دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور محمود محمد عمارة
* “اَللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ”(1)
* وقد جعلها سبحانه وتعالى حيث علم!: فاختار لها الزمان والمكان.. كما اختار لها سبحانه الأمة التي تتحمل مسؤولياتها.. ثم اصطفى من هذه الأمة رجلاً.. تجمع فيه كل ما تفرق في قلوبها من صفاء الفطرة.. وقوة الإرادة.. ونقاء الخلق.
حتى اللحظة التي اتصلت فيها الأرض بالسماء حين بدأ الوحي.. كانت براعة الاستهلال ضمنها الحق سبحانه أصول الحياة الراشدة.
أما مناسبة الزمان والمكان: فقد كان الأمر على ما يقول الحق سبحانه: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ لِيُذِيْقَهُمْ بَعْضَ الَّذِيْ عَمِلُوْا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ”(2)
وحيث صار الخلق عن الحق في فكر ذاهل.. وشغل شاغل.. فقد مضت سنة الله تعالى: أن تطلع هذه الشمس التي تبدد الظلام. وتملأ الدنيا نورًا وهدايةً من أفق جزيرة العرب.
مركز الدائرة
فهي من الناحية الجغرافية: (إن موقع الجزيرة العربية الجغرافي يجعلها جديرةً بأن تكون مركزًا لدعوة تعم العالم. وتخاطب الأمم) كما يقول الندوي.
ومن هذا الموقع الممتاز .. تصبح مركز الدائرة على مستوى العالم .. ومن ثم .. يشع نورها في كل زواياه ومساربه .. يعينها على ذلك ما أثمره ذلك الموقع الوسط من بعد عن التأثر بأي من الحضارات أو الديانات المحيطة بها.. هيأها لتكون بحق: أمةً وسطاً.. شاهدةً على الناس..
في الوقت الذي أذن الله فيه لشمس الحقيقة أن تبزغ من أفق العرب.. كانت الشخصية الإنسانية في البلاد المتحضرة المجاورة في خبر كان على ما يقول الشاعر:
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدًا!
* لقد انحلت عرى هذه الشخصية .. وماتت عناصر القوة فيها.. بل لم يعد الإنسان هناك مستعدا ليعيش حياته حتى في أدنى درجات السلم الاجتماعي .. كأن الحاكم إذا احتجم.. أو فصد له .. أو تناول دواء.. كان ينادي في الناس: ألا يمارس إنسان من رجال البلاط.. أو سكان العاصمة عملاً.. ويكفوا عن كل صناعة أو ممارسة نشاط.. وإذا عطس فلا يسوغ لأحد من رعاياه أن يدعو له!(3)
فانظر كيف يتوقف دولاب العمل .. من أجل وعكة تلم برجل يتخذ من ذاته محورًا للكون كله!.
وإذن .. فقد كانت السلبية هي القاسم المشترك في هذه الأمم.. (اعتادوا مجاراة الأوضاع.. ومسايرة الزمان لايهيجهم ظلم.. ولا يستهويهم حق.. ولا تملكهم فكرة أو دعوة.. تستحوذ عليهم استحواذًا يتناسون فيه أنفسهم.. ويجازفون فيه بحياتهم ولذاتهم”(4).
وفي هذا الوقت بالذات.. يهيئ الله الأمة العربية لتحمل المسؤولية بما حباها من إيجابية .. وخصائص.. صارت بها سلاح القدر الذي قوض الله به بنيان الظلم.. وأقام به صرح العدل والنظام.
الرسول .. المصطفى
عندما اعترض المشركون على اختيار محمد صلى الله عليه وسلم فيما حكاه القرآن الكريم عنهم: “لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيْمٌ”(5)، كان الرد الإلهي مبينًا أولاً أساس هذا الحكم فيما سبق هذه الآية الكريمة: “بَلْ مَتَّعْنَا هـٰـؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ.. “
إنهم تقلبوا في أعطاف النعيم كابرًا عن كابر.. وأفسد النعيم فيهم ملكة التمييز.. وحرمهم من صحة الحكم.. إنهم محكومون بقيم: المال.. والجمال.. والمنصب.. وإذ قسم الله تعالى هذه الحظوظ بينهم دون أخذ رأيهم.. فإن أفق الرسالة شأن آخر.. إنه رحمة الله التي يقسمها كيف يشاء .. ولا صلة لهم بها إطلاقاً.. إلا أن يتعرضوا فقط لآثارها على يد من اختاره الله لنشرها.
