الفكرالإسلامي
بقلم : د / حسني حمدان
جائزة “نوبل” من أرفع الجوائز العلمية تُمْنَح لمن أسهموا بعلمهم في كشف أسرار الكون والحياة من أجل خدمة البشرية. وجوائز نوبل في العلوم تمثل فتوحات جديدة في أساسيات العلم وتطبيقاته. ولا تكمن قيمة الجائزة في عائدها المادي؛ بل تتخطى ذلك في الاعتراف العالمي بقيمة كشف أسرار العلم. ويقال إن “الفريد نوبل” قد أوقف مالاً كثيرًا على الجائزة ليكفر عن خطئه باكتشاف البارود بعد أن استخدمه الإنسان في الهلاك والدمار؛ ولذا رصد الجائزة لمن يسهم بعلمه في إسعاد البشر.
ورسالة العلم في الإسلام أن يكون لخدمة البشر. ولذا نجد نبي الإسلام محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع”.
وأرجو من القارئ الكريم عالمًا ومتعلمًا أن يلقي السمع شاهدًا على روعة العلم القرآني في نواحي الكون والحياة حينما يعلم أن الكثير من الحقائق التي توصل إليها الحاصلون على جائزة نوبل في العلوم هي في الأصل حقائق قرآنية؛ بل إن هناك حقائق قرآنيةً علميةً ستشرف جائرة نوبل في المستقبل القريب أوالبعيد بها حينما يحققها العلماء، وإن لم يتوفر عندي في تلك اللحظة قائمة كاملة بموضوعات الجوائز التي منحت في مجال العلوم إلا أنني أتوقع أن تشرف المحافل العلمية الدولية بهداية القرآن إلى كشف الكثير من أسرار العلم في المستقبل، وهنا أبدأ بذكر حقائق قرآنية كشف عنها العلم الحديث مع علمنا التام بأنها سطرت في القرآن الكريم قبل أن يكتشفها العلم بما يزيد عن ألف سنة. ويمثل اكتشاف الذرة ومكوناتها أحد المجالات الهامة التي نال العلماء عليها جائزة نوبل أكثر من مرة. ففي الوقت الذي ساد فيه الاعتقاد بأن الذرة هي الجوهر “أتوم” (Atom) الذي لايتجزأ نجد القرآن الكريم يحدثنا عن مثقال الذرة قبل أن توزن، ويشير إلى مكوناتها قبل أن يتوصل إلى ذلك العلماء. وتأمل المواضع الست التي ذُكِرت فيها كلمةُ “ذرة” في القرآن الكريم حيث الإشارة إلى مثقال الذرة، ووجودها في السمـٰـوات والأرض، ووجود ماهو أصغر من الذرة: يقول تعالى:
* ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ النساء: آية 40.
* ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ يونس: آية 61.
* ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ سبأ: آية 3.
* ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ سبأ: آية 22.
* ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ! وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ الزلزلة: الآيتان 8،7.
وأذكر ذات مرة أن سألني سائل هل ذرة القرآن هي ذرة العلم؟ وكان السؤال مفاجئًا لي؛ لأن تلاميذ السنوات الأولى من التعليم الأولى يعرفون معنى الذرة. ولكن لما كان السؤال من رجل لبيب فلابد أن يكون وراء السؤال شيء يجب معرفته.
وفي مختار الصحاح ذرر الذَّرُ جمع ذرة وهي أصغر النمل ومنه سُمِّي الرجل (ذرًّا) وكُنّي أبوذر. والذرة: النملة الحمراء؛ عن ابن عباس وغيره، وهي أصغر النمل.
وعنه أيضًا رأس النملة. وقال يزيد بن هارون: زعموا أن الذرة ليس لها وزن.
ويقول القرطبي المتوفى سنة (671هـ): والقرآن والسنة ويدلان على أن للذرة وزنًا. وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها.
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَيَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يذكر الشيخ إسماعيل حقي البروسوي المتوفى (سنة 1137هـ) أن الذرة هي النملة الصغيرة الحمراء التي لاتكاد ترى من صغرها، أو الصغير جدًا من أجزاء التراب، أو ما يظهر من أجزاء الهباء الذي تراه في البيت من ضوء الشمس، وهو الأنسب بمقام المبالغة.
وهكذا نرى الذرة عند المفسرين القدامى والأواسط هي النملة الصغيرة والهباءة.
