الفكر الإسلامي
بقلم : الدكتور/ يوسف القرضاوي
لكل حضارة جسم وروح، كالإنسان تمامًا فجسم الحضارة يتمثل في منجزاتها المادية من العمارات والمصانع والآلات، وكل ما ينبئ عن رفاهية العيش ومتاع الحياة الدنيا وزينتها .
أمّا روح الحضارة فهو مجموعة العقائد والمفاهيم والقيم والآداب والتقاليد التي تتجسد في سلوك الأفراد والجماعات وعلاقاتهم بعضهم ببعض، ونظرتهم إلى الدين والحياة، والكون والإنسان، والفرد والمجتمع .
والحضارات الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية تتفاوت فيما بينها في موقفها من المادية والروحية، فمنها ما يغلب عليه الجانب المادي، ومنها ما يغلب عليه الجانب الروحي، ومنها ما يسوده التوازن بينهما.
والحضارة التي تسود عالمنا اليوم هي (الحضارة الغربية) وهي حضارة لها مزاياها التي لاتنكر، من ناحية احترام حرية الإنسان وخاصةً داخل أوطانها، وإطلاق حوافزه وطاقاته، حتى استطاع أن يطوع (الطبيعة) لخدمته ويفجر الذرة لمصلحته، وأن يحلق في الهواء كالطير ويغوص في البحر كالسمك، وينطلق في الأرض كالمارد. كما استطاع أن يصنع ذلك الجهاز العجيب الذي وفر للإنسان وقته وجهده الذهني، وهو (الحاسوب) أو الحاسب أو الحافظ (الكومبيوتر)، وإنما فعل ذلك كله بفضل العلم الذي اكتشف قوانينه، وأحسن استخدامه وتطبيقاته (التكنولوجية) مع حسن إدارة وروعة تنظيم، وإحكام رقابة وتوجيه.
وبهذا استطاع الفرد العادي أن يعيش في مستوى من الرفاهية يحسده عليه ملوك العصور السابقة، الذين لم يكونوا يجدون ما يقاومون به شدة الحر ولا قسوة البرد، فما يجده الإنسان الآن من أجهزة التكييف، وآلات التدفئة. وما تيسر له الأدوات الأتوماتيكية التي تدار أو توقف بمجرد الضغط على زر صغير، فيضاء الظلام، أو يطهى الطعام، أويسخن البارد، أو يبرد الحار أو يقرب البعيد أو ينطق الحديد.
ورغم هذه الانجازات المادية الضخمة يقول الواقع: إن هذه الحضارة لم تهيئ لأهلها السعادة المنشودة، أو السكينة المرجوة، إنها جسم فيل له روح فأر!
أجل إن عيب الحضارة المعاصرة ما يتغلغل في أعماقها من (المادية النفعية) التي جعلتنا نقول: إنها روح الحضارة الغربية، وأساس فلسفتها والطابع العام لها، وجوهر فكرها الذي يميزها.
الجميع يشعرون بخطر المادية المحدق:
لقد تفاقم الخطر، وتطاير الشرر: خطر المادية، وشرر الحياة الآلية، ولم يبق ذو عقل إلا أعلن شكواه من هذا الواقع والمتوقع، الظاهر والكامن كمون النار في البركان، يوشك أن ينفجر في لحظة من اللحظات؛ فيأتي على الأخضر واليابس.
يستوي في ذلك العلماء والأدباء، والفلاسفة والمفكرون، والسياسيون والإداريون.
أما العلماء فحسبنا منهم ثلاثة: اثنان من حملة جائزة نوبل في العلوم، أحدهما: العالم العالمي الكبير الكسيس كاريل، والثاني: رينيه دوبو، وكلاهما فرنسي الأصل، عاشا في أميركا، والثالث طبيب نفسي أميركي، جمع بين العلم والعمل الميداني العلاجي، هو د. (هنري لنك).
يقول الكسيس كاريل في كتابه الشهير (الإنسان ذلك المهجول) :
“إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب؛ لأنها لاتلائمنا؛ فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية؛ إذ انها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا .
“لقد أهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال، إهمالاً تامًا عند تنظيم الحياة الصناعية . إذ أن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ: “الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف” حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال. وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات. ودون أي اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد وأحفادهم… “
“يجب أن يكون الإنسان مقياسًا لكل شيء؛ ولكن الواقع هو عكس ذلك؛ فهو غريب في العالم الذي ابتدعه، أنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه؛ لأنه لايملك معرفة عملية بطبيعته.. ومن ثم فإن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانية.
ويقول البروفسور (رينيه دوبو) في كتابه المترجم بعنوان (إنسانية الإنسان).
