إلى رحمة الله
في نحو الساعة 7,55 من صباح الثلاثاء: 21/ صفر 1430هـ الموافق 17/ فبراير 2009م انتقل إلى رحمة الله تعالى تاجرُ العطور والعود الكبير الحاج محمد أجمل علي الآسامي رحمه الله بمنزله الكائن بـ”ميكرتاور” بقطاع “كف بريد” بمدينة “مُمْبَايْ” – بَمْبَايْ سابقًا – وذلك في 86 من عمره . فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
وقد صَلَّى عليه بالناس بساحة مدرسة الجمعيّة الإسلاميّة بمنطقة “وي تي” بـ”ممباي” فضيلة الشيخ السيد أرشد المدني حفظه الله أستاذ الحديث بالجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند في نحو الساعة 10 من الليلة المتخلّلة بين الثلاثاء والأربعاء: 21-22/ صفر 1430هـ الموافق 17-18/ فبراير 2009م، وحَضَرَ الصلاةَ عليه خلقٌ لايُحْصَىٰ من شتى قطاعات المجتمع، إلى جانب عدد كبير من العلماء والقادة والساسة، وكبار رجال الأعمال والمال في مدينة “ممباي” ومن خارجها، ولاسيّما من بعض دول الخليج العربيّة التي انتشرت فيها محلاّته التجاريّة. كما حَضَرَها وفد من الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند على توجيه من رئيسها فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن/ حفظه الله، ورأس الوفدَ الشيخ عبد الخالق المدراسيّ نائب رئيس الجامعة. وصُلِّيَ عليه مرةً ثانيةً في ناحية من محيط المقبرة، وأَمَّ الصلاةَ الثانيةَ عليه ابنُه العالم الديني والقائد اللاّمع الشيخ بدرالدين أجمل القاسمي؛ حيث صلّى خلفه ذوو قرباه وكثير ممن فاتهم الصلاة الأولى. ودُفِن رحمه الله بمقبرة كبيرة بقطاع “مرين لائن” بـ”ممباي”.
كان رحمه الله يعاني منذ سنوات العوارضَ العديدةَ الناتجة عن الشيخوخة والضعف؛ وظلّ يتمتع إلى ما قبلها بصحة جيّدة. وكان يُكثر من زيارة الحرمين الشريفين وأداء الحجّ والعمرة، وكان رجلاً صالحاً كثير الإنفاق على الفقراء والمساكين، وطويلَ الباع في تحقيق المشاريع الإسلامية والأعمال الخيريّة، مهتمًّا بأداء الزكاة عاملاً بالأمانة في تجارته وأعماله، مواظبًا على الصلاة وقيام الليل، آخذًا أولادَه كلّهم بالدين وأحكامه وآدابه، وتوعيتهم بالصدق والاحتراز من الغشّ والتزوير والتقليد في أعمال التجارة، وعُنِيَ بتربيتهم جميعًا تربيةً دينيّة، ونظّم لهم صحبةَ الصالحين والعلماء المتّقين من حين لآخر، وخَرَّجَ أحدَ أبنائه وهو الشيخ “بدرالدين أجمل” عالمًا؛ حيث كان ألحقه بالجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند، ثمّ أمره برصد منزل مُخَصَّص في مدينة “ديوبند” حتى يسكنه أحفاده: أولاد الشيخ بدرالدين أجمل والشيخ سراج الدين أجمل، ليتعلموا في جامعة ديوبند، ويتخرّجوا علماء بالدين والشريعة، وينشؤوا على الصلاح والزهد والتقوى، على حين كان لديه من الثروة الطائلة ما يسمح له بأن يثقّفهم ثقافة عصريّة في أرقى الجامعات العصريّة في داخل الهند وخارجها على نفقته الشخصيّة الباهظة .
