأدب الإسلامي، وأصبحت المناهجُ الجامعية والمدرسية تدرس الأديب العربي في العصر الجاهلي وفي العصر الإسلامي وفي العصر العباسي وفي العصر الحديث، وبذلك أمكن إزاحة مصطلح الأدب الإسلامي عن الأوساط الثقافية والمتخصصة، مع أنه علميًّا لايمكن الفصل بين العروبة والإسلام على مدى التاريخ العربي؛ فالإسلام هو تحقيق تاريخي وحضاري للعروبة، والعروبة هي تجسيد حيٌّ للأفكار الإسلامية. وعلى الرغم من بداية ظهور الأدب الإسلامي من جديد إلا أن النظرة إليه مازالت حذرةً ولا يزال هؤلاء الذين تربوا على مناهج تعليمية غربية يقابلونه بتحفظ ويرونه يمثّل تعصبًا دينيًا أكثر ممّا هو يمثّل موقعًا فكريًّا، ومن بعد هذا؛ فإنه من الواضح أن العلمنة قد نفذت إلى صميم نظامنا التعليمي، وأحدثت الشرخ الكبير، الذي عزل علوم الدنيا عن علوم الدين، وقضت على الإطار القيمي والأخلاقي والروحي الذي كان يحكم ويرشد نظامنا التعليمي كله، وبذلك قصرت دورها على نقل المعلومات أو التدريب على بعض المهارات والحرف، كما أنّ هذا العزل بين علوم الدنيا وعلوم الدين قسم التعليم إلى شطرين: تعليم دينيّ وتعليم مدنيّ، مما أدّى إلى عزل التعليم الديني عن حركة التطور الحضاري منجزات العلوم الحديثة، وإفراغ التعليم المدني من مضمونة الذي يصله بعقل وقلب حضارة هذه الأمة.

       ممّا دفع الشبابَ إلى هجرة هذه العلوم المستمدة من أفكار العلمانيين، حيث يجد الشبابُ تناقضًا بينها وبين ما يأمره به الدين؛ فلا تشبع نهمَ الطالب ولا يطمئنّ إليها لمخالفتها لأمور الدين، كما أن اتجاه الشباب إلى علوم الدين مصحوبًا بإيمانهم بفشل ما تقدّمه مدارسُهم من علوم الدنيا، وعدم عودتها بأية فائدة سواء روحية أو دينية أو حتى دنيوية، أما الاستزادة من كتب الدين يعود عليهم بالنفع الدنيوي والثواب الأخرويّ، كما أن قيام مختلف المؤسسات العلمية والتقنينية الحديثة في دول العالم الإسلامي، على أنماط مستوردة، لا تنبع من عقيدتها وتراثها ولا من حاجات أفرادها ومجتمعاتها، مما أدّى إلى غرابة هذه المؤسّسات عن المشتغلين فيها وغرابتهم عنها، وإلى العديد من الحواجز الاجتماعيّة التي حالت بين هذه المؤسسات وبين تحديد أهدافٍ واضحةٍ لها، وخططٍ محددةٍ لعملها، كما حالتْ دون قيام خرّيجيها بواجباتهم كاملةً في مجتمعاتهم. ومن أسباب هجرة الكثير من الشباب للكتب المدرسيّة، ما أشيع بين البعض بأن هذه الحضارات في طريقها إلى الانهيار والسقوط، وما عليه إلا أن يمارس حالة الانتظار، ويعفي نفسه من أيّ دور أو مسؤوليّة؛ ولكنّه لم يسأل نفسه ما الذي سقط من هذه الحضارات؛ فانهارت الشيوعية في “روسيا” وبقيت أسلحتها النووية وترساناتها العسكرية مكدسةً بالأسلحة وأقمارها الصناعية وظلّ تقدمها العلميّ كما هو؛ بل اتجهوا بكل ما أوتوا من قوةٍ لمحاربة المسلمين!!.

*  *  *


(*)    6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

      الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

      الجوّال : 0101284614

      Email: ashmon59@yahoo.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1430 هـ = يوليو 2009 م ، العدد : 7 ، السنة : 33

Related Posts