الفكر الإسلامي
بقلم : الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ/1880م
رئيس الطائفة المؤسسة لجامعة ديوبند
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي
أستاذ بالجامعة الإسلامية : دارالعلوم ، ديوبند ، الهند
لايجب في استقبال الكعبة إصابة جدارها
بل إصابة جهتها:
الرابع: لا يشترط عند المسلمين في الصلاة إصابة جدران الكعبة ؛ فإن هدمت جدرانها – فرضًا – تقام الصلاة على جهة الكعبة كذلك؛ فقد كان هدمها عبد الله بن الزبير حتى قواعدها تجديدًا لبنائها، فجدد بناءها وفقاً لما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أحب. وخلال هذه المدة ما زال المسلمون يقيمون الصلاة كعادتهم.
فلو كان جدار الكعبة معبودًا و مسجودًا و مطلوبًا لأوقفت الصلاة في تلك الأيام. و أقصى ما فعلوا – لوفعلوا – قضوا ما فاتهم من الصلاة في هذه المدة بعد الانتهاء من بنائها.
وأما عبادة الآلهة فالمطلوب و المعبود و المسجود فيها هي الآلهة؛ لذلك إن أخرجت الآلهة من معبد إلى مكان تؤدى الطقوس الدينية كلها فيه، ويترك المكان الأول.
الخامس: أن المسلمين يطلقون على الكعبة بيت الله لا الله أو الإله، وبدهيٌّ أن رجلاً إذا ذهب إلى منزل فقَصْدُه ربُّ المنزل لا المنزل، وما يقوم به الرجل من آداب و تقاليد نحوالمنزل يعُدُّه كلُّ واحد من الناس لرب المنزل لا للمنزل.
فإذا حيّا أحد رجلاً جالسًا على سرير فالتحية للرجل لا للسرير، وهذا واضح غاية الوضوح، لا يشك فيه حتى سفيه أو مجنون. وهكذا اعتَبـِـرواالعبادة نحو الكعبة، ولا تستخرجوا فيها احتمالاً آخر عن عمد.
جملة القول أن لفظة “بيت الله” إذا أعمل العقل و الفهم في فهمها – تشير إلى أن المقصود هو رب البيت لا البيت. وأما عباد الأصنام فهم لا يعتقدون الأصنام بيت الله و لا كرسيه ولا سريره، وإنما يعتقدونها “مهاديو” و”فيشنو” (Vishnu) و”غنيش” (Ganesh)، و لما كان عباد الآلهة في الهند يعتقدونهم مستحقين للعبادة فالمقصود في عبادة الآلهة هو الآلهة.
المسلمون لا يعبدون الكعبة و إنما يعبدون ربها:
السادس: إنما يستحق العبادة عند المسلمين من كان موجودًا بذاته، وما سواه يحتاج إليه في وجوده و بقائه، مالكاً للنفع و الضرر، وغيره لايضره ولا ينفعه، ذاتي الكمال و الجمال و الجلال، وما سواه مستعار الكمال والجمال و الجلال. والموصوف بهذه الصفات – كما يشهد العقل و النقل – هو الذات الإلهية لا غير. ويعتقدون أن محمدًا أفضل الناس جميعًا بعدالله تعالى، لا يعادله رجل ولا ملك ، كما لايماثله العرش و الكرسي و لا الكبعة. رغم ذلك يعتقدونه محتاجاً إلى الله كل الاحتياج، لايملك أن يخلق ذرة أو يضر أحدًا مثقال حبة، فخالق الكون وما فيه هو الله تعالى لا محمد صلى الله عليه و سلم. فكلمة التوحيد التي عليها مناط الإيمان، و هي لا إله إلا الله محمد رسول الله، يقرون فيها بوحدانية الله وعبودية محمد صلى الله عليه و سلم ورسالته.
