الفكر الإسلامي
بقلم : الأستاذ محمد سيد بركة
الدين شيء لازم في حياة الإنسان لايستطيع أن يعيش بدونه.. “فهو فطرة من الفطر التي فطر الله الناس عليها وهو ضرورة كضرورة الضوء للعينين والهواء للرئتين والروح للجسد.. “
“وفي الطبع الإنساني جوع إلى الإعتقاد كجوع المعدة إلى الطعام.. ” وقد رافق الدين مسيرة البشرية منذ يومها الأول..
“.. وقد اتفق علماء المقابلة بين الأديان على تأصيل العقيدة الدينية في طبائع بني الإنسان منذ أقدم أزمنة التاريخ.. “
والدين هو النظرة الشمولية للحياة والطبيعة والعالم ولا غني عنه للإنسان سواء كان هذا الإنسان يعيش في صحراء إفريقيا أم يعيش في قلب أمريكا..
“إن كل دين هو منهج للحياة بما أنه تصور إعتقادي.. أو بتعبير أدق بما أنه يشمل التصور الاعتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي؛ بل من منهج يحكم كل نشاط الإنسان في هذه الحياة الدنيا”..
والدين هو الذي ينظم العلاقة بين الخالق والمخلوق وينظم العلاقة بين الأرض والسماء وهو قيمة خلقية.. فالإنسان ذو غرائز طبيعية واستعدادات نفسية وميول فطرية وهذه الغرائز والاستعدادات والميول هي التي توجه الإنسان وترسم له خط سيره فإذا تركت وشأنها نزعت به إلى شر منزع؛ فهناك من الناس من تغلب عليه الشهوة البيهيمية فيكون في ممارسته لها أحط من البهائم.. ومنهم من تغلب عليه الشهوة الغضبية؛ فيكون في ظلمه وبغيه وانتقامه أضرى من الوحوش المفترسة.. ومنهم من تغلب عليه الشهوة الشيطانية؛ فيكون مثل إبليس في المكر والكيد والخبث والنفاق والرياء والكذب.. والدين وحده بعقائده وشرائعه وآدابه ومثله هو الذي يطهر النفوس من هذه النقائص البهيمية والغضبية والشيطانية وهو الذي يهذب الغرائز ويعليها ويوَجِّهها إلى الخير والبر..
وهو الذي يكبح جماح الشهوة البهيمية؛ فتكف عن التدلى والتسفل والشره، ويمنع الشهوة الغضبية من الاسترسال في الظلم والبغي والعدوان ويُوَجِّهُها إلى الشجاعة في الحق ومواجهة الباطل بالعنف، ومناصرة الضعيف وإغاثة الملهوف ..
والدين هو الذي يطارد وساوس الشيطان وحظه في النفس ويحول شروره وآثامه إلى الصدق والإخلاص .
“والدين هو الموجد للضمير، والضمير هو الشعور النفسي الذي يقف من المرء موقف الرقيب يحثه على أداء الواجب وينهاه عن التقصير فيه ويحاسبه بعد أداء العمل مستريحًا للإحسان ومستنكرًا للإساءة.. “
“وكلمة الدين لا تعني عند الغربيين المتشبعين بالثقافة اليهودية المسيحية ما تعنيه عند المسلمين، وقد يكون من الخطأ أن نكتفي بترجمة كلمة دين العربية باللفظ Religion؛ فالمسألة ليست لفظية بقدر ما هي ذات ارتباط ببناء كل من المعتقدات والتصورات وما يترتب عليها من طرائق السلوك ومنازع التفكير..
إن مفهوم الدين عند المسيحي الكاثوليكي مثلاً ينطلق أساسًا من الارتباط بالكنيسة بوصفها مؤسسة يتمتع فيها البابا بسلطة مطلقة في كل ما يتصل بتنظيم الروابط بين الإنسان والرب الذي يتجسد عندهم في الثالوث المقدس وهذه السلطة يمارسها البابا بصفته وارث القديس “بطرس الحواري” وهي تخول له حقوقًا منها تلقى الاعتراف من الأتباع، ومنح الغفران بواسطة هيئة من الأساقفة والرهابنة المرتبين في درجات بعضها فوق بعض..
أما عند المسيحي البروتستانتي؛ فإن رجل الدين لا يتميز عن غيره بشيء والناس لا يأتون إليه ليجلسوا أمامه على كرسي الاعتراف ويقروا بذنوبهم بين يديه وليس من حقه أن يبيع أحدًا من عباد الله عقارات في الجنة من خلال صكوك الغفران، وله كرجل دين أن يتزوج إن شاء كما أن الطلاق يتم إذا توافرت دواعيه ومبرراته، ومريم أم المسيح في نظر البروتستانت ليست أكثر من امرأة صالحة، وهذا المفهوم يتفق معه الإسلام بصورة عامة، ولكن الإسلام يضيف إليه أمورًا أساسيةً كوحدانية الله تعالى المطلقة، وعبودية عيسى عليه السلام لله، وأنه لم يصلب؛ بل أنقذه الله سبحانه وتعالى من مكر اليهود وغدرهم وأن محمدا ابن عبدالله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء، وأن شريعته التي جاء بها من عند الله هي تمام الشرائع وكمال الدين الذي ارتضاه الله لعباده في الدنيا والآخرة وعلى هذا؛ فإن الفكر الديني مرتبط عند كل طائفة وملة بما لها من معتقدات وما تمارسه من شعائر وما تؤمن به من شرائع ..
والدين الإسلامي مصطلح شامل جامع؛ فهو نظام للحياة الكاملة الشاملة لنواحيها الاعتقادية والفكرية والخلقية والعملية.. يقول الله تعالى:
“إنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَم” (آل عمران آية19) “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيْنًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ” (آل عمران85) “هُوَ الَّذِيْ أَرْسَلَ رَسُوْلَه بِالْهُدَىٰ وَدِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُوْنَ” (التوبة 33) “وَقَاتِلُوْهُمْ حَتّىٰ لاَتَكُوْنَ فِتْنَةٌ وَيَكُوْنَ الدِّيْنُ كُلُّه لِلّهِ” (الأنفال39)
وخلاصة القول:
إن طبيعة أي دين صحيح هو شموليته لنظام الحياة الواقعية؛ فلن يكون للدين معنىً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية بتصوراته الخاصة وبمفاهيمه الخاصة وشرائعه الخاصة وتوجيهاته الخاصة؛ فليس من طبيعة الدين أن ينفصل عن الدنيا وليس من طبيعة الدين أن ينحصر في المشاعر الوجدانية والأخلاق التهذيبية بعيدًا عن الحياة الواقعية فكيف يتسنى للدين أن يشرع طريقًا للآخرة لايمر بالحياة الدنيا؟!
إذن كيف تم الفصام النكد – كما يسميه المرحوم سيد قطب – بين الدين والدنيا وأصبح مفهوم الدين عند معظم الناس هو مجرد طقوس وشعائر تعبدية لا تتعدى المكان المهيأ لها.. كيف حدث هذا؟ وفي أي مكان؟! وإذا كان هذا قد حدث في مكان ما لظروف وملابسات؛ فهل ينطبق هذا المفهوم على كل دين سواء حدثت مثل تلك الظروف أم لم تحدث.. أم ماذا؟ تلك إذن قضية أخرى..
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1430 هـ = أبريل 2009 م ، العدد : 4 ، السنة : 33