إلى رحمة الله
فاجأ نعيُ العالم الهنديّ المعروف: الشيخ فضيل أحمد القاسميّ رحمه الله الأوساطَ الإسلاميَّةَ كلَّها في الهند، على اختلاف المذاهب والمدارس؛ إذ وافته المنيّةُ في الصباح الباكر، أي الساعة 5 من يوم الثلاثاء: 14/ صفر 1430هـ الموافق 10/ فبراير 2009م؛ فتلقَّتْه بأسف بالغ وحزن عميق؛ لأنّها كانت لاتتوقّع هذه المفاجأةَ الأليمةَ فيما يتعلّق بموته الذي حقًّا إذا جاء لايُؤَخَّر؛ فإنَّا لله وإنّا إليه راجعون. وكان لدى الوفاة في 57 من عمره بالنسبة إلى الأعوام الميلادية وفي 59 من عمره بالنسبة إلى السنوات الهجريّة .
كنا نعلم أنَّ الفقيدَ كان يعاني السمنةَ وعوارضَها المتكاثرةَ؛ ولكنّه كان يتغلّب عليها بتحركاته المكثّفة ونشاطاته التي كان يواصلها في مُعْظَم أوقات الليل والنهار من أجل خدمة أبناء دينه ووطنه بشتى الأساليب التي كان يُعْمِلها من خلال علاقاته الواسعة بالعدد غير القابل للحصر من أعضاء السلك السياسي القياديّ في البلاد؛ فقد كان مُحَبَّبًا لدى العامّة والخاصّة بسبب خلقه الناعم وتعامله الساحر الذي كان يكسب به كلَّ من كان يلاقيه ولو مرّةً واحدةً. ولكننا كنّا لا نتوقّع أنّه سيغادر دنيانا بهذه المفاجأة وفي سنّ العمل والنشاط .
قبلَ وفاته بأيّام أُدْخِلَ بدهلي المستشفى الحكوميّ الكبيرَ المعروف بـ”مؤسسة علم الطب لعموم الهند” )All India Institute of Medical Sciences) لأنّه شَعَرَ بألم في المسلك البوليّ وفي العظم الفقريّ، وجرى فحصُه الطبّي بعد تنويمه، وخلالَ ذلك داهمتْه نوبةٌ قلبيّةٌ أدّت إلى الوفاة. رحمه الله وأدخله فسيح جنّاته، وألهم أهله وذويه ومعارفه الصبرَ والسلوانَ.
وقد صُلِّي عليه بمحيط “الجامعة الرحيميّة” الكائنة بجوار ضريح الإمام المحدّث الشاه وليّ الله بن عبد الرحيم الدهلوي رحمه الله (1114-1176هـ = 1703-1762م) في نحو الساعة الثانية ظهرًا من يوم الثلاثاء نفسه، وأمّ الصلاة عليه بالناس الشيخ عبد الكريم شيخ الحديث بالمدرسة العالية بمسجد “فتحبوري” بدهلي. ثم نُقِلَ جثمانُه إلى وطنه “بيروا جندن بور” (Berwa Chandanpur) بمديرية “مهراج كنج” (Mahrajganj) بولاية “يوبي”؛ حيث أديتِ الصلاةُ عليه مرة ثانية يوم الأربعاء: 15/ صفر 1430هـ= 11/فبراير 2009م، وأمَّها فضيلة الشيخ محمد قمرالدين الكوركهبوري القاسمي أستاذ الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند، وتمّ دفنه بعد الصلاة مباشرة في محيط مدرسة “سعد بن أبي وقّاص التي أقامها والد الفقيد بقرية “أَدَّا بازار” (Addabazar) بمديرية “مهراج كنج” وحَضَر الصلاةَ عليه وتشييع جثمانه إلى قبره ودفنه كثير من العلماء والطلاب وعامّة المسلمين .