وإذا نظرنا في تفسير المحدثين نجد الشيخ سيد قطب – رحمه الله – نجده يقترب من حقيقة اللفظ حيث يذكر عند تفسير قوله تعالى: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.. وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ﴾. والذرة كان معروفًا – إلى عهد قريب – إنها أصغر الأجسام؛ فالآن يعرب البشر – بعد تحطيم الذرة أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وهو جزئياتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك، وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صنعته ومن أسرار خلقه عندما يشاء ونفس المعنى نجده في حاشية المنتخب في تفسير القرآن الكريم حيث يذكر أن الذرة في اللغة العربية: شيء صغير جدًا كصغار النمل أو دقيقة الغبار. ومثقال الذرة معناه وزن الذرة، وتفيد الآية وجود ماهو أصغر من الذرة، وجدير بالذكر أن العلم الحديث أثبت أن انقسام الذرة إلى أصغر منها وهي مكوناتها المعروفة بالنواة والكهارب. وهذا لم يتحقق علميًّا إلاّ في القرن العشرين الميلادي.
وكلمة ذرة (Atom) أصلها إغريقي، وتعني مالاً ينقسم بمعنى أنها الجوهر، إلا أن سرعان ما وجدنا أن الذرات وهي لبنات بناء المادة، وجدنا أنها تتكون من كهارب (الكترونات) تدور في مدارات حول نواة مصنوعة من البروتونات والنيترونات. وقد أدت الأبحاث على الفيزياء الذرية في أول ثلاثين سنةً من القرن العشرين إلى أن نصل بفهمنا إلى النزول لأطوال تبلغ جزءًا من المليون من الملليمتر. ثم اكتشفنا أن البروتونات والنيترونات مصنوعة من جسيمات أصغر اسمها الكواركات.
وأريد أن أنبه إلى عظمة ودقة ﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذلك﴾ في الآية: 61 من سورة يونس، والآية: 3 من سورة سبأ. وكان فهمي أنه كلما وصلت إلى الأصغر من الذرة ظلت تحاول الوصول إلى الأصغر دائمًا، وإذ بي أطالع الجملة التالية المذكورة من كتاب “الكون في قشرة لوز” لستيفن هوكنج (2001): (وصلت بنا أبحاثنا الحديثة عن الفيزياء النووية وفيزياء الطاقة العالية إلى مقاييس أصغر مما سبق (أى أصغر من جزء من المليون من الملليمتر) بليون مرة. وربما بدا أننا نستطيع مواصلة ذلك إلى الأبد). إن ﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ﴾ خير تعبير عن جملة هوكنج السابقة، ومن هنا ندرك عظمة النص القرآني؛ فالذرة هي الذرة الحقيقية والنص يستوعب؛ بل ويهيمن على كافة مستويات الفكر العلمي ابتداءً من الذرة الكلاسيكية إلى مفهوم الذرة اليوم وفي المستقبل.
يخبرنا القرآن الكريم منذ ما يزيد على 1400 عام أن للذة مثقال ثم يجيء (رزفورد (Rutherford ليثبت أن الذرة تتكون من كهارب تدور حول النواة. والنواة تتكون من بروتونات تحمل شحنةً موجبةً ونيترونات متعادلةً في شحنتها الكهربية، أما الالكترونات فتحمل شحنةً سالبةً. ثم جاءت التقديرات التالية:
كتلة الأبيب (البرتون) = 6748, 1×10-24 جم
كتلة النيترون = 6748, 1×10-24 جم
كتلة الالكترون = 107, 9×10-27 جم
وبالرغم من أن وزن البرتون = 1837 مرةً قدر وزن الالكترون إلاّ أن شحنة كل منهما تعادل الآخر. والحقيقة البارزة: هي أن قيم هذه الأرقام قد ضبطت ضبطاً دقيقًا جدًّا لتجعل نشأة الحياة ممكنةً. ويقول ستيفن هوكنج لو أن الشحنة الكهربية للإلكترون كانت تختلف فقط اختلافًا هيّنًا، لما أمكن للنجوم أن تحرق الهيدروجين والهيليوم، أو أنها ما كانت بالتالي ستنفجر. حقًا إن كل شيء خلقه الله بقدر وبمقدار ليسخر في خدمة الإنسان، وصدق الله حيث يقول:
* ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ الفرقان: آية 2.
* ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ الطلاق: آية 3.
* ﴿وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَه بِمِقْدَارٍ﴾ الرعد: آية8.
* ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ القمر: آية49.