كان الشيخ الحاج محمد أجمل علي بن عبد المجيد قد وُلِدَ عام 1341هـ/ 1923م في أسرة فلاَّحة تمارس الزراعة على مستوى عاديّ في منطقة متخلّفة جدًّا بقطاع “سِلْهَتْ” (Silhat) – التي هي اليوم جزء من “بنغلاديش” وكانت جزءًا من منطقة “آسام” قبل تقسيم الهند فيما قبل 1948م – وتعلّم مبادئ القراءة في “علي نغر” المجاورة لمدينة “هوجائي” وفيها اجتاز المراحل الابتدائيّة، ثم تلقى التعليم في المدرسة الثانويّة بـ”نيل باغان” (Neelbaghan) وظلّ يزاول الزراعة كأفراد أسرته؛ ولكنّه اتّجه إلى ممارسة التجارة؛ لأنّه وجد الفلاحة عملاً صعبًا لكونه أصيب ببعض الأمراض منذ أوائل عمره .
في عام 1371هـ/ 1952م تَوَجَّه الشيخ محمد أجمل علي من مدينته الأمّ وموطنه الأصلي “هوجائي” إلى مدينة “مُمْبَايْ” – بَمْبَايْ – كرجل عاديّ يَتَّجر في العطور والعود على مستوى متواضع ولا يأبه له أحد مشاركاً مع شركة “الحافظ تريدريس” للعطور؛ ولكنه كَدَّ واجتهد ليلَ نهارَ وزادُه الأمانةُ والصدقُ، وحاديه التوكّلُ على ربّه والثقةُ بمباركته لعباده الصادقين الأمناء؛ فازدهرت تجارته، وتوسّعت أعماله، ولمع اسمه، وتجاوزت محلاّته ومصانعه على عهد أبنائه مدينةَ “ممباي” إلى شتّى دول العالم، بما فيها المملكة العربيّة السعودية ودولة الكويت، والإمارات العربية المتحدة، ودولة البحرين، وسلطنة عمان، حتى بلغت محلاّته ومعارضه أكثر من مئة في شتى أنحاء العالم. وصارت “شركة أجمل وأولاده للعطور والعود” أوثق الشركات لدى الناس. ولا إخال إلاّ أن أمانته وصدقه ونزاهته في ممارسة أعماله ثم جدّه البالغ وكدّه المتصل مُمَدًّا بالصلاح والحفاظ على الصلاة والعبادات، هي التي فتحت الطريقَ أمامه ليُحْرِز هذا التقدم الكبير؛ وليرتحل عن دنياه الفانية إلى دار آخرته الباقية ورحمة ربّه الواسعة تاركاً أولاده أغنياء، لهم الأيدي العليا التي تنفق يمينًا وشمالاً، وتمتدّ إلى مساعدة كل محتاج وتحقيق كلّ عمل إسلاميّ بنّاء.
وظلّ رحمه الله منذ اليوم الأوّل دائمَ التواصل مع الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند ومشايخها وعلمائها، وجمعيّة علماء الهند وقادتها، ولاسيّما فضيلة الشيخ السيّد أسعد المدني رحمه الله (1334-1427هـ = 1928-2006م) وقد بايع في التزكية والإحسان الشيخ الكبير المحدث محمد زكريا بن يحيي الكاندهلوي رحمه الله تعالى (1315-1402هـ = 1897-1982م) ثم بعد وفاته بايع الشيخ أحمد علي الآسامي رحمه الله (1333-1421هـ = 1915-2000م) وقد أنجز الشيخ الحاج محمد أجمل علي مآثر خيرية عديدة بنفقته الخاصّة بما فيها مستشفى كبير بمدينة “هوجائي” سمّاه باسم والده الحاج عبد المجيد رحمه الله (Haji Abdul Majeed Memorial Hospital & Research Center) والمستشفى يسع 350 سريرًا للمرضى، وقد عاهد أبناؤه أنهم سيرفعونه إلى سعة 500 سرير إن شاء الله. كما أنشأوا على توجيه من أبيهم رواقين ذوي سكن مجهز بالتسهيلات أحدهما في مديرية “كوالبارا” ويسع 750 فردًا وثانيهما في مديرية “دبري” بولاية “آسام” ويسع 350 شخصًا. وذلك لإيواء الأطفال الذين ييتموا خلال الاضطرابات الطائفيّة بولاية “آسام”. كما أنشؤوا ضمن الأعمال الاجتماعيّة الخيريّة 12 مدرسة مخصصة للتعليم العصري باللغة الإنجليزيّة، كما عملوا على إقامة معاهد للتعليم الفنّي، وأقاموا مؤسسة “مركز المعارف” التي مقرها بـ”ممباي” وهي تنظم تعليم اللغة الإنجليزيّة على المستوى الراقي لخريجي الجامعات الإسلاميّة الأهليّة إلى جانب تعليم الكمبيوتر وإصدار مجلة شهريّة جامعة باللغة الإنجليزية.