على هذا فالمسلمون لايعبدون إلا الله، ولو جاز أداء العبادة لغير الله لجاز لمحمد صلى الله عليه و سلم، إلا أنهم يعتقدونه عبدًا لامعبودًا، بل واعتبروا سبب أفضليته عبوديتَه الكاملة، فكيف تكون الكعبة معبودًا لهم و مسجودًا؟ وهل هذا إلااتهام أو جهل وقلة فهم؟!
للطاعة سببان:
عند عباد الآلهة بل عند معظم الهندوس أن الله تعالى لايستحق العبادة، وإنما يستحقها عندهم “مهاديو” و “فيشنو” و “برهما” لأنهم يعتقدون أن الله عاطل و عاجز و مكتوف اليد،و شؤون العالم كلها بيد “مهاديو” وهو مالك للنفع و الضرر و الخير و الشر. واضح أن العبادة عبارة عن الطاعة، وإنما تؤدى الطاعة للمطاع إما أملاً في نفعه و إما خوفًا من ضرره، فالموظفون يطيعون رؤساءهم أملاً في النفع، والمظلومون يطيعون من يستولي عليهم خوفًا من الضرر.
شبهة و الرد عليها:
أما طاعة المحب حبيبه، فهي وإن لم تكن كطاعة الموظفين أملاً في النفع أو المظلومين خوفًا من الضرر، غير أنا لما رأينا أن الأمل هو تمني حصول أمر مرغوب فيه و الخوف هوخشية زوال أمر مرغوب فيه فتعريف الطاعة ينطبق على طاعة المحبين كل الانطباق.
جملة القول أن مناط الطاعة على الأمل و الخوف، فعباد الآلهة بل معظم الهندوس يعلقون الأمل و الخوف – حسب معتقداتهم – بـ”مهاديو” و “فيشنو” ولا يعلقونهما بالله؛ فلزم أن يكون “مهاديو” مستحقًا للعبادة عندهم، و لايستحقها الله.
فعند المسلمين لاتستحق الكعبة العبادة، والآلهة المصطنعة تستحق العبادة عند الهندوس؛ لأنهم يرونهم “مهاديو” وغيرهم وفقاً لمعتقداتهم. على هذا فالكعبة ليست معبودًا و مسجودًا و إنما هي جهة السجود و العبادة. ولزم القول بكون الآلهة معبودًا و مسجودًا حسب معتقدات الهندوس. فبين استقبال الكعبة و عبادة الآلهة فرق شاسع و بون بعيد.
السابع: الفعل قديكون تابعاً لكيفية من كيفيات الفاعل وقديكون تابعاً لكيفية من كيفيات المفعول، فلما تأملنا في العلم و الحكم وجدنا أن العلم تابع للمعلوم والحكم تابع للحاكم.
الفرق بين العلم و الحكم:
معناه أن العالم ليس لرضاه واختياره مدخل في العلم، فالعلم يكون موافقًا للمعلوم، فإن كان مخالفاً له فليس بعلم حقيقة، وإنما هو علم اسميًّا. وأما الحكم ففيه مدخل لاختيار ورضا الحاكم، فيحكم ما يشاء، ولا مدخل للمحكوم فيه، بل يجب على المحكوم أن يخضع لحكم الحاكم و لايُعْمِل رضاه فيه، فإذا سمع الحكم أسرع إلى امتثاله دونما سؤال ونقاش، و رأى كأنه جاء الأجل و حم القضاء.
نعم! إذا كان الحكم مؤسسًا على علم وعقيدة تخالف الواقع فهذا الحكم – دونما شك – غواية من الشيطان، ولايخطر بالبال أنه حكم من أحكام الله، فيفتش عنه؛ لأن العلم تابع للمعلوم، وليس تابعاً للعالم كالحكم ، فيمتثله رغم كونه مخالفًا للواقع.