نحن ندعي أننا نعيش في عصر العلم. إلا أن الحقيقة هي أن الميدان العلمي كما يدار الآن، ليس فيه توازن يسمح للعلم بأن يكون ذا فائدة تذكر في إدارة أمور الإنسان. لقد جمعنا كمًّا هائلاً من المعلومات حول المادة، وتقنيةً قويةً لضبط واستغلال العالم الخارجي.. ومع ذلك لايزال جهلنا فاضحًا بالآثار التي قد تنتج عن اللعب بمهاراتنا هذه. ونتصرف في غالب الأحيان وكأننا آخر جيل يعيش على هذه الأرض.
لقد اكتسبنا معلومات كثيرة عن آلية الجسم، وبعض المهارة في ضبط تفاعلاته وتصليح عيوبه، ولكن، بالمقابل، نحن نكاد لانعلم شيئًا مطلقًا عن الطرق التي يحول بها الإنسان قابلياته الموروثة ليهندس بها شخصيته الفردية، فبدون هذه المعلومات لن تفيد الاختراعات الحديثة – التقنية والاجتماعية – الأهداف الإنسانية .
إن الحياة الشاذة التي يعيشها عامة الناس الآن تخنق وتعطل التفاعلات الحيوية الضرورية لسلامة الإنسان العقلية، ونمو الإمكانات الإنسانية.
إن كل المفكرين قلقون على مستقبل الأبناء الذين سيقضون حياتهم في بيئات اجتماعية ومحيطية سخيفة عابثة باطلة، نخلقها نحن لهم بدون أي تفكير. وأكثر ما يزعج هو علمنا بأن الخصائص العضوية والفكرية للإنسان تخططها اليوم البيئات الملوثة، والشوارع المتراصة والأبنية الشاهقة، والخليط الحضري المتمرد، والعادات الاجتماعية التي تهتم بالأشياء، وتهمل البشر.
الإنسان العصري قلق حتى ولو كان في زمن السلم وفي جو البحبوحة الاقتصادية؛ لأن عالم التكنولوجيا الذي شكل محيطه المباشر، والذي فصله عن عالم الطبيعة الذي تطور الإنسان فيه أصلاً، فشل – أي عالم التكنولوجيا – في توفير حاجات الإنسان الأساسية التي لم تتغير ولم تتبدل. ومن نواح كثيرة يشبه إنسان العصر “الحيوان البري، الذي يقضي حياته في حديقة الحيوانات فالإنسان الآن كهذا الحيوان … يتوفر له الغذاء الكافي والحماية الكافية من القسوة . ولكنه يحرم من المثيرات الطبيعية الأساسية للعديد من وظائفه الجسدية والفكرية. فإنسان اليوم ليس فقط غريبًا عن أخيه الانسان وعن الطبيعة بل الأهم بكثير هو أنه غريب معزول عن أعماق ذاته.
ويقول الدكتور “هنري لنك” طبيب النفس الأمريكي الشهير، معارضًا للذين ينكرون الإيمان بالغيب، باسم العلم واحترام الفكر، مبينًا أن العلم وحده لايستطيع أن يحقق للإنسان أسباب السعادة الحقة والواقع أنه يوجد الآن في كل ميدان من ميادين العلم من الظواهر ما يؤجج شعلة ذلك الضلال، وأعني به تعظيم شأن الفكر، ومع ذلك كان علماء النفس هم الذين توصلوا إلى أن الاعتماد المطلق على التفكير فحسب، كفيل بهدم سعادة الانسان، وإن لم يقوض دعائم نجاحه. ثم إن إماطة اللثام عن هذا الاكتشاف لم تتم إلا عن طريق تجارب هؤلاء العلماء مع الناس، واختباراتهم العلمية التي أجروها على الآلاف، وبقى أن أقول: إن الوصول إلى هذه المكتشفات قد تم بالنسبة لعلاقتها بطرق التعليم والدين، والشخصية وفلسفة الحياة؛ فلن نهتدي إلى حل شاف لمشكلات الحياة العويصة، ولن ننهل من مورد السعادة عن طريق تقدم المعلومات والمعرفة العلمية وحدها. فارتقاء العلم معناه ازدياد الارتباك واضطراد التخبط، ومالم يتم توحيد هذه العلوم كلها تحت راية حقائق الحياة اليومية الواضحة واخضاعها، فلن تؤدي هذه العلوم إلى تحرير العقول التي ابتدعتها وابتكرتها؛ بل ستقود حتمًا إلى انهيار هذه العقول وتعفنها. كما أن هذا التوحيد لابد أن يأتي عن طريق آخر غير طريق العلم، وأعني به طريق الإيمان .
أمّا الفلاسفة والمفكرون الذين حذروا من مادية الحضارة الغربية، وإغراقها في الآلية الصناعية؛ فهم كثيرون..
من ذلك تحذير الفيلسوف الأميركي (جون ديوي) الذي قال: إن الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها، ولاتثق بقوة هذا العلم في خلق قيم جديدة.. لهي حضارة تدمر نفسها بنفسها !