* * *
واصطفاء الحق سبحانه وتعالى من عباده من لم يكن ذا مال.. وبنين .. ومحمدًا صلى الله عليه وسلم بالذات.. إنما جاء طبق سنة إلهية تبينها طبيعة الرسالة ذاتها.. أجل.. إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك من مظاهر الدنيا ما ينهض شفيعًا له .. وجاذبًا يلفت الناس إليه .. ولكنه كان يملك من عظمة الخلق سندًا أي سند.. وإذن فهو بأخلاقه يعكس طبيعة الرسالة التي قدر لها أن تمضي في شعاب الدنيا بقواها الذاتية .. على لسان رسول يملك من قوة الشخصية ما يغنيه عن كل طلاء كاذب !
(لقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل. ولم يشأ الحق سبحانه أن يجعل لهذه الرسالة سندًا من خارج طبيعتها .. ولاقوة من خارج حقيقتها.. فاختار رجلاً ميزته الكبرى: الخلق.. وهو من طبيعة هذه الدعوة.. وسمته البارزة .. التجرد.. وهو من حقيقة هذه الدعوة .. ولم يختره زعيم قبيلة.. ولا رئيس عشيرة.. ولا صاحب جاه .. ولا صاحب ثراء .. كي لاتلتبس قيمة واحدة من قيم الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء.. ولكي لاتزد ان هذه الدعوة بحلية من حلى هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء.. ولكي لايكون هناك مؤثر مصاحب لها، خارج عن ذاتها المجردة .. ولكي لايدخلها طامع.. ولا يتنزه عنها متعفف)(6).
وإذن فإن اصطفاء الحق سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم جاء على ما تقتضيه الحكمة .
* وحتى هؤلاء الحنفاء العابدون الله على ملة إبراهيم عليه السلام.. على ما كان لديهم من صدق النوايا.. وسلامة الوجهة.. بيد أنهم لم يكونوا على مستوى هذه المسؤولية العظمى.. فلم يكن الأمر أمر نوايا صادقة .. بقدرما كان الأمر (خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير) – كما قيل بحق – خلوصًا يمحض وجود الرسول كله للرسالة وتبعاتها .. ومن وراء ذلك كله إرادة فذة ماضية بالناس إلى الجنة!
يقول الشيخ محمد الغزالي في هذا المعنى: (إن زيدًا – بن عمرو بن نفيل – واحد من المفكرين القلائل.. الذين سخطوا ما عليه الجاهلية من نكر.. إنه ليشكر على تحريه الحق.. ولا يغمط هو ولا غيره أقدارهم بين قومهم..؛ لكن القدر كان يتخير رجلاً يبصر الحق.. ويملك من الطاقة مايدفعه به إلى آفاق العالمين. في وجه مقاومة تسترخص النفس والنفيس للإبقاء على الضلال.. والإمساك بليله البارد الثقيل.. كان القدر يعد لهذه الرسالة العظيمة.. رجلها العظيم.. والعظائم كفؤها العظماء)(7).
* * *
براعة الاستهلال
وعندما شاء الحق سبحانه أن ينزل وحيه على محمد صلى الله عليه وسلم اختار اللحظة المناسبة.. في ظروف مواتية.. تشير بكل دقائقها إلى أسس الدعوة الجديدة .. بما قعدت من قواعد.. وأصلت من أصول.. وبما تضمنته من معان في حسن الإعداد.. وحسن التلقي .. إلى جانب ما ضمت عليه من آداب في التثبت.. والشورى.. وما ترسمه من صورة الزوجة الوفية تتحمل التبعة مع الزوج في ظروف تنحل فيها قوى الرجال.. إلى حد يحملنا على القول: بأنها كانت حقًا.. براعة استهلال لرحلة العمر الطويلة !
الرؤيا الصادقة
* من شاء المفاجأة أن تربك الإنسان.. وتشل قدرته على التمييز.. تاركة ملكاته في حالة من التمزق بعجز فيها عن انتخاذ قراره.
وقد شاءت حكمة الله تعالى – والله أعلم بمراده – أن تكون الرؤيا الصادقة أول ما يواجه من بوادر الوحي .. حتى إذا دقت ساعة الجهاد.. كانت النفس على أتم ما يكون الاستعداد.
وأمر آخر: فقد كانت الرؤيا أيضًا إعداد للذين يعيشون معه!