كان رحمه الله قد وُلِدَ بخؤولته بحيّ “حياة كنج” بمدينة “تانده” بمدريرة “فيض آباد” بولاية “أترابراديش” يوم الأربعاء: 28/ ذوالقعدة 1371هـ الموافق 1/أغسطس 1952م. وكان والده أصلاً من سكان قرية “أونجهرا” بمديريّة “بستي” فباع هو مُمْتَلَكَاتِه هناك واستوطن قرية “بيروا جندنبور” بمديرية “مَهْرَاجْ كنج” مديرية “كوركهبور” سابقًا، ثم بنى منزلاً له بقرية “أَدَّابازار” المجاورة للقرية المذكورة، وأسّس بها مدرسةً باسم “مدرسة سعد بن أبي وقّاص” ساعده أبناؤه الشيخ فضيل والشيخ عزير وغيرهما في النهوض بها وتطويرها.
وأتمّ دراسته الابتدائيّة من الأردية والفارسيّة وما إلى ذلك بمدرسة بيت العلوم بـ”بيروا جندنبور” بـ”يوبي” عام 1962م (1382هـ) وبَدَأَ حفظ القرآنَ الكريم في 23/يونيو 1962م (19/صفر 1382هـ) وأتمه وراجعه في 1387/ 1967م بدارالعلوم ديوبند (الجامعة الإسلاميّة الكبرى الأمّ في شبه القارة الهنديّة) حيث بدأ يتعلّم فيها ملتحقًا بالصفوف الابتدائيّة فيها، فأنهى دراسةَ الفارسيّة ومبادئ العربيّة عام 1391هـ/ 1971م، ثم التحق بالصفوف العربيّة فيها، وتخرج حاملاً شهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية عام 1398هـ/1978م؛ حيث درس فيها صحيح البخاريّ على فضيلة الشيخ نصير أحمد خان حفظه الله، وكان من أساتذته في الجامعة الشيخ فخر الحسن والشيخ معراج الحق الديوبندي والشيخ عبد الأحد والشيخ محمد حسين البيهاري والشيخ قمر الدين الكوركهبوري والشيخ سعيد أحمد البالنبوري والشيخ وحيد الزمان الكيرانويّ وغيرهم. وأثناء تعلُّمه بالجامعة تَعَلَّم إجادةَ الخطّ الأرديّ، فتخرّج خطّاطاً ومارس مهنةَ الخطَّاطيَّة. وخلالَ حفظه للقرآن الكريم تنقّل بين عدد من المدارس الإسلاميّة حرصًا على اتصاله بالصالحين والمربين وإتقانه للحفظ، بدءًا من مدرسة “بيت العلوم” بقريته “بيروا جندنبور” بمديريّة “مهاراج كنج” مديرية “غوركهبور” سابقًا بولاية “أترابراديش” ومدرسة “نورالعلوم” بمدينة “بهرائج” و”المدرسة الإسلاميّة” بـ”بهتْنِي” و”المدرسة الفرقانيّة” بـ”غوندا”، ودارالعلوم ندوة العلماء بـ”لكهنؤ” و”المدرسة العربية الإسلامية” التي أسّسها العالم الصالح الشيخ محمد صديق الباندوي رحمه الله (1343-1420هـ = 1924-2000م) بـ”هتورا” بمديرية “باندا” ومدرسة “هدايت العلوم” بـ”كرهى” بمديريّة “بستي” ومدرسة “كنزالعلوم” بـ”تانده” بمديرية “فيض آباد”.
وكان رحمه الله مفطورًا على ممارسة الخدمات الاجتماعيّة والتواصل مع الناس ومشاطرتهم أحلامَهم وآلامَهم؛ فكان لدى التحصيل يعايش الطلابَ، ويقاسمهم الأمانيَ والحوائجَ، ويتعرّف دائمًا على ما يهمهم من الحوائج فيما يتعلّق بالدراسة والسكن وتسهيلات العيش والحياة المدرسيّة والجامعيّة العامّة ، وكان يتوسّط لدى الإدارة والمسؤولين وكبار الأساتذين المعنيين لتحقيقها وإيجاد سبيل لتوفيرها على المستوى المطلوب.