ومنهم المفكر الكبير، المؤرخ البريطاني “توينبي” إذ يقول:
“لقد أغرت فنون الصناعة ضحاياها، وجعلتهم يسلمونها قياد أنفسهم ببيعها “المصابيح الجديدة” لهم مقابل “المصابيح القديمة” لقد أغرتهم فباعوها أرواحهم وأخذوا بدلاً منها “السينما” و”الراديو” وكانت نتيجة هذا الدمار الحضاري الذي سبّبته تلك “الصفقة الجديدة” إفقارًا روحيًا، وصفه أفلاطون بأنه “مجتمع الخنازير” ووصفه الدوس هكسلي بأنه “عالم زاه جديد” .
“ويأمل توينبي في نهاية البحث بأن خلاص الغرب لايكون إلاّ بالانتقال من الاقتصاد إلى الدين، ولكنه لايخبرنا كيف سيتم هذا الانتقال، وإنما يؤكد قائلاً:
“الغربي يستطيع بواسطة الدين أن يتصرف تصرفًا روحيًا يضمن سلامته بالقوة المادية التي ألقتها بين يديه ميكانيكية الصناعة الغربية” .
ولعل أحدث رجال الفكر من نقاد الحضارة الغربية المادية، ومن أهلها هو المفكر الفرنسي الشهير (روجيه جارودي) الذي انتهى به نقده للحضارة الغربية إلى هداية الإسلام، ولنستمع إليه في محاضرة له في جامعة قطر منذ ثلاث سنوات: “بفضل تخصيص 600 بليون دولار سنة 1982م للإنفاق على التسلح أصبح كل ساكن من سكان الأرض تحت تهديد مايعادل أربعة أطنان من المتفجرات، وصارت الموارد والثروات في نفس السنة موزعة بشكل أدى إلى هلاك 50 مليون نسمةً في العالم الثالث بسبب المجاعة وسوء التغذية! ومن الصعب أن نسمي ذلك المسار التاريخي الذي سلكته الحضارة الغربية تقدمًا، والذي أصبحت على أثره، ولأول مرة في تاريخ الملحمة الإنسانية الذي يمتد على مدى مليوني أو ثلاثة ملايين سنة قادرة تقنيًا على محو كل أثر للحياة الاجتماعية على وجه البسيطة”.
على الصعيد الاقتصادي يسود مفهوم النمو أي تلك الرغبة العمياء في زيادة الإنتاج أكثر فأكثر، بسرعة متزايدة، وإنتاج أي شيء صالحا كان أو غير صالح، مضرًا أو مسببًا للهلاك.
* على الصعيد السياسي، قامت علاقات اجتماعية داخلية وخارجية يطغى عليها العنف، أي الصراع بين مصالح الأفراد والطبقات والأمم، ونزعتهم إلى القوة والهيمنة .
* على الصعيد الثقافي الذي يتميز بفقدان المعنى والغاية: قامت تقنية غايتها التقنية لذاتها، وعلم يهدف إلى العلم ذاته، وفن لايهدف إلا للفن، وحياة لاتهدف إلى شيء.
وفي مستوى العقيدة ضاع مفهوم التسامي والعلو، أي ذلك البعد الإنساني الحقيقي للبشر.
وأما السياسيون فنكتفي منهم بالسياسي الأميركي الشهير (فوستر دلاس) وزير خارجية أميركا في عهد الرئيس (ايزنهاور) وصاحب كتاب (حرب أم سلام؟).
يقول دلاس في فصل من كتابه، تحت عنوان (حاجتنا الروحية) :
إن هناك شيئًا ما يسير بشكل خاطيء في أمتنا وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية.. لايجدر بنا أن نأخذ موقفًا دفاعيًا وأن يمتلكنا الذعر.. إن ذلك أمر جديد في تاريخنا!
إن الأمر لايتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي؛ فبدونه يكون كل مالدينا قليلاً وهذا النقص لايعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أوالعلماء مهما كثرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها”!
“فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية، فإن النتائج السيئة تصبح أمرًا حتميًا” .
“وفي بلادنا لاتجتذب نظمنا الإخلاص الروحي اللازم للدفاع عنها . وهناك حيرة في عقول الناس، وتآكل لأرواحهم، وذلك يجعل أمتنا معرضةً للتغلغل المعادي – كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الآن – ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس أن تقوم بحمايتنا في هذه الظروف”.
“ويجب أن نفهم كذلك بوضوح أن مجتمعًا حرًا ليس معناه مجتمعًا يسعى كل فرد فيه لنفسه؛ بل أنه مجتمع متناسق .
والقيود المفروضة هي قبل كل شيء، روابط الأخوة المنبعثة من الإيمان. فإن الناس خلقوا لكي يعيشوا إخوانًا في رعاية الله.. “.
هذه هي مادية الحضارة المعاصرة فإلى طوق لنجاة في عدد قادم إن شاء الله .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1430 هـ = أبريل 2009 م ، العدد : 4 ، السنة : 33