يذكر لهم ما يشاهد في منامه.. وتصدق النبوءة كما قال.. تستمر الأمور على هذا النحو.. وإنهم ليستشرفون معه إلى أفق أعلى من هذا الذي يدورون فيه مع الناس من حولهم.. حتى إذا عاد يومًا – من فوق الجبل – يخبرهم بخبره .. كانت نفوسهم على حال من التقبل لأمر ليس غريبًا عليهم.. وقد بدت لهم من قبل بوادره!
ومن هنا ندرك سر إيمان الذين عايشوه صلى الله عليه وسلم قبل غيرهم ممن لهم به صلة دائمة.. زوجه خديجة.. ابن عمه علي بن أبي طالب.. زيد بن حارثة.. خادمه .. صديقه أبوبكر.. رضي الله عنهم أجمعين .
وكان إعلان إسلامهم من ناحية أخرى شاهدًا بين يدى الناس.. يهز نفوسهم لتدرس القضية على ضوء هذا الذي حدث.
عزلة وعزلة
إنها عزلة .. وإن شئت قلت: خطوة إلى الوراء تجيء القفزة بعدها محكمةً.. يصل بها الإنسان إلى ممارسة دوره: إحقاقا للحق وإبطالاً للباطل.
وليست هي الرهبانية الذاهبة بالإنسان فوق سفوح الجبال.. بلا عودة إنها بهذا المعنى فرار من الميدان.. على ما يقول الرافعي:
(يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله. وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟ وأيم الله إن الخالي عن مجاهدة الرذائل جميعًا لهو الخالي من الفضائل جميعا!) وحى القلم2/97.
أهمية العزلة
إن الفرار من صخب الحياة ضرورة في حياة الفرد العادي. كي يتسجم استجمامًا يعده لمرحلة تالية يكون فيها أقدر على ممارسة وظيفته بنجاح.. وهو لازم بين بالمعنى الأخص في حياة حملة الرسالات.. حين يستعلون بالعزلة على جواذب الأرض.. وتعود القيم الأرضية في تقديرهم إلى أصحابها الطبيعية: تافهةً حقيرةً.
ومن ثم تخرج النفس الإنسانية أصفى جوهرًا.. فإذا باشرت رسالتها كان ذلك من موقع القوة.. التي تستمد عافيتها من قوة الحق سبحانه.. فلا خوف إلا من الله .. ولا ثقة إلا به .. ولا رجاء إلا فيه .. ولا اطمئنان إلا إليه.. ولا توكل إلا عليه .
فإذا أضفنا إلى ذلك ما تنشئه الخلوة من حب للحق سبحانه.. تصورنا مقدار ما يبذله المحب في سبيل محبوبه.. يستعذب في سبيله العذاب!
(إن – مع الخلوة – فراغ القلب .. وهي معينة على التفكر.. والبشر لاينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة؛ فحبب إليه الخلوة لينقطع عن مخالطة البشر. فينسى المألوفات من عادته.. فيجد الوحي منه مرادًا سهلاً.. لا حزنًا)(8).
ولقد كانت الخلوة – بالذات – في غار حراء.. ومنه كان يرى صلى الله عليه وسلم الكعبة المشرفة .. وإذن فقد أراد الله تعالى بهذا الاختيار أن يرتبط بالبيت ورب البيت.. حتى تؤتي الخلوة ثمارها.. حين يزايل الإنسان صخب الحياة.
* * *
وما أكثر ما يحس الإنسان بوطأة المشكلات والمشاغل ترهق فؤاده.. فيبحث عن الخلاص.. وكان الظن به أن تكون قدوته الحسنة هنا.. فيلقي أحماله عند الحق سبحانه.. فارًا إليه، متوكلاً عليه.. ليعود أكثر عافيةً وأوفر نشاطاً..
وهل يعني ذلك أن تتحول الحياة إلى رهبانية؟ كلا
فقد كان صلى الله عليه وسلم فوق الجبل موصول العقل والقلب.. بالبيت.. ورب البيت.. وفي نفس الوقت.. كان بشرًا سويًا.. تعتمل نفسه بمشاعر الإنسان.. الذي يغيب عن أهله .. ولكنه يغيب الليالي.. ذوات العدد.. أي التي تعد على الأصابع!