وخلّف رحمه الله وراءه خمسة بنين: هم السادة أمير الدين أجمل، وفخر الدين أجمل، والشيخ بدرالدين أجمل القاسمي، وسراج الدين أجمل، ونذير الدين أجمل وبنتين، وكلّهم ذوو أولاد، ومشتغلون بتجارتهم الواسعة .
وابنه الشيخ بدرالدين أجمل القاسمي عضو نشيط في مجلس شورى الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند، وأخيرًا بدأ يقوم بنشاطات سياسيّة؛ حيث أسس حزبًا سياسيًّا باسم (Assam United democratic front) ، انطلق من ولاية “آسام” والآن توسّع نطاقُه، والنيّةُ مُتَّجهة إلى خوض الانتخابات العامّة الآتية المزمع عقدها في يونيو 2009م في معظم ولايات الهند ذات الأهميّة .
وقد أبدى على وفاته كثير من العلماء والقادة المسلمين حزنهم العميق وأسفهم البالغ، وقدّموا التعازي الحارّة إلى أولاده وأسرته، وعلى رأسهم رئيس الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن الذي أمر بإيقاف التعليم في الجامعة في الشوط المسائي في الحصّة السادسة، فاجتمع الأساتذة والطلاب على توجيه منه وتلوا القرآن الكريم ودعوا له رحمه الله بالمغفرة.
قد كان رجل الأعمال الحاج محمد أجمل علي الآسامي مثالاً يُحْتَدَىٰ للتاجر الأمين الصالح الذي حيزت له الثروة الطائلة إلى جانب أولاد صالحين وتوفيق للأعمال الصالحة، وتكريس ثروته وأمواله الفائضة لخدمة الدين، والتعليم الإسلامي، ومساعدة المدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة – ولاسيّما دارالعلوم/ ديوبند وجمعيّة علماء الهند – والإنفاق المتّصل على علاج المرضى، وعلى إسعاف المحتاجين واليتامى والأرامل وتزويج البنات المسلمات اللاتي لا وليّ لهن أو أولياؤهن فقراء. فقد أمر أولاده من بعده أن يرصدوا دائمًا مبلغًا يُعْتَدُّ به لهذه الأغراض النبيلة، وأن لايقصّروا في هذا الجانب المهمّ الذي يتّصل بالآخرة الباقية؛ لأنّ الدنيا مع كلّ زخارفها وزيناتها وتسهيلاتها زائلة. كما أوصاهم مُؤَكِّدًا أن يتبعوا سيرتَه في أداء الزكاة بحساب دقيق؛ لأن السرّ في بركة التجارة التي زَاوَلَها إنما يكمن في اهتمامه بأداء الزكاة إلى جانب عنايته بما قاله تعالى: “وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوْم” (الذاريات/19) وما قاله رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إنّ في المال لحقًّا سوى الزكاة” (أخرجه الترمذي عن فاطمة بنت قيس: الزكاة، باب ما جاء أن في المال لحقًّا سوى الزكاة، رقم الحديث 659).