استقبال القبلة سببه الوحدة و التضامن:
على هذا فقد لزم امتثال الأمر في استقبال القبلة ألبتة، وإنما يجب التأكد من أنه أ هو أمر الله أم لا. لأن استقبال القبلة ليس مؤسسًا على عقيدة تخالف الواقع، بل هذا لايحتاج إلى عقيدة، وإنما يحتاج إلى أمر الله به؛ لأن معنى استقبال الكعبة لايعدو أن يؤدى القيام و الركوع والسجود في العبادة متوجهاً إليها، فهذا لايحتاج إلى عقيدة و إنمايحتاج إلى أمرالله به.
فلو كان عند المسلمين في استقبال الكعبة عبادتُها لوجب فيه الاعتقاد بأن الكعبة مستحقة للعبادة كعبادة الآلهة. غيرأن استقبال الكعبة – وفقاً لعقائد المسلمين – معناه أداء عبادة الله متوجهًا إليها. والسبب في تحديد هذه الجهة و إن كان في الحقيقة أنه مهبط الأنوار الإلهية – كما سنبين في الرد الثاني إن شاء الله – غير أنه يكفينا أن نقول: إن الله منزه عن الجهة والإنسان مقيد بها، فلو أمر الله الإنسان بأن يمارس العبادة البدنية منزهاً عن الجهة لكان تكليف ما لا يطاق، ولايرجى هذا الإعنات و المشقة نظرًا إلى رحمة الله وألطافه. ولو أمره أن يعبده متوجهاً إلى أي جهة شاء لأخل بالوحدة و التضامن.
ومن الواضح أن الائتلاف و التضامن في بني آدم لاسيما في أمور دينهم أمر مستحسن، حتى ولو ظفرنا بشكله وصولاً إلى حقيقته. ومثال ذلك أن نطلب الإنسانية في صورة إنسان، معناه أن الإنسانية توجد في صورة الإنسان لا في صورة الفرس و الحمار، كذلك الائتلاف و التضامن لايوجد إلا في صورته.
خلاصة القول أن الائتلاف و التضامن في أمور الدين أمرلازم، وإلا أدى الاختلاف فيها إلى القتل و سفك الدماء و الفساد العريض. و أما الائتلاف والتضامن فلايوجد إلا في صورته. فوجب الاتحاد في استقبال القبلة حفاظا على الائتلاف والتضامن.
وأما إذا شطبنا العبادة البدنية من الحساب فمثال ذلك كمثل رجل مملوء قلبه رحمةً و سخاءً غير أنه مغلول اليدين، ورجل يحمل بين جنبيه قلبًا شجاعاً ولايحرك يديه ورجليه إذا جد الجد و حزبه الأمر.
جملة القول أن العبادة البدنية لاتشطب من الحساب، ولايسمح لكل أحد من الناس أن ينفرد بقبلته، فحدد الله تعالى جهة، وأما الحكمة في تحديدها فهو أعلم بها وأما نحن فمأمورون لاغير.
فاستقبال الكعبة تكون فيها نية عبادة الله تعالى، وأما تحديد الله الجهة فدفعًا للحرج وحفاظاً على النظام، وليس فيه عبادة غير الله كالوثنية، حتى يصعب علينا أن نسميه أمر الله لكونه مبنياً على عقيدة تخالف الواقع.
وأما عبادة الأصنام والشمس والنار فيجب فيها الاعتقاد أولاً بأن هذه الأشياء تستحق العبادة وتملك النفع والضررو أنها ذات الاختيار المطلق.
فرق آخر بين استقبال الكعبة وعبادة الآلهة:
والسبب في ذلك أن الخضوع لأحد و التبعية له إنما يتم إما أملاً في النفع كأمل الشحاذين والموظفين من الأثرياء والرؤساء، وإما خوفاً من فوات المطلوب، كا لمظلومين والرعية يخافون الظالمين والحكام، ولولا هذان الأمران لما أطاع أحد غيره ولماخضع له.