وكنتُ كلما أراه أتأكّد أنّ الله عَزَّ وجَلَّ خلقه للخدمات الاجتماعيّة والشعبيّة وخدمة أبناء دينه بصفة خاصّة، ومن هنا كان ذلك سهلاً ميسورًا له، على حين يصعب على كثير من الناس رغم علمهم الغزير وفضلهم الكبير وتوسُّعهم في الدراسة. إنّه لم يكن كبيرًا بالنسبة إلى علمه وتحصيله الدراسيّ؛ ولكنه كان كبيرًا بالنسبة إلى ممارسته لخدمة الخلق وخدمة قضايا أمته، وكان يمسك بزمام قلب أيّ زائرٍ ومُلاَقٍ له بمجرد كلمات يتبادلها معه، ورغم أنّه كان لايجيد العربيّةَ أو الإنجليزيّة نطقًا أو كتابة ؛ ولكنّه كان يتحبّب إلى من يلقاهم من العلماء والقادة العرب أو من سكان بلاد الغرب التي زارها؛ لأنه كان يُتْقِن لغةَ خطاب القلب وفنَّ الإرسال إلى ذهن المخاطب وفنَّ التواصل مع مشاعره وعواطفه مما كان يُشْعِره كأنّه لاَمَسَ بحديثه معه أوتارَ قلبه. إنه كان مفطورًا على فنّ كسب الأصدقاء، وكان لايعرف فن اتخاذ الأعداء.
ووجدتُه أنّه لحِرصه الشديد على خدمة الناس، ربما كان يُكْثِر من الوعد بتحقق حاجاتهم، وربما كان لايسعه الوفاء به لكثرة الارتباطات أو لعوائق أخرى؛ فكان يُسيءُ به الظنَّ من كان لاتتحقق حاجتُه التي كان يطلب إليه تحقيقها.
ولكونه متواصلاً – إبان تحصيله بدارالعلوم/ ديوبند – مع الطلاب وأحلامهم، انتُخِب رئيسًا لدارالمطالعة المدنيّة التي هي كبرى الجمعيّات الطلابيّة في جامعة ديوبند الإسلاميّة، كما اختير وكيلاً لجمعيّة علماء الهند في منطقة “ديوبند” ومديرية “سهارنبور” خلال دراسته بالجامعة. ولكونه مُعَايِشًا همومَ الطلاب، كان حظيًّا لدى الأساتذة والمسؤولين، وكان مُحَبَّبًا لدى الجميع، حيث عُجِنَت طينته بخدمتهم وحضوره الفعّال الدائم لدى أيّ حاجة تُلِمّ بهم ؛ فكان يسعى لإنجازها لحدٍّ مستطاعٍ، وكان ذلك هوايتَه المُفَضَّلَة.
وكأنّه وَرِثَ ذلك عن أبيه الشيخ مجيب الله القاسميّ رحمه الله (المتوفى 1409هـ/ 1989هـ) الذي كان يعيش خادمًا للمسلمين، وللدين والتعليم الديني، فأَسَّسَ في منطقة واسعة في مديريّته أكثر من 21 مدرسة وكتابًا، وشَجَّعَ جماهيرَ المسلمين لخدمتها بكلّ ما لديهم من إمكانيّات ماديّة ومعنويّة. كان الشيخ فضيل أحمد القاسميّ ابنَ ذلك الوالد العظيم البارّ، عاش مُتَشَرِّبًا لفضائله، وتَرَبَّى في كنفه وفي صحبة عدد من العلماء الصالحين والمربّين الأجلاّء.