فإذا ملأ ناظريه بهم.. ومتع النفس بلقائهم.. عاد إلى حيث أراد .. يحمل زاده.. ولا يترك غيره لينفق عليه..(9)
فكان بذلك الأسوة الحسنة: تثقله الهموم .. فيفر إلى الله .. لكن الهموم لا تنسيه واجبه كزوج.. وأب.. أهله أحوج ما يكونون إليه.. قبل ماله .. ومنصبه ؟! إنه أسوة هؤلاء الذين:
يحيـون ليلهمو بطاعـة ربهم
بتـلاوة وتضـرع وسـؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم
مثل انهمال الـوابل الهـطال
في الليل رهبان وعند جهـادهم
لعـدوهم مـن أشجـع الأبطال
بوجوههم أثر السجــود لربهم
وبها أشعـة نـوره المتلالي(10)
ميلاد الإنسان
عندما جاءه الحق – صلى الله عليه وسلم – وهو في غار حراء.. في هذه اللحظة ولد الإنسان! وثبتت صلاحيته ليكون رسولاً نبيًا.. بعد أن ظن الأغرار جهلاً أو عنادًا استحالة ذلك.
أجل.. وُلِد الإنسان من جديد:
فهو مأمور بأن يقرأ.. ليدخل بالقراءة عالماً جديدًا.. فوق ما تعارف عليه المترفون.. وأن تكون القراءة مفتاح نهضة شاملة كاملة في كل فن من فنون الدنيا.. وأن يرتبط ذلك كله بالخالق سبحانه وتعالى: “إقْرَأْ.. بِاسْمِ رَبِّكَ”.
إنه بعث جديد.. في دوافعه.. وأهدافه.. ولا يفرض الأمر هنا فرضًا.. بل إنه معلل بالدليل: “الذي خلق”.
أي أن العقل الذي تجمد على يد الطغاة في فارس والروم.. يستيقظ اليوم على ضوء رسالة عظمى لاتقتل آدمية الإنسان.. لكنها تعترف به ناطقاً.. مفكرًا.. فتقدم له الدعوى.. مصحوبةً بدليلها! ومصحوبةً أيضًا بأبرز ملامحها في باب التربية والتعليم: فالطالب عند التلقي.. لابد أن يكون فارغ البال.. كامل الانتباه.. ولايتم ذلك إلا بمحاولة فتح منافذ الحس فيه.. بمختلف الوسائل الممكنة .. وليكن ذلك ثلاث مرات .. لاتزيد!!
هكذا فعل جبريل عليه السلام بنبينا.. عليه الصلاة والسلام.. حين غطه .. ليستجمع انتباهه.. وعندما وقف بالعدد عند الثلاث.. قبل أن تفشل التجربة بالضغط العالي! ورحم الله علماءنا البصراء.. عندما نفذت منهم البصيرة إلى ماوراء السطور.. فاستنبطوا مثل هذه القواعد.. تبصرةً وذكرى.
إن المتألهين من البشر يتحولون اليوم إلى ركام.. يجرفه تيار عنيف من إرادة المسلم الذي يولد اليوم قويًا.. فكل شيء مردود إلى خالقه سبحانه وتعالى.. إنه يتحرر اليوم من الخوف.. ومن الطمع .. فليس هناك من بيده ضياع الأرزاق.. ولا تعجيل الآجال.. أو تحطيم الآمال.. إلا الله سبحانه وتعالى.. وتلك نقطة البداية على طريق تحرير الإنسان.
* وعندما ذهب عنه صلى الله عليه وسلم الروع .. بدأ يحكي ما رأى.. وعندما أعلن خشيته على نفسه بادرته خديجة رضي الله عنها بما ينفي ذلك تمامًا: كلا! بل إنها لتقول له: أبشر! تقولها.. والأفق كله لايوحى بها.. بل إن الرهبة زحفت على القلوب.. ولكنها المرأة العظيمة!
إنها ترى الفجر القادم.. من خلال الغيوم الراكضة. ولا تقول ذلك دعوى بلا دليل.. لكنها تعزز ذلك بماضيه المشرف.. وجهاده الموصول شفقةً على الخلق في كل مجال من مجالات الحياة.. ومع كل أصناف الخلق.
وهذا ما لمسته على الطبيعة.. ولم تقرأه بين دفتي كتاب مرقوم..
* وصفته بأصول مكارم الأخلاق..؛ لأن الإحسان: (إما إلى الأقارب.. أو إلى الأجانب .. وإما بالبدن.. أو بالمال .. وإما على من يستقل بأمره.. أو من لايستقل .. وذلك كله مجموع فيما وصفته به) (11)
إن الرحمة في قلبه عاطفة سائدة: (سجية تلك فيه.. غير محدثة)
بدليل أنه يطبقها عمليًا في مجالها الطبيعي: في أهله وعشيرته.. ثم إن خلق الصدق فيه لا يأخذ شكله القولي..؛ بل إن الصدق ليتحول إلى سلوك عملي.. حين يساعد العاجز.. ويعطي المحتاج.. ويحسن استقبال الضيف.. ويقف إلى جانب المفجوع في ولده أو ماله .. بالحق.