وأما طاعة المحبوب فهي ترجع إلى الرضا والسخط؛ فرضا المحبوب من قبيل تحقيق الأمل، وسخطه من باب اليأس. ولما كان مناط الأمرعلى اختيار النفع و الضرر في باب الألوهية لزم أن نعترف بأن هذه الأشياء – الآلهة – تملك الوجود، وذلك لايتصورإلا إذا كان وجودها من صنع ذاتها، لامعارًا من غيرها، أي أن تكون هي خالقة لا مخلوقة.
وواضح أن هذا الاعتقاد عن غير الله يخالف الواقع كل المخالفة. إن التغيير والتبديل في مراتب الممكنات من صغار الأمورعام ومطرد، فمثلاً إذا أخبرنا عن حمار مكان إنسان فذلك لايعدو أننا وضعنا ممكنًا مخلوقاً مكان ممكن مخلوق. وأما إذا وضعنا مخلوقًا مكان خالق فقد وضعنا ممكنًا مكان واجب.
عبادة الأسماء لا عبادة الآلهة:
جملة القول أن هذا يخالف الواقع كل المخالفة. والطريف في عبادة الأصنام_علاوة على الاعتقاد المذكور – أنها – الأصنام التي هي ذات الاختيار المطلق لدى الهندوس – ليست مخلوقات، وإنما هي صور بل أسماء سموها. ونقول بنفس القول فيما إذا كانت الصور آلهة، فأصحاب هذه الصور من “مهاديو” وغيرهم كانوا معبودين لدى الهندوس لاعتقادهم بأنهم أصحاب الاختيار المطلق،و لم يكونوا معبودين لأنها صورلهم.
هذا إلى أن الأصنام التي تعبد اليوم ليست صورًا لهم، ولاندري كيف كانت تكون صورهم؟ أما الآن فهم يأخذون حجرًا طويلاً، ويسمونه “مهاديو” ويعبدونه، ولانستطيع أن نسمي ذلك عبادة للصورة، وإنما نسميه عبادة الاسم. وهذا يعني أن يعامل الاسم معاملة المسمى؛ فلايمنع سمي الأب من الاجتماع بالأم، وسمي الصهر من الاجتماع بالبنت أو الأخت.
شيء عن ” فيدا ” الكتاب المقدس لدى الهندوس:
فذلكة الكلام أن بين عبادة الآلهة و استقبال الكعبة من الفرق ما بين الأرض و السماء، فأين الثرى من الثريا؟ وأما عبادة غير الله فلن تكون مأمورًا بها من الله تعالى. على هذا فمن المؤكد أن “فيدا” الكتاب المقدس لدى الهندوس ليس كلام الله، أودخله التحريف على أيدي المزورين. ولكون “فيدا” كلام الله يتطلب أن يدعي “برهما” النبوة و أن يدعي أن “فيدا” كلام الله و أن يتناقله الرواة الثقات نقلاً متواترًا.
فإن هجس ببال أحد مثل هذا الهاجس عن القرآن، فيشك في أحكامه لاسيما استقبال الكعبة، أقول له: قد جاء في القرآن أنه كلام الله و أن محمدًا نبيه و رسوله. ثم إنه نقله آلاف من الحفظة في كل قرن نقلاً متواترًا.
* * *
بيان الملكية
اسم المطبوعـة : الـداعـي
الدورة النشرية : شهريـة
الطابع والناشر : ( مولانا ) مرغـوب الرحمن
الجنسيـــة : هنــدي
العنـــوان : دارالعلوم ، ديوبند ، يوبي
رئيس التحرير : نور عالم خليل الأميني
مالك المطبوعة : دارالعلوم ديوبند
أصادق على أن التفاصيل المـذكـورة أعلاه صحيحـة
حسب علمي واطلاعي
( توقيع )
(مولانا ) مرغوب الرحمن
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر – ربيع الأول 1430هـ = فبراير – مارس 2009م ، العـدد : 2-3 ، السنـة : 33