في 1399هـ/1979م بعد تخرجه في الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند بعام انتُخِبَ أمينًا لجمعيّة علماء الهند، وظلّ مستقرًا بمقرها الكائن بدهلي الجديدة، يتحرّك ويَسْعَى ويعمل ليلَ نهارَ، وكان الضيوف – الذين كانوا يتوافدون إلى الجمعيّة كثيرًا لكونها أكثرَ وأعمقَ شعبيّةً في المجتمع الإسلاميّ الهنديّ من أيّ جمعيّة ومُنَظَّمة إسلاميَّة في شبه القارة الهنديّة – ينجذبون إليه أكثر من أي مسؤول آخر في مقرّ الجمعيّة؛ لأنه كان يجذبهم جذب المغناطيس للقطع الحديديّة، بطلاقة وجهه، وابتسامته التي كانت لاتفارق محيّاه؛ وبتعامله الحسن اللبق مع الكل صغيرًا كان أو كبيرًا، وبنعومة حديثه التي كان ينفذ بها إلى القلوب، فيشعر الزوّار والضيفان كأنه جزء من أنفسهم، وأخلص لهم من ذواتهم، وأعرف بهم وبحاجاتهم من أشخاصهم هم.
قد ينجذب القلوبُ إلى بعض الناس لصلاحهم وتقواهم و زهدهم وصلتهم القوية بالله التي تحببهم إلى الخلق، لأن الله يحبّهم؛ ولكنّه قد يجذب بعضُ الناس الناسَ لتلك الخصال الحميدة الفضيلة التي كان يتمتّع بها الفقيد الغالي الشيخ فضيل أحمد القاسميّ، بغض النظر عن التدين والصلاح. حقّا إنه كان فريدًا بين الأقران بالنسبة إلى هذه الصفات الجميلة التي ذكرتُها والتي تفعل في الزائرين والملاقين فعل السحر وتُحَبِّب صاحبَها إلى الخلق على اختلاف الأعمار والأجناس والأعراق والديانات.
* * *
في 1402هـ/1982م قدمتُ أستاذًا ورئيسَ تحرير لمجلّة “الداعي” إلى دارالعلوم/ ديوبند؛ فكثرت قُدُمَاتي إلى دهلي لحاجات شخصيّة ورسميّة، وتكثّف اختلافي إلى مقرّ الجمعيّة الكائن بمسجد “عبد النبي” الأثريّ بمنطقة “آئي تي أو” الشهيرة بدهلي الجديدة؛ لأن الجمعيّة – إذا صَحَّ التعبير – كأنها جناح سياسيّ خيريّ لجامعة ديوبند ، ولايمكن أن يستغني عنها أمثالي لدى سفراتهم إلى دهلي العاصمة. وتعرّفتُ فيمن تعرفتُ عليهم على الأخ الفاضل الفقيد الغالي الشيخ فضيل أحمد القاسمي الذي استقر في سويداء قلبي منذ أوّل لقاء معه كالسرّ يدخل القلب رفيقَ الخطو، لطيفَ الدبيب، فلا يحسّ به صاحبُه إلاّ وقد سكنه واستقرّ فيه.
وكلما احتجتُ إلى زيارة مقرّ الجمعيّة ومراجعته، وجدتُ الأخ – إذا لم يكن غائبًا في سفر أو مرتبطاً ببرنامج مُنَسَّق من ذي قبل – حاضرًا للخدمة، مستعدًّا بوسائلها، بتلك الطلاقة نفسها التي لمستُها فيه لدى أوّل لقيًا معه. شعرتُ كلما لقيتُه كانّه ينتعش بالخدمة، ويرتاح لإسداء خير إلى أحد، ويجد قسطاً كبيرًا من الحياة عندما يسعى لتحقيق حاجة محتاج.