أي أنه يتجه بقواه كلها في الاتجاه الصحيح.. فلا يرصدها لغني.. أو قوي.. أو صاحب جاه .. ليدخر لديه نعمةً تجزي.. ترتد إليه غدًا .. ثمناً مضاعفًا؟! بل إنه يطعم .. ويساعد .. ويجاهد .. (لِوَجْهِ اللهِ لاَنُرِيْدُ مِنْكُمْ جَزَاءًا وَلاَ شُكُوْرًا)
* وتلك قمة الشفقة على الخلق.. وإذن .. فتكريم الحق وارد.. بكل تأكيد.. فأبشر يامحمد.. مؤكدةً ذلك كله: فوالله لايخزيك الله أبدًا.. فالذين يشفقون على الخلق.. دائمًا في عين الحق.
وكان من الممكن أن تستبد العاطفة بالمرأة هنا – وعاطفتها غلابة – فترتبك من هول المفاجأة ..؛ لكن العاطفة هنا لم تخدر العقل الذي قاد خديجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حيث الخبرة.. والتجربة والعلم الواسع.. والعمر الطويل.. ممثلاً ذلك كله في: ورقة: إنه ابن عمها.. وإذن .. فإخلاص النصيحة مضمون..
ثم هو: شيخ – كبير .. قد عمي.. من أهل الكتاب.. يكتب الكتاب العبراني.. وهو مثل نقدمه لشباب يستفتون حين يستفتون أنصاف المتعلمين في أمهات المشكلات .. بينما يفرض عليهم الحق أن يتجهوا إلى .. أهل الذكر.
* وإنك لتحس في منطق خديجة رضي الله عنها.. بالأنس يشيع في الجو كله: أي ابن عم..
اسمع من ابن أخيك..
يا ابن أخي .. ما ترى!
وتدرك على الفور: أن التدبير الإلهي الحكيم قضى أن تقوم خديجة – رضي الله عنها .. وخديجة بالذات لأداء هذا الدور الخطير.. حتى تخرج معه صلى الله عليه وسلم من صعوبة الموقف .. ؛ بل إنها لتضع بتقديمها محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى ورقة .. تضع قاعدة مهمة من قواعد السلوك الاجتماعي.. عندما قدمت هي الرسول إلى ورقة.. وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره.. ممن يكون أقرب منه للمسؤول)(12)
إن المرأة التي كانت بالأمس “موؤودةً”.. تشارك اليوم في إحياء أمة.. وإنشاء حضارة ! ولم تكتف حين وافاها الرسول فزعاً بالموقف السلبي اللائق بالمرأة.
وإذا كان الشاعر يقول:
ولابد من شكوى إلى ذي مرؤوة
يسليك أو ينجيك أو يتوجع
فإن خديجة رضي الله عنها لم تقف عند حد التسلية أو التوجع لكنها ارتقت إلى درجة أعلى في مشاركة إيجابية فاعلة .
وكان ورقة عند حسن الظن به وفاءً.. وإخلاصًا..؛ فقد واجه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالخطر الذي ينتظره .. ومن تدبير الله تعالى أن يتم ذلك.. ليستعد لهذا الغد المرتقب ..؛ ليواجه معركة غير عادية.. فهي معركة في حاجة إلى عدة.. وعتاد.. في حاجة.. إلى شباب، أقوياء.. وهكذا تمنى ورقة أن يكون حيًا.. يسترد شبابه.. في فورته وعنفوانه .
إنها سنة الله في الرسالات .. أن يكون هناك صراع دائم.. كما يقول الحق سبحانه، أن نبذل كل ما نملك من جهد: “وأعِدُّوْا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ”.
عفرنا الليالي قبل ما نزلت بنا
فلما دهتنا لم تزدنا بها علمًا
* * *
الهوامش :
- الأنعام 124.
- الروم 41.
- عن السيرة النبوية للندوي 48-49.
- المرجع السابق 47.
- الزخرف 31.
- في ظلال القرآن.
- فقه السيرة 88.
- عمدة القاريء . بدء الوحي.
- راجع “كنوز السنة” للدكتور محمد عبد الله دراز.
- إغاثة اللهفان 255.
- فتح الباري ج1 بدء الوحي .
- فتح الباري .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1430 هـ = أبريل 2009 م ، العدد : 4 ، السنة : 33