دور الصوفية الصالحين في مؤازرة السلطة ومقاومة الفساد

الفكر الإسلامي

 بقلم :   أ. د./ عبد الحليم عويس

كانت للمجاهد الصوفي (سهل التستري) جهود ضخمة ضد جماعات المبتدعة المارقين أدعياء الصلاح والزهد الذين يطلبون الدنيا – مع التظاهر بالزهد – من أخس الطرق، وأسوأ السبل، وقد أصدر كتابًا عنوانه: “المعارضة والرد على أهل البدع وأهل الدعاوي في الأحوال”(1).

       وقد وقف كثير من الزهاد في مواجهة موجات الفساد والمنكر والنفاق. وللتستري في كتابه (التراث الصوفي) كلام طيّب في هذه المجالات، ومنه قوله “واعلموا يقينًا أنكم لن تجدوا في زمانكم من عمل بعلمه إلا ما شاء الله، وكل من كان أكثر علمًا كان أسوأ حالاً”، قيل: وكيف ذلك؟ ولم صار هكذا؟ قال: “لأنهم صيروا علمهم مأكلة لحم، أو طلب رياسة، أو متاع الدنيا، أو رياءً وسمعةً، وتركوا الأمر الأول، وآثروا الدنيا على الآخرة”(2).

       ويقول التستري أيضًا: “سيكون في آخر الزمان العلماء ثلاثة أصناف: صنف منهم عرفوا المنكر فأنكروه بقلوبهم، وقوم منهم عرفوا المنكر فيهم فخالطوهم عليه، وقوم عرفوا المنكر فأنكروه بالعلم جهدهم، وهؤلاء أعز من الكبريت الأحمر(3).

       وقد كان الإمام الحسن البصري t إمامًا في باب تغيير المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد كان يفضل سياسة تغيير المنكر بأقل قدر ممكن من الخسائر؛ لأن درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة؛ فلهذا كان يقول للناس:

       “إن الحاكم الظالم إما أن يكون عقوبةً من الله، والعقوبة لا تُرَدّ بالثورة عليها، وإما أن تكون بلاءً يستأهل الصبر حتى يحكم الله”.

       وحين سنحت للحسن البصري الفرصة ليعظ الوالي ابن هبيرة نصحه بأحكم قول وأشجعه على خلاف مداراة صاحبيه في نصيحة ابن هبيرة وهما: ابن سيرين والشعبي. ومن الطريف أن ابن هبيرة أعطى الحسن أعطيةً أكثر من زميليه مع أنهما قالا له قولاً لينًا، فقال زميلاه تعليقًا على ذلك: سفسفنا له فسفسف لنا(4).

       وعلى خُطى الحسن البصري كان الفضيل بن عياض مع خلفاء بني العباس نصحًا وتوجيهًا.. وكان يقول: لو أن لي دعوةً مستجابةً ما صيرتها إلا في الإمام (يقصد أن في صلاح الإمام صلاحًا للعباد والبلاد).

       وحكايات الفضيل بن عياض مع هارون الرشيد عديدة ومتنوّعة، وعندما قال له هارون الرشيد: عظني، قال له الفضيل: ماذا أعظك؟ هذا كتاب الله بين الدفّتين: انظر ماذا عمل بمن أطاعه وماذا عمل بمن عصاه؟.. إني رأيت الناس يغوصون على النار غوصًا شديدًا ويطلبونها طلبًا حثيثًا.. أما والله لو طلبوا الجنة بمثلها أو أيسر لنالوها. فقال له هارون: عُدْ إليَّ، قال الفضيل: لو لم تبعث إليّ لما أتيتك وإن انتفعت بما سمعت منّى عدت إليك.. وقد قال له الرشيد يومًا: ما أزهدك فقال له الفضيل أنت أزهد مني فقال الرشيد وكيف ذلك قال الفضيل لأني أزهد في الدنيا، وأنت تزهد في الآخرة، الدنيا فانية والآخرة باقية(5).

       وقد كان (لذي النون المصري) مواقف أيام الخليفة المتوكل العباسي، كما كانت (لحاتم الأصم) مواقف أيام الرشيد أيضًا. وقد رفض (سهل التستري) أن يعالج الحاكم (ابن الصفار) حتى يرد كل مظلمة للناس عنده، ثم لما عالجه عرض عليه مالاً وثيابًا فلم يقبلهما(6).

       وقد كانت للإمام أبي حامد الغزالي مواقف رائعة في الثبات على الحق والجهر في وجه المنكر، دون أن يخشى في الله لومة لائم.. ومن ذلك نصحه لأحد ملوك خراسان؛ فقد قال له: يا أسفا! إن رقاب المسلمين كادت تسقط بالمصائب ورقاب خيلك كادت تسقط بالأطواق الذهبية. كما كتب الغزالي إلى أمير مدينة طوس بخراسان يقول له: “اعلم أن مدينة طوس أصبحت خرابًا بسبب المجاعات والظلم، وإن دعاء المدينة (طوس) مجرب بالخير والشر.. فاتّق الله”.