* * *
في مايو 1983م (رجب 1403هـ) عدتُ من أوّل زيارة لي للمملكة العربيّة السعوديّة؛ حيث مكثتُ بها ثلاثة شهورًا حضورًا في الدورة القصيرة لمعلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة الملك سعود بالرياض. ومكثتُ بـ”ديوبند” أسبوعًا أو أقلَّ ثم عدتُ لدهلي لأركب منها طائرة إلى “بتنه” وأتوجّه منها إلى وطني بإحدى قرى “مظفربور” بولاية “بيهار” بالهند. وكنتُ لا أعرف كثيرًا ترتيبات رحلات الطائرات، ومواعيد إقلاعها، فاضطررتُ أن أنزل بمقر الجمعيّة وأستعين بالأخ الشيخ فضيل أحمد القاسميّ. وفعلاً نزلتُ به، وكأنّه كان في انتظار مباشرة خدمتي، فوفّر لي جميعَ تسهيلات الإقامة، وتَعَاوَن معي في تأكيد الحجز، وكأنّه كفاني كلَّ همّ. وكان لي أن أتوجّه وقت السحر إلى مطار دهلي للرحلات الداخليّة. وعندما لجأتُ إلى فراشي في الليل، قال لي الأخ: نَمْ بارتياح مجانبًا كلَّ هم للاستيقاظ، فإني ضبطتُ الساعةَ بموعد استيقاظك في الساعة الثالثة صباحًا؛ وسأكون في خدمتك وأنا أقوم بإيقاظك، وسيكون الشأي ومستلزماته جاهزة إن شاء الله؛ ولكني رجلٌ مفطورٌ على الاهتمام بكل شيء مُتَّصِل بالميعاد المُحدَّد المضبوط اهتمامًا مُزْعِجًا؛ فلم أثق بالأخ رغم تأكيده الوعدَ بالإيقاظ، وظلتُ في الليل متأرجحًا بين النوم واليقظة. وقد وجدتُه فعلاً موجودًا في الوقت قبل الساعة الثالثة بدقائق بالشأي ومستلزماته، ولما وَجَدَني صَاحِيًا، قال: ألم أقل لك إني سأكون في خدمتك إن شاء الله، قلتُ له: إن طبيعتي هي التي جعلتني لم أثق بوعدك بهذا الصدد. ثم استدعى السيَّارةَ وودّعني إليها، ولم يتركني حتى تحرّكتِ السيّارةُ إلى المطار.
* * *
ثمّ تَوَطَّدَتْ بيني وبينه العلاقة، التي مَتَّنَتْه التجاربُ وكثرةُ التواصل معه والاحتكاكُ به الذي لم يترك عليّ إلاّ أثرًا إيجابيًّا عذبًا؛ حيث ظلت أتابع الاختلاف إلى دهلي، كما كان هو أيضًا يزور “ديوبند” وجامعتها من حين لآخر ضمن حاجات رسميّة وشخصيّة .
وإذا كانت الطبائع تُعْرَفُ على حقيقتها في الرحلات والأسفار فإني أؤكد أنّ الشيخ فضيل أحمد كان لايتغيّر فيها أيضًا عما هو عليه من صفات الخلق الكريم، والتعامل الجميل، والحرص على خدمة الآخرين؛ فكان يتلقّى في حالة الغربة أيضًا الجميعَ ببسمته المعهودة، ومُحَيَّاه المشرق، ووجهه الوضّاء بأدعية الخلق.
في شعبان 1404هـ/ أبريل 1984م كنتُ في زيارة للمملكة العربية السعوديّة، ومكثتُ بها أكثر من شهر، وكان الشيخ فضيل موجودًا في مدينة “جدة” من ذي قبلُ ضمن زيارة تعريف بجمعيّة علماء الهند وإنجازاتها في خدمة الشعب المسلم، وكان يرافقه في هذه الرحلة الأخ الأستاذ مزمل الحق القاسمي/ مدير تحرير “الكفاح” العربية النصف الشهرية التي كانت تَصْدُرُ لسانَ حال لجمعيّة علماء الهند، وكان يرأس تحريرَها أستاذُنا الكبيرُ فضيلةُ الشيخ وحيدُ الزمان القاسميّ الكيرانوي رحمه الله (1349-1415هـ = 1930-1995م) .