* * *
في رمضان 1412هـ / فبراير 1992م كنتُ في جدّة نازلاً في السكن المُخَصَّص لمُوظَّفِي محلّه للعطور والعود الكائن في “مركز الفيصليّة” الشهير بمدينة “جدة” وكان السكن في الوقت نفسه مضيفًا للعلماء ولاسيّما المنتمين إلى جمعيّة علماء الهند أو دارالعلوم/ ديوبند لدى زيارتهم المملكة وقدومهم لجدة فمكة المكرمة لأداء العمرة أو الحجّ. وكنتُ راجعًا من مكة المكرمة بعدما كنتُ قد أدّيتُ العمرة وكنتُ أنوي التوجّه للمدينة المنوّرة للصلاة في المسجد النبوي والصلاة والسلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكانت لديّ تذكرة شاملة لكل من الرياض وجدة والمدينة المنورة ذهابًا وإيابًا ولدهلي قدومًا وعودة. وقد أخبرني الإخوة في المحلّ أن الشيخ الحاج محمد أجمل علي قادم من الهند اليوم، وسيتوجّه بعد يومين إلى المدينة المنورة لقضاء رمضان كلّه، وفعلاً قد قدم ومكث بالسكن، وتَعَرَّفَ عليَّ، فأخبرتُه بنيتي للتوجّه إلى المدينة المنورة، فألحّ عليَّ أن أركب معه السيَّارة إليها اليوم. قلتُ له: إنّ لي تذكرة وقد حجزت المقعد في الطيّارة اليومَ مُؤَكَّدًا. قال: اترك أمر التذكرة وركوب الطائرة، واركب معي السيّارة؛ لأنّها كبيرة مريحة وأستأنس بك في الرحلة، وتشاهد أنت المناظر بين جدة وتتذكر سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبه الذين يكونون ربما قد مضى بعضهم بهذه الصحراء الواسعة قيامًا بمهمة من المهمات، وتتعرف على الأماكن التي تمرّ بها بين جدة والمدينة. أما الطيارة فهي تُقِلُّك رأسًا إلى مطار المدينة، ولاتعرف شيئًا، ولا تستحضر أي ذكرى لذيذة من هذه الذكريات الجميلة التي يلذّها المؤمنون أكثر من أحلى حلوى في الكون.
على كل فصحبتُه في السيّارة إلى المدينة المنورة وكان معه عدد من الخدم وموظّفي محلّه في جدّة. وتذاكرنا وتبادلنا في الطريق كثيرًا من المعلومات الدينية والعامّة ووقائع “بدر” و”أحد” ودور عدد من الصحابة الذين استشهدوا فيهما، حتى وصلنا “قباء” وقد حان أذان المغرب. فدخلنا ذلك المسجد التاريخي العظيم الذي كان أول مسجد أسس على التقوى، وأفطرنا فيه مع المفطرين من الصائمين السعوديين والمقيمين، وأدينا صلاة المغرب ثم توجهنا إلى المدينة، وكان الإخوة قد حجزوا شقة مريحة للشيخ بجنب جنة البقيع في الجهة الشماليّة منها، وما إن استقرّ بنا المقام حتى استأذنّا الشيخ أن أقيم في مكان آخر مع بعض الإخوة الهنود الذين كانوا في انتظاري؛ حيث أخبرتُهم ببرنامج مقدمي بالتلفون، وقلت للشيخ: إن إقامتي في مكان آخر فيها راحة لي ولكم، لأنكم من أجل الشيخوخة لكم ترتيبات تختلف عن ترتيباتي أنا ولا أريد أن أشقّ عليكم في هذه المدينة النبوية الشريفة، التي إنما يأتيها المسلمون من بعيد، لكي يغتنموا كل ثانية من أوقات الليل والنهار، وينفقوها في الذكر والعبادة والتلاوة وإقرار العيون بما فيها من آثار وتأريخ وذكرى وعظمة وبركة؛ فسمح لي الشيخ على غصص منه قائلاً: إني كنت إخال أنك سترافقني في السكن والأكل والشرب ما دمتُ في المدينة؛ ولكنّ راحتي في راحتك .
وقد لمستُ فيه في الفرصة التي أمضيتُها معه في الطريق بين جدة والمدينة المنورة والتي أمضيتها في جدة، التواضعَ والتدينَ وحبَّ الله ورسوله والبساطةَ في العيش رغم ما أكرمه الله به من المال والثروة وكل نوع من وسائل الحياة، وحبَّه للعلماء وطلبة علوم الدين، وذكر الصالحين من الصحابة والتابعين والسلف الأبرار المتقين. ورغم السعة في الرزق التي أكرمه الله بها وجدتُه قليل الأماني، كبير الاهتمام بجانب الآخرة. وقلتُ في نفسي: إنّه توفيق خاصّ من الله، وإلاّ فإن السعة في الرزق ربما يبعث الإنسان على البطر والطغيان وحبّ السمعة الكاذبة والشهرة الزائفة، والتكلف في الحياة. جزاه الله خيرًا، وأكرم نزله في الجنة، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان، والاهتداء بهديه وانتهاج نهجه في اتّباع الدين .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1430 هـ = أبريل 2009 م ، العدد : 4 ، السنة : 33