       وقد كانت للشيخ الجيلاني مواقف مع بعض الخلفاء، وعندما ولىّ الخليفة المقتفى قاضيًا ظالمًا قال له من فوق المنبر: “وليت على المسلمين أظلم الظالمين، ما جوابك عند رب العالمين أرحم الراحمين”.. فارتعد الخليفة وبكى وعزل القاضي الظالم”(7).

       وعلى الدرب نفسه من الجهاد بالكلمة والأمر بالمعروف، كان أبوالحسن الشاذلي، الذي كانت له مواقف مع السلاطين كثيرةً مشهورةً.

       وقد كان للصوفية في اليمن خلال القرنين السادس والسابع الهجريين أثرهم البالغ في تغيير نظام الحكم وأسلوبه.

       والمؤرخون يذكرون تلك الصداقة الوطيدة بين مؤسس الدولة الرسولية الملك المنصور بن عمر بن علي بن رسول (629-647هـ) وبين الفقيه الصوفي محمد بن أبي بكر الحكم (م: 617هـ) وصاحبه الصوفي محمد بن حسين الجليني (م: 621هـ)، ويقال إنهما اللذان قويا عزمه في الاستيلاء على الحكم بعد مشاهدتهما تعنّت نظام الحكم السابق وفساده، وبهذا تدين الدولة الرسولية للصوفية الصالحين في ظهورها(8).

       وأيًّا كان الأمر، فقد اجتهد كثير من الصوفية في تغيير الأحوال وتربية أنفسهم وذويهم، وفي الإصلاح الاجتماعي بالوسائل الحكيمة.. وقد وجدوا أن من بين منافذ التغيير الاجتماعي نصح الحكام وتوجيههم وهو أمر يتطلب صدقًا مع الله وشجاعةً لا يملكها إلا الزاهد في الدنيا(9).

       وقد كان الطابع الروحي بارزًا في فكر الفيلسوف المجدد والمؤسس الفكري والروحي لدولة باكستان (محمد إقبال) صاحب فلسفة الذات المسلمة.

       وقد عرف “إقبال” حقيقة الإنسان وقيمته فأراد أن يلقنه درس الإنسانية الحقة بما تنطوي عليه من جانب إلهي، وقد دعا الناس إلى أن يتخلقوا بأخلاق الله، وأن يكتسبوا صفاته حتى يُكتب لهم الخلود.. “وهنا تصبح العقبات والمشكلات في طريق الرقي الروحي للإنسان لا شيء، فلا الزمان ولا المكان ولا العلم المادي بأسره، ولا الشيطان نفسه بقادر على أن يثني الإنسان عن عزمه على الرقي الروحي الدائم وشوقه إلى الاتصال بالحقيقة الخالدة والوصول إلى الله(10).

       وكما يقول أستاذنا الإمام أبوالحسن الندوي: فقد تربّى إقبال في مدرستين إحداهما تقليدية هي مدرسة الشهادات، أما المدرسة الأخرى فهي مدرسة توجد في كل زمان، وهي أقدم مدرسة على وجه الأرض، إنها مدرسة داخلية تولد مع الإنسان فيحملها الإنسان معه في كل مكان هي مدرسة القلب والوجدان، وهي مدرسة تشرف عليها التربية الإلهية، وتمدها بالقوة الروحية(11)، ومعلمو هذه المدرسة يتمثلون في الإيمان والحب الجارف للرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن بما له من مآثر لا تُوجَد إلا فيه(12).

*  *  *

الهوامش :

  • نشرة الدكتور محمد كمال جعفر بالقاهرة، سنة 1981م.
  • سهل التستري: التراث الصوفي 2/93، القاهرة، 1986م، بتحقيق محمد كمال جعفر.
  • من التراث الصوفي 2/135.
  • انظر الحلية 2/149 نقلاً عن الدكتور أبي اليزيد العجمي (الأصول الفكرية للجانب الاجتماعي في التصوف الإسلامي) رسالة دكتوراه بدار العلوم ص 345، جامعة القاهرة .
  • ابن خلكان: وفيات الأعيان، ترجمة رقم 504.
  • د. أبو اليزيد العجمي الأصول الفكرية للجانب الاجتماعي في التصوف الإسلامي (رسالة دكتوراه) ص 251.
  • المرجع السابق ص 350.
  • المرجع السابق، ص 355.
  • أبو اليزيد العجمي: الأصول الفكرية للجانب الاجتماعي في التصوف الإسلامي (رسالة دكتوراه بدارالعلوم ص 35.
  • د. محمد السعيد جمال الدين: رسالة الخلود لإقبال، المقدمة. وانظر د. أبواليزيد العجمي: مجلة المسلم المعاصر، عدد 33، الكويت، دراسة عن الزهاد المسلمين .
  • روائع إقبال ص 25، وما بعدها، ط الكويت، 1978م.
  • المكان السابق.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند .  صفر – ربيع الأول 1430هـ = فبراير – مارس  2009م ، العـدد : 2-3  ، السنـة : 33

Related Posts