فما إن عِلَمَ الشيخ “فضيل” بمقدمي من دهلي إلى جدّة حتى حضر مطارها الدوليّ لاستقبالي؛ فتلقاني بحفاوة وتكريم، وحملني في سيّارة أجرة إلى مكان نزوله، وصحبني أيامًا، ثم ارتحل هو و رفيقه إلى بلاد عربيّة أخرى. وقد شعرتُ بوجوده كأني في بيتي ولستُ في الغربة. ثم سَعِدْت بزيارة الحرمين الشريفين وأداء العمرة وزيـــارة الــرياض ولقـاء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله (المتوفى يوم الخميس: 26/ محرم 1420هـ الموافق 13/مايو 1999م) ولقاء الإخوة الهنود الآخرين .
* * *
ظلّ الشيخُ فضيل مُتَوَفِّرًا على خدمة الجمعيَّة بكل ما أُوْتِيَ من المواهب التي كان على رأسها خلقُه الكريمُ الّذي كان يأسر به قلوبَ النّاس ويَكْسِبُهم للجمعيَّة. ويجعلهم يحبّون رئيسَها الشيخ السيد أسعد المدني (1346-1427هـ = 1928-2006م) ويُعْجَبُون بها. إذ سمعنا يومَ 27/ سبتمبر 1991م (17/ ربيع الثاني 1412هـ) عن استقالته منها مع مسؤولين آخرين: أمثال فضيلة الشيخ أسرار الحق القاسمي – الذي كان يشغل منصب أمين عامّ الجمعيّة – والشيخ صدر الدين البهوبالي (المتوفى جمادى الأخرى 1416هـ الموافق نوفمبر 1995م) وغيرهما. وقد قُبِلَتْ استقالتهم يوم 13/ أكتوبر 1991م (3/جمادى الأولى 1412هـ) ثم أسّس بتعاون من محبّيه جمعيّة أخرى باسم “جمعيّة علماء الهند المركزيّة” يوم 23/ نوفمبر 1992م (25/ جمادى الأولى 1413هـ) ولكنه لم يرأسها قطّ وإنما اكتفى بكونه أمينًا عامًّا لها، فظلّ قائمًا بهذا المنصب لحين وفاته، ورأسها أوّلاً أستاذنا الكبير فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانويّ رحمه الله، ثم الشيخ صدر الدين الإصلاحيّ رحمه الله ثم الشيخ عبد الحق السملكي الغجراتي رحمه الله (المتوفى 9/ربيع الأول 1419هـ الموافق 4/يوليو 1998م) مؤسس مدرسة إصلاح البنات بـ”سملك” ثم فضيلة الشيخ أفضال الحق جوهر القاسمي حفظه الله.
واتخذ من قطاع “منهديان” بدهلي الجديدة، الذي يحتضن ضريح الإمام المحدث مسند الهند الشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم البهلتي الدهلوي رحمه الله مقرًّا لجمعيّته بجناح من مبنى “الجامعة الرحيميّة”؛ حيث ظلّ مقصدًا للمحتاجين والعلماء وطلاب العلم وجماهير المسلمين إلى جانب كثير من القادة والساسة والناشطين من المسلمين في مجال الخدمة الاجتماعيّة والسياسيّة ومعالجة شتى مشكلات المسلمين .