والسؤال: لماذا هذا الضبط الدقيق في الخلق عامةً وفي الكون خاصةً؟
الجواب في قوله تعالى:
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الجاثية: آية 13.
هذا هو قانون التسخير الإلهي الذي اقتبسه العالم ستيفن هوكنج وردده كثيرًا في كتابه “تاريخ موجز للزمان” سنة 1987م، وفي كتابه “الكون في قشرة لوز” الذي يقول فيه على وجه التقريب أن السبب في أننا نرى الكون بما هو عليه، هي في جزء منه أننا موجودون.
فهل من أحد يُبلغ هوكنج بأن هذا المبدأ الذي سماه المبدأ الإنساني حق له أن يسميه قانون التسخير الرباني وهو أننا نرى الكون هكذا مضبوطاً لأن الله سخره لنا.
وعن هذا العالم الصغير الكبير يعبر الدكتور كارم غنيم عن مدى اتساعه متخيّلاً أنه لو قارنّا النظام الشمسي بالنظام الذريّ معتبرين أن الشمس تمثل نواة الذرة، وأن الأرض تمثل أحد الإلكترونات التي تدور حولها؛ فإن الأرض التي تبعد عن الشمس بنحو 150 مليون كيلو متر يلزمها أن تبتعد 500 مرةً ضعف بعدها هذا (500×150 مليون كيلو متر) حتى تحاكي النظام الذري.
ويضيف بأننا نحتاج 1510 نواة إذا أردنا أن تملأ ذرة واحدة.
وتاريخ خلق الذرات تاريخ مثير يرجع إلى اللحظات الأولى في عمر الكون.
وتشير دراسة تطور الكون إلى أن الذرات الأولى من الهيدروجين والهليوم قد تشكلت في الفترة الممتدة من 300,000 سنة إلى البليون سنة ابتداءً من لحظة الانفجار العظيم؛ فبعد حقبة التضخم المحتملة في الفترة من 10-36 ثانية حتى 10-5 ثانية بدأ تكون البروتونات والنيترونات من الكواركات في الفترة من 10-5 ثانية إلى 3 دقائق أولى من لحظة الانفجار الأعظم، ثم تلي ذلك تكون نويات الذرات في الفترة من 3 دقائق حتى 300 ألف سنة من لحظة الانفجار الأعظم. وبعد ذلك تشكلت الذرات المنتشرة في السمـٰـوات والأرض. ومن ثم ندرك إعجاز القرآن في الإشارة إلى وجود الذرات في السموات وفي الأرض.
والقرآن يحدثنا عن “مثقال ذرة”. والعلم أثبت أن العناصر تتكون من ذرات ولكل عنصر عدد ذري (atomic number) يساوي عدد البروتونات في نواة ذرته وأخف ذرات العناصر عددها واحد وهي ذرة الهيدروجين، وللذرة كتلة تساوي تقريبًا مجموع كتل البروتونات والنيترونات. وبعض ذرات نفس العنصر تمتلك أرقام كتل مختلفة في العناصر التي لها أكثر من نظير. وتنتظم العناصر في جدول دوري تضم 103 عنصر (حتى عام 1995م) تبدأ بأخف الذرات وهي ذرة عنصر الهيدروجين التي كتلتها الذرية = 1,0079 وتنتهي بعنصر الليريوم Lr التي كتلها = (260). ما أعظم حديث القرآن عن “مثقال ذرة” و”من مثقال ذرة” ولربما في ضوء علمنا كان مثقال الذرة هو وزن ذرة الهيدروجين المقدرة بـ 1,7×10-24 جم أو مثقال كل ذرة لكل عنصر من عناصر الجدول الدوري.
ولو علمنا أقدار الذرة ومكوناتها لأوردنا سرَّ تصدّر الآيات ذات الصلة بقوله: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ سبأ: آية 3.
ولا عجب أن يتوصل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t إلى التنبؤ بكشف العلاقة بين بنية الذرة وبنية كواكبها، الأمر الذي أدهش المحرر العلمي لجريدة “الهيرالد تربيون” الأمريكية فكتب يقول: إن إحدى النقاط المتلألأة في العلم في القرون الوسطى تأتي من قول الصوفي الكبير أبوالحسن صهر محمد صلى الله عليه وسلم: “إذا فلقت الذرة – آية ذرة – وجدت في قلبها شمسًا” وللمزيد يراجع القارئ كتاب اللواء أحمد عبد الوهاب عن الذرة عند علماء المسلمين.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1430 هـ = يوليو 2009 م ، العدد : 7 ، السنة : 33