وظلّ مستعدًّا لاستقبال أعضاء جميع شرائح المجتمع على اختلاف الفكر، يهشّ لكل زائر ويبشّ، ويخالط بشاشة قلبه، ويُكَرِّس أوقاته وإمكاناته وعلاقاته لخدمة كلّ مُرَاجِع لحدّ مستطاع ، ويوجد السبيلَ لإنجاز مختلف أغراضهم التي أقدمتهم إلى دهلي وألجأتهم إلى الشيخ، وكان يهيّيء للجميع السكن والفراش والطعام وكلَّ ما يحتاجون إليه للإقامة في هذه المدينة الغالية الأسعار. وكانت علاقاتُه بكثير من ذوي السلك السياسي الكبار جيدة مثمرة فاستغلّها لخدمة المسلمين .
وقد تَجَوَّلَ في ربوع الهند؛ لأنه كان رغم بسطته في الجسم وسمنته الزائدة كثير النشاط والتحرك، لايعتريه الكسل والفتور، وكأنه كان فريدًا بين ذوي السمنة بالنسبة إلى كثرة التحرك والانتعاش. وزار معظم المدن والقرى والأرياف لتحقيق الأمور التي تحتاج للزيارة والتجوّل. كما زار كثيرًا من البلاد العربيّة والإسلاميّة والغربيّة؛ ففي عام 1984م زار كلاًّ من المملكة العربيّة السعوديّة ودولة قطر ودبي، وزار في عام 1985م المملكة العربية السعودية، ومكث بها طويلاً، وزار ثالثةً المملكة العربيّة السعودية وقطر وعمان والإمارات العربية المتحدة وإنجلترا واستمرت رحلته هذه أكثر من ستة شهور، وزار مرة رابعة في عام 1988م على دعوة من الملك فهد رحمه الله المملكة العربيّة السعوديّة، ثم ارتحل منها إلى ويستنديز وعمان والإمارات العربيّة المتحدة، والمملكة المتحدة، واستغرقت رحلتُه هذه 9 شهور.
وكانت له علاقات وطيدة مع عدد من القادة والساسة والعلماء في العالم العربي، ولاسيّما الشيخ عبد الله عمر نصيف أمين عامّ رابطة العالم الإسلامي سابقًا، والشخ عبد الله عبد المحسن التركي أمين عام الرابطة حاليًّا ونائب رئيس جامعة الإمام بالرياض سابقًا، والعالم السعوديّ الكبيـــر الشيخ عبــد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله.
وقد شغل إلى جانب ذلك منصب الرئيس لجامعة الأردية بمدينة “علي جراه” وعمل عضوًا في المجلس الإداري الرسمي لجامعة “علي جراه” الإسلاميّة، ورئيسًا قائمًا بالأعمال لمنظمة أبناء دارالعلوم/ ديوبند القدامى لعموم الهند، وأمينًا عامًّا قائمًا بالأعمال للمجلس الاستشاري الإسلاميّ، وعضوا فخريًّا مدعوًّا لهيئة الأحوال الشخصية لمسلمي الهند.
وقد أنشأ رحمه الله مبنى مستقلاًّ شامخًا كبيرًا لجمعيته في منطقة “أوكهلا” بـ”جوغابائي” يتضمن مسجدًا باسم “مسجد التقوى” ومدرسة لتحفيظ القرآن والتعليم الابتدائي الديني وفيه أجنحة وغرف كثيرة لشتى الأغراض، وهو مبنى كبير الكلفة التي جمعها له محبّوه والمعجبون به. وهو إنجاز كبير يُعَدُّ من مفاخره.
وقد خَلَّف رحمه الله وراءه إلى جانب والدته الصالحة ابنًا له – هو عالم متخرج من الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند وهو الأخ سهيل أحمد القاسمي – وبنتين وشقيقًا له وهو الأستاذ الدكتور عزير أحمد القاسمي المتخرج من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة بالرياض وشقيقتين. وقد مات شقيق له اسمه الأستاذ شعيب أحمد القاسمي عام 1427هـ/2006م وكان متخرجاً من الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1430 هـ = أبريل 2009 م ، العدد : 4 ، السنة : 33